مع عودة الروح إلى شرايين الاقتصاد العالمي إثر تخفيف غالبية الدول قيود جائحة فيروس كورونا، شهد العالم صراعا اقتصاديا سياسيا محوره النفط، بين الدول المصدرة في طليعتها السعودية، والدول الصناعية الأكثر استهلاكا وعلى رأسها الولايات المتحدة.
إذ ترغب واشنطن في زيادة حجم إنتاج النفط، للحد من ارتفاع الأسعار، في حين ترفض الرياض التي تقود منظمة “أوبك” (تجمع مصدري النفط) التجاوب مع المساعي الأميركية.
هذا الصراع الذي يرتدي لباسا اقتصاديا يخفي في طياته صراعا سياسيا بين واشنطن والرياض، بدأت تظهر ملامحه منذ وصول الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2021، بعد شهر عسل دام أربع سنوات طيلة عهد سلفه الجمهوري دونالد ترامب.
فالرئيس بايدن لم يتحدث مع العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز سوى مرة واحدة فقط، ولا يزال يرفض التحدث مع ولي عهده محمد بن سلمان، بسبب موقفه منه لدوره في مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018.
بيد أن هذا الصراع انعكس في الداخل الأميركي، حيث يواجه بايدن أعلى نسب التضخم منذ ثلاثين عاما، الأمر الذي أدى إلى تهاوي شعبيته بشكل سريع، بحيث بات يُخشى على حزبه الخسارة في الانتخابات النصفية المقبلة في الكونغرس.
لذلك اتخذ بايدن قرارا يحمل دلالات خطيرة للغاية، يتمثل في السماح باستخدام 50 مليون برميل من الاحتياطي الإستراتيجي الأميركي، في محاولة منه للجم ارتفاع أسعار النفط، وحض الصين والدول الصناعية الأخرى على أن تحذو حذوه.
رحلة الأسعار
يخضع سعر النفط لتأثيرات العرض والطلب مثل باقي السلع، فعندما تزداد الكمية المعروضة يتراجع السعر العالمي، ويرتفع عندما يزداد الطلب عليه، ومنذ حوالي ثماني سنوات، تشهد أسعار النفط تقلبات حادة صعودا وهبوطا.
وفي تقرير نشره موقع “الخليج أونلاين” تحت عنوان “تسلسل زمني.. ما أبرز محطات أسعار النفط التاريخية”، في 27 سبتمبر/أيلول 2021، يلخص التحولات التاريخية لأسعار النفط منذ قرن تقريبا، ويظهر التفاوت الكبير فيها خلال السنوات الثماني الأخيرة على الشكل التالي:
بعد الارتفاعات التي شهدتها أسعار النفط في الفترة ما بين 2011– 2014 تأثرا بالربيع العربي والتطورات المرتبطة به، بدأت الأسعار في الانخفاض.
في يوليو/تموز من العام 2014، انهارت أسعار النفط بسبب انتعاش الإنتاج النفطي الأميركي، حيث انخفض سعر نفط برنت الخام من 115 دولارا إلى 53 دولارا مع نهاية العام، ثم إلى أقل من 30 دولارا في عام 2015، ووصل مطلع عام 2016 إلى حدود 27 دولارا وهو أدنى مستوى منذ 12 عاما.
وفي ديسمبر/ كانون أول 2016، اتفق الأعضاء في “أوبك” بقيادة السعودية، ومنتجين مستقلين تقودهم روسيا (أوبك+) على تنفيذ خطة لخفض إنتاج النفط الخام بنحو 1.8 مليون برميل اعتبارا من مطلع عام 2017.
وعلى وقع هذا الاتفاق الذي وصف بـ”التاريخي”، بدأت أسعار النفط تسجل ارتفاعا تدريجيا، وبلغت 65 دولارا للبرميل نهاية عام 2017.
وبعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران وتأثّر إمدادات النفط العالمية، سجلت الأسعار ارتفاعات متتالية، لتصل نهاية عام 2018 إلى 86 دولارا للبرميل.
ثم عاودت الأسعار الهبوط عام 2019 مع زيادة المعروض من الإنتاج الأميركي، بالتزامن مع انكماش الاقتصاد العالمي، ووصلت إلى حدود 65 دولارا مع نهاية عام 2019.
هوى الطلب العالمي على النفط بسبب توقف المصانع والأنشطة الاقتصادية وإجراءات الحجر في المنازل بعد تفشي فيروس كورونا، ما أدى إلى زيادة المعروض من النفط.
وفي سبتمبر/أيلول 2021، صعدت أسعار النفط صوب 80 دولارا لبرميل خام برنت، بسبب زيادة الطلب على الخام من جانب الأسواق الأوروبية، التي تشهد زيادات حادة في أسعار الغاز الطبيعي، ما دفعها صوب النفط الخام كبديل عن الغاز الطبيعي.
وتلعب أزمة النقص في إمدادات الغاز الطبيعي في القارة الأوروبية دورا مهما في زيادة الطلب على النفط وبالتالي ارتفاع أسعاره.
وكان أمين الناصر، الرئيس التنفيذي لشركة “أرامكو” السعودية، أكبر شركة نفط في العالم، صرح في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2021، في مقابلة مع مؤسسة “إنرجي إنتليجنس” العالمية على هامش مؤتمر للطاقة، ونشرها موقع “سي إن إن”، أن أزمة إمدادات الغاز في أوروبا عززت الطلب على النفط بحوالي 500 ألف برميل يوميا.
الجبهة النفطية
هل أعلنت الولايات المتحدة الأميركية حربا نفطية؟ يطرح هذا السؤال اليوم مع القرار التاريخي لبايدن، بالسماح باستخدام 50 مليون برميل من الاحتياطي الإستراتيجي النفطي، في محاولة منه لكبح جماح أسعار النفط، عبر التخفيف من الطلب الأميركي المرتفع على النفط الخام.
وبالتزامن مع هذا القرار، طلب الرئيس الأميركي من الدول الأكثر استهلاكا للنفط أن تقوم بالخطوة عينها.
ووفق تقرير نشرته “TRT عربي” تحت عنوان “تأسس لمواجهة سلاح النفط العربي.. تعرف على احتياطي النفط الإستراتيجي الأميركي” في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، فإن الولايات المتحدة بدأت تكوين احتياطي نفطي إستراتيجي عام 1975، بعد أن أدى حظر النفط العربي إلى ارتفاع أسعار البنزين، وألحق أضرارا هائلة بالاقتصاد الاميركي.
وتمتلك أميركا أكبر إمدادات طوارئ معروفة في العالم، إذ تبلغ سعة خزاناتها الأرضية في لويزيانا وتكساس 714 مليون برميل (113.5 مليون متر مكعب).
ولجأ بعض رؤساء الولايات المتحدة إلى السحب من هذا الاحتياطي لتهدئة أسواق النفط، خلال أوقات الحروب، أو عند حدوث أعاصير تسببت في تعطيل البنية التحتية النفطية
ويشير التقرير إلى أن المخزون النفطي الإستراتيجي في أميركا بلغ في 4 سبتمبر/أيلول 2021 نحو 621.3 مليون برميل، أي ما يعادل نحو 31 يوما من النفط بمستويات الاستهلاك اليومي لعام 2019 البالغة 20.54 مليون برميل يوميا، لكن الحد الأقصى لإجمالي قدرة السحب من الاحتياطي هو 4.4 مليون برميل يوميا، لذلك سيستغرق استخدام المخزون بالكامل نحو 145 يوما.
وفي تقرير آخر نشرته صحيفة “العربي الجديد”، تحت عنوان “أميركا تدرس حظر صادراتها النفطية: تجربة 40 عاما بدأت بالصراع العربي الإسرائيلي”، في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، جاء أن قرار بايدن أتى بالتنسيق مع دول أخرى لمواجهة منظمة “أوبك” التي تتحكم بالإنتاج الدولي للنفط وبالتالي الأسعار.
ويشير التقرير إلى أن جبهة المخزون الإستراتيجي تضم أكبر الدول استيرادا للنفط في العالم، أي الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وبريطانيا، إضافة إلى أميركا في مواجهة الدول المنتجة.
وتقوم الخطة على استخدام المتوافر من النفط محليا لخفض الاستيراد، الأمر الكفيل بتخفيض الطلب على النفط من الدول المنتجة، وتراجع الطلب مقابل غزارة المعروض يؤدي حتما إلى تراجع الأسعار.
بيد أن الأمر لا يقف عند هذه الخطوة، فثمة ورقة أخرى قد تلعبها الإدارة الأميركية لخفض الأسعار محليا، وتحصين نفسها من التذبذبات في الأسعار الدولية ألا وهي حظر تصدير النفط الأميركي.
ويلفت التقرير إلى أن نوابا ديمقراطيين في مجلس النواب الأميركي حثوا بايدن في عدة رسائل على إعادة فرض حظر على صادرات النفط، ولو مؤقتا على الأقل.
ويجد هؤلاء أن فرض حظر على الصادرات النفطية يمكن أن يعزز الإمدادات المحلية، ويزيد من انخفاض الأسعار.
الصراع الخفي
وأسوة بقرار بايدن، أفرجت بريطانيا عن 1.5 مليون برميل من النفط من الاحتياطيات المملوكة للقطاع الخاص.
وستفرج الهند عن خمسة ملايين برميل، بينما ستعلن كوريا الجنوبية واليابان والصين عن الكمية التي ستفرج عنها وموعد ذلك في الوقت المناسب.
بيد أن كل هذه الإجراءات والقرارات كانت محط تساؤل عدد كبير من المحللين الاقتصاديين، الذين شككوا في أن يكون لها تأثير كبير.
وقالت كارولين باين، كبيرة اقتصاديي السلع الأساسية في شركة “كابيتال إيكونوميكس” الاستشارية، إن الاحتياطيات ليست كبيرة بما يكفي لخفض الأسعار بطريقة مُجدية، وقد تأتي بنتائج عكسية إذا دفعت “أوبك+” التي تشمل روسيا إلى إبطاء وتيرة زيادة الإنتاج، واعتبرت تلك القرارات خطوة رمزية وذات دوافع سياسية.
ورفضت “أوبك+” التي تضم منتجين كبارا مثل السعودية وروسيا، مرارا طلبات ضخ المزيد من النفط في اجتماعاتها الشهرية، ما تسبب في إحباط في الولايات المتحدة.
وفي سياق آخر تحد تقرير مطول أعده ماثيو مارتن وخافيير بلاس، ونشره موقع “بلومبيرغ” عن العلاقات الأميركية السعودية، في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عن الجانب الآخر للصراع النفطي، وهو صراع بين بايدن وابن سلمان.
ورأى معدا التقرير، أن الأمير الشاب يجلس على ما يوصف بأنه بنك مركزي للنفط، ويشعر بالثقة كي يطلب انتباها من بايدن وأي شخص آخر، وبخاصة بعد انتعاش أسعار النفط.
وذكر أن مبعوثي الولايات المتحدة حاولوا، في لقاءات خاصة وعلنية، إقناع السعوديين بضخ المزيد من النفط وبسرعة، وذلك حسب مسؤولين من الدولتين.
وكان الضغط الدبلوماسي موجها إلى ابن سلمان، الذي بيده تغيير سعر النفط، ومصير السياسيين في الدول المستهلكة، إلا أنه لم يتزحزح رغم كل المحاولات الدبلوماسية الأميركية.
وأشار التقرير إلى أن بايدن إذا كان يريد نفطا رخيصا، فإن ولي العهد السعودي لديه قائمة مطالب من البيت الأبيض، وعلى رأسها الوصول إلى الإدارة.
وأعلن بايدن في سبتمبر/أيلول 2021 أن “هناك الكثيرين في الشرق الأوسط يريدون الحديث معي” بدون أن يذكر اسم ولي العهد، وأضاف “لست متأكدا أنني سأتحدث إليهم”.
وفي النهاية لم يحصل الرئيس الأميركي على النفط الذي يريده، ما أجبره على الرد، وإخراج كميات من النفط الإستراتيجي، وهو قرار يحمل مخاطر التصعيد من “أوبك+”.
من جانبه، رأى أستاذ العلاقات الدولية اللبناني وليد الأيوبي، أن أسعار النفط المرتفعة تقوي وضع السعودية، من الناحية السياسية والمالية، وسيكون موقع ابن سلمان أكثر أمانا مقارنة مع وضعه قبل سنوات.
وأضاف الأيوبي لـ”الاستقلال”: “في الوقت الحالي تبدو السعودية في وضع آمن، وتحالفها مع روسيا يبدو قويا بحيث يضعها في موقع قيادة سوق النفط، وهذا بفضل سياسات الأخ غير الشقيق لولي العهد، وزير النفط عبد العزيز بن سلمان”.
وفي الاتجاه نفسه، قال المحلل السياسي صهيب جوهر، إنه مهما عرضت أميركا على محمد بن سلمان لن يكون ذلك كافيا لأن يدفعه إلى ضخ مزيد من النفط.
وأوضح جوهر لـ”الاستقلال” أنه “يجب على أميركا أن تقدم شيئا أكبر يدفع السعوديين إلى تغيير مسارهم، ويجب أن يشتمل ذلك على لقاء ثنائي بين بايدن وولي العهد السعودي”.