صاحب صعود “محمد بن سلمان” إلى منصب ولي العهد إصلاحات تدريجية خصوصا فيما يتعلق بحقوق المرأة وشمل ذلك منحها الحق في قيادة السيارات، ودخول الملاعب وحضور فعاليات الترفيه، وغيرها.
وبدلا من أن تدفع هذه الإصلاحات المواطنين السعوديين للبقاء في المملكة، تزايدت على العكس من ذلك وتيرة هروب السعوديين من البلاد ولجوئهم إلى دول غربية وفقا لأرقام رسمية.
ويرجع تدفق السعوديين إلى الهجرة خارج المملكة إلى القمع غير المسبوق الذي تمارسه السلطات بحق المعارضين السياسيين وأصحاب الآراء، ومخاوف هؤلاء المعارضين من التنكيل بهم خاصة منذ واقعة اغتيال الكاتب الصحفي “جمال خاشقجي” على يد عملاء سعوديين في قتصلية بلاده في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
أرقام غير مسبوقة
وبحسب أرقام رسمية صادرة من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن عدد اللاجئين السعوديين لم يتجاوز في عام 1993 سبعة أشخاص.
غير أن هذا الرقم قفز بنسبة كبيرة مع بداية 2015، ليصل إلى 1150 سعوديا وسعودية، فيما وصل عدد اللاجئين وطالبي اللجوء السعوديين في عام 2017 إلى 2392 حالة.
وفى مارس/آذار 2017 كشفت صحيفة “إيكونوميست” البريطانية أن نحو 1000 سعودية تغادر المملكة سنويا هربا من القوانين القاسية التي تميز بين الرجل والمرأة، التي جرى تعديل بعضها في وقت لاحق.
وفى أغسطس/آب الماضي، أظهرت بيانات رسمية، صادرة عن المكتب الأوروبي لدعم اللجوء أن عدد المواطنين السعوديين الذي تقدموا بطلبات لجوء لدول الاتحاد الأوروبي ارتفع بنسبة 106% خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2019 وحده.
وأشارت البيانات إلى أن 101 سعودي تقدموا بطلبات لجوء إلى الاتحاد الأوروبي خلال النصف الأول من هذا العام، مقارنة بـ 49 سعوديا في نفس الفترة من العام الماضي.
استبداد متزايد وإصلاحات زائفة
تكشف هذه الأرقام غير المسبوقة لطالبي اللجوء في المملكة عن زيف الإصلاحات التي يقوم بها ولي العهد “محمد بن سلمان” في البلاد وفقا للعديد من المراقبين.
فمنذ صعود “محمد بن سلمان” في هرم السلطة في المملكة، سادت أجواء استبدادية متزايدة وأصبح نهج البلاد أكثر صرامة في التعامل مع الناشطين والمعارضين، وشهدت الرياض أدنى نسبة تسامح مع انتقادات الحكومة وسياستها.
ولا يكاد يخلو شهر دون ظهور تقارير عن احتجاز وتعذيب ناشطين أو ناشطات نسويات أو علماء دين داخل السجون السعودية.
بل حتى إن المنشقين الذين يعيشون في الخارج لم يكونوا بعيدين عن القبضة المحكمة للمملكة، وتتم ملاحقتهم إما بالتهديدات أو البرمجيات الخبيثة أو بالقتل كما حدث مع الصحفي “جمال خاشقجي”.
وفي هذا الصدد قال “مايكل بيج”، نائب مديرة قسم الشرق الأوسط لدى “هيومن رايتس ووتش”: “أنشأ محمد بن سلمان قطاعا للترفيه وسمح للمرأة بالسفر والقيادة.. لكن السلطات السعودية حبست العديد من المفكرين والناشطين البارزين الإصلاحيين في المملكة خلال ولايته، والذين دعا بعضهم إلى تطبيق هذه الإصلاحات نفسها”.
وأضاف: “إذا كانت السعودية تسعى إلى إصلاحات حقيقية، فعليها ألا تعرّض أبرز ناشطيها إلى المضايقة، والاحتجاز، وسوء المعاملة”.
وأوضح “بيج” أن قرار الفتاة السعودية “رهف القنون” بالفرار من المملكة وبحثها عن الحرية أظهر مجموعة من الممارسات والسياسات التمييزية التي تضعف المرأة السعودية وتبقيها عرضة للإيذاء.
وذكر “أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يريد أن ينظر إليه باعتباره مصلحا لحقوق المرأة، لكن رهف القنون أظهرت أن تصرفاته مثيرة للسخرية، حين تُطارَد السلطات النساء الهاربات”.
أسباب متعددة
وفي تصريحات سابقة لـ”شبكة سي إن إن” الأمريكية قالت لاجئة سعودية عرفت نفسها باسم “نورة”، إنها تلعب دورا في تسهيل لجوء فتيات سعوديات، آخرهن “رهف القنون” التي وصلت إلى كندا في وقت سابق العام الماضي.
وأكدت “نورة” إن “فكرة اللجوء أصبحت شائعة بين السعوديين في الفترة الأخيرة”.
ونقلت “سي إن إن” عن ناشطين ومحللين تأكيدهم أن “طلبات اللجوء تضاعفت في أوساط السعوديين بعد حملة القمع التي شنها ولي العهد في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 واستهدفت أمراء ورجال أعمال ومفكرين وناشطات في مجال حقوق الإنسان ومجال الدفاع عن حقوق المرأة”.
وأرجع “روبرت ماسون”، أستاذ مشارك ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة الأمريكية في القاهرة أسباب هروب السعوديين إلى “الخوف من التعرض للاضطهاد، والانتقام منهم بسبب نشاطهم السياسي، أو الافتقار إلى الاستقلال الشخصي”.
وأضاف هذه الأسباب السابقة دفعت عددا صغيرا نسبيا، ولكنه متزايد من طلاب الجامعات السعودية، والأمراء، والإسلاميين، والفتيات المراهقات للفرار من المملكة.
وبجانب الخوف من التعرض والاستبداد، يعد العنف الأسري على رأس الأسباب التي تدفع السعوديات إلى الهروب، حيث رصدت وزارة العمل والتنمية الاجتماعية 8016 حالة من حالات الإيذاء الجسدي والنفسي في المملكة خلال العام 2015.
وبحسب مجلة “إيكونوميست” البريطانية، فإن طلبات اللجوء التي تسجلها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لا تعكس الحقيقة كاملة، إذ إن طلب اللجوء خطوة لا يجرؤ على اتخاذها الكثير من السعوديين غير الراضين عن أوضاعهم أو الأوضاع داخل المملكة.
رحلة محفوفة بالمخاطر
وفيما تتصدر جدة والمدينة، قائمة المناطق التي يفر منها السعوديات من ذويهم وفق إحصائية أعدتها وزارة العمل والتنمية الاجتماعية بالسعودية، تأتي كوريا الجنوبية وجورجيا والسويد وتركيا كوجهات لمحاولات هروب للسعوديات.
بينما تتركز غالبية طلبات اللجوء في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا وبريطانيا وألمانيا.
وفي هذا الصدد قال “ماسون”، “يبحث السعوديون بشكل أساسي عن اللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوروبا التي تتمتع بامتيازات سخية، وقوانين لجوء ليبرالية”.
ووثقت العديد من السعوديات تلقيهن تهديدات بالقتل من قبل عوائلهن، بعد نجاح محاولتهن بالفرار من السعودية، كما تلعب الحكومة دورا في هذا الصدد بالتجسس على الهاربات وتهديديهن.
وفي هذا الصدد نقلت “دويتشه فيله” شهادات لبعض السعوديات، ممن قال إنهن هربن إلى ألمانيا طلبًا للجوء، ويتعرضن بشكل مستمر للتهديد من قبل عائلاتهن.
واتهمت اللاجئات السعوديات، السفارة السعودية بتهديدهن وتسليط نساء عربيات للتجسس عليهن في مراكز إيواء اللاجئين.
الشتات السعودي
ويبدو أن الصحفي “جمال خاشقجي” كان أول من تنبه لظاهرة تزايد عدد الهاربين من السعودية بسبب قمع “بن سلمان”، متسائلا عن إمكانية ظهور مجتمع شتات سعودي وذلك في مقال له في عام 2017 حمل عنوان “السعودية لم تكن قمعية إلى هذا الحد.. الآن أصبحت لا تطاق”.
وفي معرض حديثه عن ممارسات ولي العهد القمعية قال “خاشقجي”: “أتألم عندما أتحدث مع أصدقاء سعوديين في إسطنبول ولندن يعيشون أيضًا في منفى اختياري، ثمة 7 على الأقل منّا”.
وبعد مرور أشهر على وفاة “خاشقجي” كتبت الناشطة “منال الشريف” مقالا في “واشنطن بوست”، نوهت فيه إلى تزايد أعداد السعوديين الذين اختاروا المنفى بسبب قمع “بن سلمان”.
وقالت الكاتبة إن “الشتات السعودي للمعارضين السياسيين ينمو باضطراد منذ صعود ولي العهد السعودي”.
وأضافت أن مقتل “خاشقجي” خلّف فجوة “يجب علينا نحن السعوديين في المنفى سدها”، وأضافت قائلة: “آمل أن نتمكن من التجمع ونقف متحدين ضد الظلم الذي نراه في أرض الوطن”.
ويري مراقبون أن النظام السعودي يخشى أن يشجع المنفيون الذين يحصلون على حق اللجوء الآخرين على الفرار، ويعد أسوأ كابوس له هو أن تتشكل كتلة حرجة من المنشقين في الخارج خاصة من الشخصيات البارزة والمفصلية.
ويشهد اغتيال “خاشقجي” على عدم تسامح المملكة مطلقا مع هذه الأصوات الناقدة في الخارج حيث يتم معاملتها ليس فقط كإزعاج ولكن كتهديد للأمن القومي.
وكلما وصل المنفيون إلى أراضي أفضل حلفاء ولي العهد وأنصاره، ضغطت الرياض على الحكومات المضيفة للتقليل من أعدادهم وحرمانهم من اللجوء.
في السياق ذاته، أطلق الأمير السعودي المنشق “خالد بن فرحان آل سعود” حركة معارضة تحت مسمى “حركة حرية شعب شبه الجزيرة العربية” تدعو إلى تغيير النظام في السعودية، وتتكفل بحماية المعارضين الفارين من النظام بعد مقتل الصحفي “جمال خاشقجي” على أيدي مسؤولين العام الماضي.
وأوضح الأمير “خالد”، المقيم في ألمانيا، أنه يسعى إلى قيام ملكية دستورية في السعودية، وإجراء انتخابات لتعيين رئيس وزراء وحكومة من أجل محاربة الانتهاكات المزمنة لحقوق الإنسان والظلم في البلاد.
ووفق تقرير أوردته مجلة “فورين آفيرز ” فحتى بعد الغضب العالمي الذي أعقب مقتل “خاشقجي”، لا يزال القمع السعودي عنيفًا وما زال “بن سلمان” يصنع الأعداء.
ولفت التقرير النظر أن “بن سلمان” لن يكون قادرًا على شراء المعارضين في الخارج أو تخويفهم أو القضاء عليهم جميعًا، وسيستمر الشتات في النمو، لكنه قد يحاول وقفه، من خلال منع الناشطين والمعارضين من السفر، مستلهما النصيحة الشهيرة بإبقاء أصدقائه قريبين وأعدائه أقرب.