بقلم/ عبد الرحمن عطيف
منذ انتصار الثورة الإسلامية وسيطرتها على السلطة في إيران في العام 1979، مثلت إيران تهديد مستمر ولكنه لم يكن في يوم من الأيام تهديد وجودي شامل يهدد وجود الجارة الأكبر في الحجم والاقتصاد والمكانة الدينية والتاريخية والجغرافية.
السعودية بلد نقيض في الاتجاهات الدينية المذهبية مع إيران، ومتشابه في جوانب سياسية عدة. يستخدم النظامين نهج تعامل مشابه مع الشعب ودوره السياسي والاجتماعي والثقافي وحدوده. الاستثناء في إيران هو شكل النظام الذي يعطي مساحة محدودة في الانتخاب والمشاركة السياسية. لكن يبقى المرشد الأعلى وحرسه الثوري وشكل الحكم “الجمهوري الإسلامي” مُحدّد فاعل لكل الاتجاهات السياسية، وإمكانية وصولها للسلطة، والبرامج التي يمكن السماح بها.
يشترك النظامين في القمع الداخلي القاسي، والرجعية في الحكم والإدارة. ورغم ذلك هما نظامين متنافسين وأعداء تاريخيين لبعضهم البعض. لكن، لماذا تبدو السعودية أكثر قابلية لأن يتم ابتلاعها مع مرور الوقت من قبل إيران وأذرعها السياسية والعسكرية؟
تمثل السعودية حالة لا يمكن لها المواجهة في أي تنافس خارجي وجودي، والسياسات التي أراد منفذوها أن تصل لنتيجة في مقابل تهديد وجودي خارجي، عادة ما ترتد وتفشل. ظلت السعودية طوال عقود مدعومة من الغرب لمواجهة النظام الإيراني الوليد بعد الثورة، التي رفعت شعارات هيستيرية متطرفة ضد الوجود والتأثير الغربي والعلاقات مع دوله بالمجمل.
هذا الدعم والحماية الغربية لطالما مثل جزء من مشكلة الفشل الذي كان متوقعا، فلم يكن أكثر من إهدار للموارد والجهود في الاتجاه الخاطئ. الإشكالية كانت في دعم أنظمة ديمقراطية نظام شمولي لمواجهة نظام شمولي آخر شبيه، فلم تمثل القوة المناوئة للتهديد الإيراني شيء مختلف أو نقيض له. لذلك كان الدعم الغربي بحد ذاته مشكلة تُظهره بشكل منافق غير متسق مع قيمه، وقابل للتأثير والتأثر بالنظم الشمولية.
لعل هذه الجهود لم تكن مهدرة بشكل كامل بالنسبة للغرب إلّا في مهمتها المحددة، فقد كان النظام السياسي السعودي يعطي في المقابل مردود يتمثل في العلاقات الثنائية القريبة التي تمثل مصالح سياسية واقتصادية وأمنية مهمة في قلب المنطقة الأكثر أهمية واضطرابًا في العالم.
في السنوات الأخيرة، وتحديدا بعد حملات الاعتقالات السياسية الجماعية التي بدأت منذ العام 2017 وشملت مواطنين أمريكيين، ثم قتل الصحفي جمال خاشقجي، وتزايد الإعدامات السياسية، أظهرت السعودية عدائية صريحة لدعوات احترام حقوق الإنسان والإفراج عن معتقلين سياسيين، والدعوة للمحاسبة في قضية مقتل جمال خاشقجي، الذي أشار مسؤولين ومؤسسات أمريكية لتورط محمد بن سلمان شخصيًا فيها.
اتجهت السعودية ردًا على ذلك لروسيا لتمثل شريك جديد يعطي لها الحماية دون مبالاة أو اهتمام بالوضع الحقوقي الداخلي، فقد نظر محمد بن سلمان لما فعلته روسيا في سوريا وعلم أن شراكة معها ستبقى صامدة بالنار والدماء، ولعل هذا يفسر سبب وقوف محمد بن سلمان مع روسيا فيما يتعلق بخفض إنتاج النفط.
كذلك مشروع الشراكة مع الصين التي تمثل مخرج شمولي آخر اقتصادي وتصنيعي بديل عن الغرب الديمقراطي، والذي بدأ عمليًا من خلال برنامج تصنيع الصواريخ البالستية وفق ما أعلنته الاستخبارات الأمريكية ووسائل الإعلام الغربية.
بالتالي تظهر القوى الغربية الديمقراطية في السنوات الأخيرة خاسرة في علاقتها مع النظام الشمولي في السعودية، الذي يوجّه موارده وتعاونه بشكل متزايد نحو الشرق (روسيا والصين) حيث الدول الشمولية الشبيهة، التي يغيب فيها الاهتمام بحقوق الإنسان والمشاركة الشعبية الفاعلة في القرار والمحاسبة والرقابة والتشريع.
لا يمثل تغيير التحالفات الجديدة هذه أكثر من اتساق مع قوى شمولية بدل القوى الديمقراطية، ولن يكون أكثر فعالية في الردع كون أن هذه الدول (الصين وروسيا) لها علاقات أقوى مع إيران، وبالتالي لن تواجه حليف قديم راسخ من أجل حليف جديد. أكثر ما يمكن تقديمه في سياق المواجهة هو تقريب وجهات النظر والتفاوض.
من جهة أخرى يمثل غياب الشرعية الشعبية، والمشاركة السياسية، والعقد الاجتماعي في السعودية ضعف بنيوي عميق أمام القوى الخارجية المعادية. فلا يوجد دستور في السعودية فضلا عن ديمقراطية وحرية وانتخابات. بالتالي لا يوجد إحساس وطني شامل بالفعالية والانتماء والهوية الذي من المفترض به أن يكون حائط الدول الصلب أمام القوى الخارجية المناوئة.
فقد كان الهجوم بالطائرات والصواريخ على منشآت أرامكو العام 2019 والعجز على الرد على مصادر الإطلاق نقطة تظهر ضعف الجبهة الداخلية السعودية التي جعلتها بلد مستباح. الجدير بالذكر أن الهجمات، وفقا للتقييمات، قد خرجت إمّا من قاعدة إيرانية قريبة من الحدود العراقية أو من العراق من خلال مليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران.
طبيعة النظام السعودي الشمولي الذي يُبعد الكفاءات الشعبية من المشاركة في القرار السياسي، ويحظر تبادل الأفكار والتعبير عن الرأي، والمساعي نحو بناء بلد عصري دستوري، أدى إلى اتخاذ مسارات وقرارات سياسية فاشلة، وقد تمثّل ذلك في أخطاء كارثية لا يمكن التراجع عنها.
ما وصلت إليه حرب اليمن، كمثال آخر، هي نتيجة إدارة خاطئة للملف اليمني منذ بداية المظاهرات الشعبية المطالبة بتنحي علي عبدالله صالح، واستمرت الإدارة الخاطئة حتى استطاعت أقلية سياسية ليس لها حضور إلّا في مدينة صغيرة للسيطرة على اليمن في جزئه الشمالي، وتُمثل اليوم قوة صاعدة وطامحة لتوحيد كامل اليمن تحت سلطتها السياسية.
الخطأ في إدارة القرار السياسي المتعلق باليمن مثّل خسارة لا يمكن تعويضها ربما لعقود قادمة. لو تساءلنا بجدية، هل كنا نتوقع أن يجلب نظام شمولي قمعي مثل السعودية الديمقراطية والشرعية لليمن؟ هل يمكن أساسًا أن يُعطي النظام السياسي حقوق وحريات منعها عن شعبه؟
لذلك تخسر السعودية في مواجهة قوة خارجية مناوئة مثل إيران، فالتصدي لها غير ممكن كون أن المشكلة داخلية وليست خارجية في قوة الأنظمة والقوى الرجعية الأخرى المناوئة. نتيجة الحرب اليمنية وبروز الحوثي في اليمن يؤكد أن التهديد الإيراني تضاعف، وأصبح على الحدود الجنوبية قوة ضخمة مناوئة لا يفصلها الكثير عن الداخل السعودية. الأخطاء الاستراتيجية التي قامت بها السعودية عديدة ولا يمكن التراجع عنها.
الخصوم يكسبوا النفوذ والقوة والهيمنة ليس بسبب قوتهم الذاتية، بل بسبب ضعف الجبهة الداخلية، وهذا ما لا تريد الحكومة السعودية معالجته منذ عقود طويلة، والذي تغير في الأعوام السابقة أن الجبهة الداخلية أصبحت هشة أكثر وقابلة للكسر.
حتى اللحظات التاريخية التي كان من الممكن “تقليم أظافر إيران” في سوريا ودعم اتجاه بناء نظام ديمقراطي حر، عملت الحكومة السعودية نفسها على إفشاله وعدم استغلاله، وذلك حسب ما أعلنه سعد الجبري في دعواه القضائية أن محمد بن سلمان شجع روسيا على التدخل في سوريا، والذي انتهى باستعادة النظام السوري مناطق واسعة من المعارضة.
إيران بلد قمعي، ولكننا نعاني وضعًا أكثر سوءًا في السعودية، وبدون إصلاح الجبهة الداخلية لن نستمد قوتنا من الداخل. ستظل القوى الإقليمية تشكل تهديدا خطيرا للاستقرار وحتى الوجود، وسيظل النظام السعودي باحثا عمن يدفع له من خلال مصالح اقتصادية وسياسية لتكون لتلك الدول الحامية اليد العليا، دون أن يضمن ذلك حماية مطلقة من احتمالات السقوط وخسارة النفوذ والمبادرة.