شهد الأسبوعان الماضيان تصعيدًا كبيرًا في القتال بين السعودية والحوثيين في اليمن، حيث نجح الحوثيون مؤخرًا في انتزاع أراض شاسعة بالقرب من مدينة مأرب من القوات الحكومية اليمنية، ورد سلاح الجو السعودي بضرب أهداف عديدة في اليمن، ملحقًا الإصابات ومحدثًا الدمار.
كما ضربت الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة في بداية الشهر، منشأة تحميل النفط السعودية الأكبر في العالم في رأس تنورة، شمال ميناء الدمام.
أعلن الحوثيون مسؤوليتهم عن إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة على رأس تنورة، تمامًا كما تحملوا مسؤولية الضربة الكبرى على منشآت “أرامكو” الأخرى في سبتمبر/أيلول 2019، والتي قيدت حوالي نصف قدرة تصدير النفط السعودية لأسابيع.
وفي وقت ما بعد تلك الضربة، تسربت معلومات مفادها أن الإطلاق لم يتم من اليمن بل من العراق، وربما حتى من الأراضي الإيرانية.
كان الهجوم الأخير مشابهًا جدًا للهجوم الذي وقع في سبتمبر/أيلول 2019، وكان أيضًا ضربة لأهم الأهداف السعودية (المنشآت النفطية) وأكثرها حساسية وهشاشة، ونفذ بصواريخ وطائرات مسيرة إيرانية، وتم إطلاقه بدون تحذير، بالإضافة لإعلان الحوثيين مسؤوليتهم.
ونتيجة للهجوم، قفزت أسعار النفط العالمية إلى حوالي 70 دولارًا للبرميل، مما أدى إلى تحسن طفيف في توقعات الاقتصاد الإيراني.
المسؤول الحقيقي
تقع رأس تنورة على بعد حوالي ألف كيلومتر من اليمن، مما يزيد من الوقت الذي كان يفترض فيه بالصواريخ والطائرات المسيرة أن تكون في الجو، مما يزيد من احتمال اكتشافها واعتراضها بواسطة أنظمة الدفاع الجوي في المملكة.
وفي ضوء معرفة أن المهاجمين يسعون دائمًا إلى تقصير النطاقات، لتقليل وقت الطيران وفرصة الاعتراض، فيبدو أن الإطلاق هذه المرة أيضًا كان من العراق، وربما حتى مباشرة من إيران، جارة السعودية عبر الخليج.
من المحتمل جدًا أن تكون منظمات الاستخبارات في العالم على علم بالموقع الدقيق لعملية الإطلاق ولكنها تلتزم الصمت حتى لا تكشف أنها تعرف التفاصيل التي يحاول الإيرانيون إخفاءها؛ أو تعرض مصادر معلوماتها للخطر؛ أو تحرج الإدارة الأمريكية التي تسعى للعودة للمفاوضات مع إيران وتخفيف عبء العقوبات عليها.
لماذا إذن يتحمل الحوثيون مسؤولية هجوم لم يرتكبوه على السعودية (إذا كان هذا هو الحال بالفعل)؟ هناك عدد من الإجابات المحتملة.
إحداها أن طهران توقعت وربما طالبت بتحملهم المسؤولية حتى تنجو إيران من العقاب، وربما أراد الحوثيون التباهي بالإنجاز أمام الجماهير، وتعزيز دعمهم في اليمن، وزرع الرعب في قلوب خصومهم داخل اليمن وخارجه.
من جهتها، حاولت الرياض التقليل من شأن الهجوم بإعلان مقتضب من وزارة الطاقة عن غارة على منشأة رأس تنورة “بطائرة قادمة من البحر”، وهناك 3 نقاط يجب توضيحها هنا.
أولاً، كانت وزارة الطاقة، وليس وزارة الدفاع، هي التي أصدرت البيان، مما يعني أن هذه مشكلة لصناعة الطاقة وليست مشكلة أمنية.
وثانياً، وُصفت الطائرة بأنها قادمة من البحر، أي من إيران التي تقع عبر الخليج، أو من سفن كانت تبحر في الخليج.
وثالثاً، هذا يعني أن السعودية لا تقبل إعلان الحوثيين مسؤوليتهم، حيث يقعون على بعد ألف كيلومتر جنوب غرب رأس تنورة بينما يقع “البحر” شرقها.
من المرجح أن المخابرات السعودية تعرف جيداً من هاجم المملكة ومن أين، لكنها تختار عدم الكشف عن هذه المعلومات.
ويمكن أن يكون هناك سببان رئيسيان لذلك؛ فأولاً، لن يضطر السعوديون هكذا للرد، وثانيًا، ربما تكون المعلومات قد شقت طريقها إلى المخابرات السعودية عبر نظير استخباراتي أجنبي بشرط عدم الإعلان عن هويته أو نقلها إلى طرف ثالث دون موافقة المصدر.
أما بالنسبة لعدم مهاجمة السعودية لإيران رداً على الضربات المستمرة ضد أهداف استراتيجية سعودية، فهي تنبع من ميزان القوى بين البلدين.
فمن وجهة نظر عسكرية، فإن المملكة أضعف بكثير من إيران، وبالإضافة إلى ذلك، فإن حقيقة أن المكانة الدبلوماسية للسعودية أفضل من مكانة إيران لم تجعل دول العالم -ولا حتى الولايات المتحدة خلال فترة ترامب- تقدم المساعدة النشطة لها.
ويبدو أن العالم على استعداد لتزويد المملكة بأنظمة مضادة للصواريخ والطائرات، ولكن من الواضح أنه لن يرسل قوات جوية أو بحرية أو برية لإنقاذها.
يفهم السعوديون ميزان القوى في مواجهة إيران جيدًا، لذا فهم يواصلون امتصاص الضربات الإيرانية بهدوء، وهم يدركون جيدًا الثمن الباهظ الذي سيدفعونه في حرب مباشرة مع إيران، وبالتالي لم يلوموا إيران علانية على الهجمات.
موقف إسرائيل
يجب على إسرائيل أن تأخذ الهجوم على السعودية على محمل الجد، لأن أولئك الذين يهاجمون المواقع الحساسة في السعودية بالصواريخ والطائرات المسيرة يمكنهم أيضًا ضرب المنشآت الاستراتيجية الإسرائيلية، وإذا لم يتحمل أحد المسؤولية عن مثل هذا الهجوم، فسيكون من الصعب على إسرائيل الرد.
آخر ما تريده إدارة “بايدن” هو حرب علنية بين إيران وأي دولة أخرى، وطالما استمرت هذه الحرب، فلا يمكن للولايات المتحدة أن تتفاوض مع الإيرانيين بشأن العودة إلى الاتفاقية النووية، أو بشأن برنامجهم للصواريخ الباليستية أو تدخلهم في أمن الدول الأخرى.
يهدف هذا النهج الذي تتبعه إدارة “بايدن” إلى تقييد -أو تجميد- أي خطة إسرائيلية لشن هجوم مباشر على البرنامج النووي الإيراني.
ومن المحتمل ألا تكون العمليات السرية الإسرائيلية مقبولة للإدارة الأمريكية أيضًا، خاصة إذا كانت تنطوي على تقصير عمر أحد العلماء.
أهم استنتاج يجب أن تستخلصه إسرائيل من الضربات على المنشآت النفطية السعودية هو أن الرياض غير قادرة على الدفاع عن نفسها بشكل فعال، وأي تقدم دبلوماسي مع السعودية يجب أن يقوم على هذه الحقيقة.
وبالتالي فإن أي اعتماد استراتيجي على الرياض يجب أن يكون حذرًا ومنضبطًا ومتوازنًا، مع الأخذ في الاعتبار أن المملكة تواجه صعوبة في الدفاع عن نفسها.
علاقات السعودية الحالية مع إسرائيل هي في مصلحة السعودية أكثر بكثير مما هي لصالح إسرائيل، لذلك لا يوجد سبب يدعو إسرائيل للتضحية بمصالحها الحيوية على مذبح العلاقات مع مملكة تخاف من تسمية عدوها حتى عندما يهاجمها ذلك العدو مرارًا وتكرارًا.
وإذا تم يومًا ما، الإعلان عن إقامة علاقات إسرائيلية سعودية، فإن إسرائيل تأمل في أن تتضمن “ملحقًا سريًا” يضمن أن إسرائيل ليست ملزمة بأي شكل من الأشكال بالدفاع عن السعودية من “أي عدو في البحر”.