في ديسمبر 1948، أقدمت الجمعية العمومية لحقوق الإنسان التابعة لــ الأمم المتحدة على تحديد المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان بعد اعتمادها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتبر حينها ميثاقا عاما يُحدد المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان بغض النظر عن انتماءه أو خلفيته الثقافية أو الدينية. إصدار هذا الإعلان من الممكن اعتباره انطلاقة دولية متحدة نحو تبني مبادئ محددة وثابتة للحقوق، تُعمم على كافة دول العالم، وليس فقط على دول ما بعينها. تبع صدور هذا الإعلان لاحقا العديد من الاتفاقيات والعهود الدولية، التي كرسّت لفكرة الانتصار لحقوق الإنسان، تضمنت هذه الاتفاقيات في مجملها تفاصيل أكثر عملية عن نوع الحقوق وآلية دمجها مع القوانين المحلية للبلدان.
من الأمثلة على هذه الاتفاقيات والعهود: العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة وغيرها من الاتفاقيات. كذلك ومن أجل ضمان مسار قانوني دولي آمن يضمن تطبيق هذه الحقوق، عملت الأمم المتحدة على تبني آلية توقيع ومصادقة الدول على هذه الاتفاقيات، وهو ما يمكن المجتمع الدولي، إلى جانب المنظمات الغير رسمية إلى استجواب هذه الدول بين فترة وأخرى حسب المدة الزمنية المحددة من قبل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وهو ما يعرف بـ الاستعراض الدوري الشامل.
ولكن التحديات التي يواجهها المجتمع الدولي فيما يتعلق بحقوق الإنسان بدأت في التنامي أكثر وأكثر، فرغم انحصارها سابقا ولو جزئيا بفكرة امتناع الدول المستبدة أو ذات الأنظمة الثيوقراطية عن تبني هذه الحقوق أو الأفكار الناتجة عنها، توسعت إلى صورة أكثر تعقيدا، خاصة فيما يتعلق في الجانبين: الفردي والاجتماعي. وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول ما إذا كان يجب اعتبار حقوق الإنسان استحقاق خاص بكل فرد، أم أن للمجتمعات في صورتها الشمولية لها الحق كذلك في فرض نمط محدد من خلاله يحق لهذه المجتمعات تبني بعض المبادئ وتجاهل أخرى.
وإن كانت فكرة عالمية الحقوق التي قدمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات والعهود الدولية اللاحقة، ركزت على فكرة طبيعية الحقوق لأي فرد بناء على إنسانيتهم، مشددة في الوقت ذاته على كمالية هذه الحقوق وعدم القبول بتجزأتها أو التنازل عنها. إلا أنه وفي المقابل، نشأت فكرة النسبية الثقافية، التي فرضت مفهوما مغايرا قائما على فكرة محدودية الحقوق ضمن السياق الثقافي، وضرورة احترام التنوع الثقافي القائم على حق كل مجتمع إلى تحديد هذه الحقوق وفق عاداته وتقاليده وقيمه. وهو ما يعني من جهة أخرى، أن هناك مبرر “أخلاقي” حسب مفهوم المجتمعات لأي حالة انتهاك حقوقية ضد الأفراد أو الجماعات، مصدرها قيم المجتمع وعاداته وتقاليده، أو حتى الدين!
لا يمكن تجاهل فكرة الحرج المفاهيمي، إن صح وصفي لها، الذي يلاحق عالمية الحقوق كتهمة كلما تعلق الأمر بحقوق الأفراد، لكنه كذلك، واستنادا على المبادئ التي قدمها على سبيل المثال العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والإجتماعية والثقافية، فإن عالمية الحقوق هذه لم تأتي للقضاء على التنوع الثقافي، بل كرست مفهوم هذا التنوع، وهو ما يمكن استنباطه من المادة الأولى لهذا العهد أو حتى في المادة الأولى من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. ولكن، ما يمكن استخلاصه من هذا الجدل، الذي أدى إلى وجود هذا الحرج المفاهيمي، هو الرغبة الدائمة لدى الحكومات المستبدة والمجتمعات المتشددة، سواء دينيا أو ثقافيا، إلى كبح جماح أفرادها من حريات متعددة، على سبيل المثال لا الحصر، حريات مثل التعبير والمعتقد، والتي عادة ما تُلزم الدول وكذلك المجتمعات، إلى وجود حريات إعلامية وسياسية ومجتمع مدني فاعل في وجه الحكومات ومؤسساتها الرسمية، بالإضافة إلى وجود مناخ مجتمعي متناغم يضمن التنوع الثقافي والديني واللاديني كذلك. أي في سياق آخر، قبول واحتضان المجتمعات لهذا التنوع الثقافي والفردي.
ولعله من الإنصاف هنا، وحين التركيز مثلا على الانتهاكات الحقوقية في العديد من البلدان التي تتميز بالطابع السلطوي وحتى الشمولي، فإننا سنجد أن طبيعة هذه الانتهاكات تنحصر حول المطالبة بالحقوق السياسية ومحاسبة سلطات البلدان والمشاركة السياسية. كما أنه وعادة ما تحرص هذه الأنظمة كذلك على نمطين في ممارسة استبدادها، إن لم يكن أكثر من ذلك، تعزيز وتقوية الجانب الديني – عادة ما يكون مذهبي- وكذلك الجانب القومي. ففي الجانب الديني، تجد السلطات المستبدة فيه سبيلا إلى قمع أي حراك مرتبط بالحريات الدينية، كما يسهل عليها كذلك ربط بعض الحراك أو المطالبات الحقوقية بهذا الجانب، مثل الخروج على وليّ الأمر على سبيل المثال، أو تكفير الأفكار المرتبطة بالديمقراطية والتعددية. وربط المثال بالمذهبية هنا، هو محاولة إلى وصف تعامل بعض السلطات إلى كبح جماح أي حراك فكري وثقافي منبعه مذهبا دينيا غير المذهب الرسمي لسلطات البلد، وإن كان في الغالب أن السلطات المستبدة عمياء فيما يتعلق في أي حراك يهدد سلطتها.
أما على الجانب القومي، فهو الجانب الذي عادة ما تنجح السلطات المستبدة من خلاله إلى دغدغة مشاعر العامة حول المفهوم الثقافي والإرث التاريخي، وتقديم الأفكار أو المبادئ الحقوقية على أنها السموم التي يتم بثها من أجل القضاء على هذا الإرث. وهي أفكار وجدت لها تأييدا واسعا إن صح القول، من شريحة واسعة تنتهج الخطاب القومي مبررا لها في مهاجمة أي فكر حقوقي أو ممارسة للحريات المستحقة، وتقديمها على أنها أفكار الهدف منها “غربنة” المجتمعات وسلخه من هويته.
ما لا يمكن تجاهله حقا، هو أن السلطات المستبدة لا تعطي أي اهتمام للحريات الفردية طالما ذلك لا يمس أو يهدد سلطتها. بل من الممكن جدا أن تعمل هذه السلطات أحيانا على تأمين هذه الحريات وحمايتها. وهو ما يمكن فهمه من خلال النظر إلى حقوق المرأة على سبيل المثال، أو حتى حقوق مجتمع الميم. فبالرغم من وجود قوانين مجحفة بحق المرأة، فيما يتعلق على سبيل المثال بحق الطلاق، والوصاية وكذلك نقل الجنسية، إلا أنك تجد أن هناك نسبة كبيرة أو الغالبية من النساء تدافع عن هذه الأنظمة وتبرر للقوانين المجحفة بحقها، وذلك نتيجة لسياسة السلطات المستبدة التي اتبعتها عبر توفير مناخ محدود من الحرية أتاحته للمرأة يتعلق في العمل وحرية التنقل والمشاركة في الانتخابات الصورية للمجالس البلدية أو المؤسسات التشريعية، كناخب أو منتخب، وكذلك الإغراء بالمناصب الرسمية العليا مثل المناصب الوزارية أو العضويات في المؤسسات العليا للدولة.
المثال أعلاه لا ينحصر فقط على المرأة، بل حتى على المثقف. فــ المثقف في البلدان المستبدة، أو غالبيتهم، هم من أكثر المدافعين عن هذه الأنظمة، وأسوأ مثال على هكذا نوع من المثقفين، المثقف الذي يكون بالمرصاد لأي نوع من الحريات، مبررا هذا الهجوم على أن المجتمعات غير مؤهلة أو غير جاهزة للتحول الديمقراطي أو ممارسة أي نوع من الحريات، لأنها بالتأكيد سوف تستخدم هذه الممارسة في قمع المختلف من أجل إيجاد مجتمع شمولي. وهذا التبرير وإن صح أو تطابق مع واقع الكثير من البلدان للأسف، إلا أنه لا يجب أبدا أن يتم استخدامه كذريعة للدفاع عن استبداد السلطة وحرمان المجتمعات من كينونتها المدنية، والاكتفاء بما تحدده السلطات من دور للمشاركة المجتمعية، والذي عادة ما يتم تأطيره بقوانين وسياسات تخدم النهج العام للدولة فقط.
النقاش أعلاه بالطبع لا يجب تعميمه على الحالة العامة لفكرة المقال، الحرج المفاهيمي لتطبيق الحقوق الدولية أو الكونية. ولكن بالإمكان استخدام النقاش المقدم كمثال على أحد الأمثلة التي تتذرع بها الدول أو حتى المجتمعات في محاربة الحقوق، وتقديمها على أنها الشيطان “الغربي” الذي يتم به محاربة الدين أو العادات والتقاليد والقيم. وهو ما نتج عنه، وليس بالضرورة، إلى شيطنة المنظمات الغير رسمية/حكومية، خاصة الناشطة حقوقيا أو سياسيا، وتقدميها على أنها سرطان “الغرب” المزروع في جسد الأمم من أجل هدم قيمه وثوابته. بل تجاوز الأمر كذلك في أمثلة مغايرة، إلى تبرير مثقفين لسلطات بلدانهم السياسات الاقتصادية القاسية على الفقراء بحجة النهوض باقتصاد البلدان، والذي عادة لا ينهض أبدا بل يخدم أجندات رجال اقتصاد معظمهم إن لم يكونوا من السلطة، فهم من المقربين لها.
مما لا شك فيه، أن المقياس الحقيقي لحرية المجتمعات ينطلق من حرية أفراده، فإذا توفر المناخ الصحي للأفراد في الانسلاخ من الهويات المحددة لهم مسبقا من مجتمعاتهم، وتكوين هوية خاصة بهم، يعني أن المجتمع نفسه قادر على التغيير والتطوير، وقادر كذلك على خلق مناخ متعدد ومتنوع. لذلك، فإن استهداف السلطات المستبدة غالبا ما يكون للأفراد وليس الجماعات. فطالما أتيحت لك الفرصة سواء باسم القانون أو الدين أو العادات والتقاليد، إلى القضاء على أي نشاط حقوقي أو فكري، يعني القدرة على استئصال هذه الأفكار قبل نشوء إمكانية قبولها.