من أجل تجنب قطع العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية، امتنع الرئيس الأمريكي “جو بايدن” عن إدراج ولي عهد المملكة “محمد بن سلمان” في قائمة السعوديين الخاضعين للعقوبات، بعد نشر تقرير المخابرات الأمريكية بشأن قضية مقتل الصحفي “جمال خاشقجي”.
وانتقد الناشطون الأمريكيون قرار “بايدن”، لكن ما هي الرسالة التي ترسلها هذه السياسة إلى نظرائهم وسجناء الرأي في السعودية والدول الاستبدادية المجاورة؟ وإذا لم يكن من الممكن تحميل المستبدين المسؤولية عن قمع المعارضة السلمية، فسوف يتساءل المدافعون عن حقوق الإنسان، ما فائدة مثل هذه المعارضة؟
وردت الإدارة بأنها تستطيع – وستستخدم – وسائل اقتصادية وسياسية وأمنية أخرى لخفض مكانة ولي العهد السعودي وتقليص قدرته على الاتصال بالبيت الأبيض مباشرة متى شاء، مثلما كان يفعل خلال إدارة “دونالد ترامب”.
وأوضح “بايدن” أن إدارته ستتعامل مع “بن سلمان” بصفته وزير الدفاع السعودي فقط، وليس ولي العهد أو الملك المستقبلي، بالرغم من حقيقة أن “بن سلمان” لا يزال الحاكم الفعلي للمملكة.
وقد يكون هذا الموقف منطقيا من منظور أمريكي، لكنه يرسل رسالة خاطئة إلى الناشطين السلميين والمدافعين عن الديمقراطية في السعودية وفي جميع أنحاء العالم العربي.
ويتساءل هؤلاء الآن عن معنى عبارة “بايدن” أن “أمريكا عادت” إذا لم تأخذ حقوق الإنسان مركز الصدارة في سياسته تجاه المملكة.
ويقول هؤلاء إن إعادة العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية ستعيدنا إلى الحلقة المفرغة إذا اعتقد “بن سلمان” أنه أفلت من العقاب بشأن “خاشقجي” وأن العلاقات المستقبلية مع واشنطن ستعود إلى وضعها المعتاد.
وفي الواقع، فإن الصورة أكثر تعقيدا من ذلك بكثير.
فولي العهد فقد حرية الوصول إلى البيت الأبيض، ولم يعد بإمكانه الاعتماد على مستشار مقرب من الرئيس، كما كان الحال مع “جاريد كوشنر”، لمساعدته في الوصول إلى الرئيس في أي لحظة.
وكما قال سفير أمريكي سابق في المنطقة، فإن رد “بايدن” على تقرير الاستخبارات جعل “بن سلمان” منبوذا بحكم الواقع.
وعلى عكس الحكام السعوديين السابقين، الذين تولى معظمهم العرش بموافقة كبار أعضاء العائلة المالكة وفقا لتقاليد الخلافة المتعارف عليها، فإن “بن سلمان” دفع نفسه إلى قمة الحكم من خلال السخاء الاقتصادي وتكتيكات الإرهاب ضد المعارضين والمنتقدين، خاصة داخل المستويات العليا من الأسرة الحاكمة.
وقد استغل ولي العهد ضعف والده المريض لتعزيز سيطرته باستخدام وحدة الأمن الشخصي الموالية له، والتي تسمى بـ”قوة التدخل السريع”.
وبالإضافة إلى ذلك، استخدم “بن سلمان” تقنيات متطورة وعملاء متوحشين لتتبع المعارضين واعتقالهم وقتلهم، محليا ودوليا، واستخدم وسائل الإعلام الحكومية وآلة الدعاية للترويج أنه رمز السيادة السعودية وأن أي هجوم عليه هو هجوم على الدولة السعودية، وانتشر رجاله في العديد من البلدان لمطاردة المعارضين المتصورين.
كما رسخ “بن سلمان” الانطباع السائد في السعودية بأن هجماته الشرسة على المعارضين قد تم قبولها أو على الأقل تجاوزها من قبل بعض القادة الأجانب الأقوياء، بمن في ذلك “ترامب”.
وفي الواقع، كان بعض هؤلاء القادة مترددين في انتقاد أفعاله علنا، بسبب اعتبارات اقتصادية أو أمنية أو جيوسياسية.
وخلال فترة “ترامب”، كان “بن سلمان” يشعر بدعم كبير مما ساهم في تقوية نفوذه داخل السعودية، وتشجيعه على استخدام أساليبه أكثر وحشية.
ونظرا لأنه يتمتع بالسيطرة الكاملة على الحياة السعودية، يحاول “بن سلمان” إقناع الجمهور السعودي بأن اتهام واشنطن له بالتورط في مقتل “خاشقجي” لن يقوض مكانته في حكم البلاد.
ومن خلال الإفلات من العقوبات، يبدو أن “بن سلمان” يعتقد أنه سيتعين على إدارة “بايدن”، عاجلا أم آجلا، التعامل معه خارج حقيبة الدفاع، حتى أن وسائل إعلامه المتملقة زعمت أن قرار “بايدن” بعدم معاقبته كان بمثابة “تبرئة” من تورطه في جريمة القتل.
وبالرغم أن استطلاعات الرأي العام في السعودية تشير إلى أن “بن سلمان” يتمتع حاليا بشعبية كبيرة بين الشباب السعودي، إلا أنه سيتعين عليه التعامل مع الفقر والبطالة المتزايدين بين هؤلاء الشباب أنفسهم.
وفي الوقت الحالي، روج “بن سلمان” للقومية السعودية كأداة لتجاوز هذه الأزمات، وهو أمر قد ينجح على المدى القصير، ولكن ليس على المدى الطويل.
ونظرا لأن ملايين الشباب السعوديين عاطلون عن العمل كليا أو جزئيا، فقد بدأ العديد من الناشطين المؤيدين للإصلاح في تسليط الضوء على الحاجة إلى الوظائف ومبادرات التوظيف الجديدة وريادة الأعمال الناشئة.
ويقول الناشطون إن العديد من خريجي الجامعات السعوديين ما زالوا يعيشون في منازل عوائلهم ويعتمدون على آبائهم في الدعم لأنهم عاطلون عن العمل أو يعملون بشكل جزئي، ولا يمكنهم الزواج أو شراء منزل.
فماذا سيكون مستقبل السعودية إذا استمرت هذه الظروف أو تدهورت أكثر؟
وبسبب ارتفاع معدلات البطالة والفقر في جميع أنحاء العالم العربي، ركزت احتجاجات العام الماضي على الفساد الهائل الذي عانت منه الشعوب.
وإذا استمرت الأنظمة في قمع المتظاهرين، سيتخلى الناشطون عن الاحتجاجات السلمية، وسيلجأ البعض إلى العنف.
ولا يستطيع ناشطو حقوق الإنسان والمطالبون بالإصلاح في السعودية ومعظم الدول العربية تنظيم مظاهرات بحرية وأمان ودون قمع حكومي.
وغالبا ما تقابل أجهزة الأمن المتظاهرين بالغاز المسيل للدموع والضرب والعنف المميت والاعتقالات.
ويُحاكَم كثير من هؤلاء الناشطين، سواء في السعودية أو البحرين، بموجب قوانين “مكافحة الإرهاب”.
ومن وجهة نظر الناشطين الإصلاحيين، لم يردع تقرير المخابرات الأمريكية سلوك “بن سلمان”، ولم يشجعهم على مواصلة نضالهم من أجل حقوق الإنسان.
وإذا أرادت إدارة “بايدن” استخدام تقرير الاستخبارات، فعليها أن تبتكر نهجا ذا شقين.
أولا، يجب إجبار “بن سلمان”على السماح للمتظاهرين السلميين المؤيدين للإصلاح بالتظاهر ورفع مطالبهم بشأن حقوق الإنسان والإصلاح الديمقراطي دون مضايقة من قبل النظام.
ثانيا، يجب على “بن سلمان” تخصيص صندوق وطني للشركات الخاصة الناشئة التي يقودها الشباب.
وقد أظهر الربيع العربي درسين رئيسيين للجميع، أولا أن مطالب الشباب بالعدالة والكرامة والديمقراطية مستمرة بالرغم من الأنظمة الاستبدادية.
ثانيا، أن الاعتماد على الحكام المستبدين يمثل مشكلة بالنسبة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة على المدى الطويل.
ومن الأفضل أن ترسل إدارة “بايدن” رسالة إلى الجمهور السعودي من خلال المنظمات غير الحكومية السعودية المؤيدة للإصلاح، مثل “مركز الديمقراطية وحقوق الإنسان في السعودية”، بأن “بن سلمان” بات مدركا أن حقوق الإنسان ستحتل مكانة عالية في تحديد مستقبل العلاقات بين واشنطن والرياض.
ويجب أيضا إرسال رسائل سرية إلى بعض كبار الأمراء في الأسرة الحاكمة مفادها أن خلافة “بن سلمان” لوالده ليست خيارا حتميا نهائيا من وجهة نظر واشنطن، وأن استمرار حكم “آل سعود” لا يعود الفضل فيه لأمير معين.