سعيا إلى الحداثة، تحاول السعودية إعادة إحياء هويتها القومية في مقابل الهوية الدينية المحافظة دون أن تتصادم مع الدين الذي شكل، ولا يزال، مصدر قوتها الناعمة كبلد يستضيف قبلة المسلمين حول العالم، وهي تحاول استلهام الانفتاح الليبرالي الغربي دون أن تنجرف لمساوئه التي تنطوي على ممارسات تدميرية للجتمعات.
ما سبق كان خلاصة مقال كتبه الباحث والمؤلف ديفيد ريابوي، في مجلة “نيوزويك” الأمريكية، يناقش خلاله أبعاد التحول الاجتماعي الذي تشهده السعودية منذ مجيء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى السلطة، في البلد الذي اشتهر حول العالم بكونه إسلاميا محافظا يميل إلى التشدد.
الأجانب في المجتمع السعودي
ويقول ريابوي: في حين أن الملايين من المسلمين يؤدون فريضة الحج دائمًا إلى مكة المكرمة، لم تكن السعودية مهتمة أبدًا بأن تصبح مكانًا لقضاء الإجازات، وأهملت إصدار التأشيرات السياحية، وكان العمال والأجانب يعيشون هناك في “أكوان خاصة بهم” مغلقة ومفصولة عن المجتمع، فيما يشبه ثكنات عسكرية أو فنادق ومجمعات فخمة، بعيدًا عن تجربة الحياة السعودية النموذجية.
ويضيف: لكن منذ صعود ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في عام 2016، بدأت الجدران التي تفصل بين الغربيين والسعوديين في الانهيار.
بدأ السياح السياحيون من أوروبا والولايات المتحدة، لأول مرة، بالتدفق إلى المملكة، وبسبب الإصلاحات الأخيرة للقوانين الدينية، يندمج الأجانب الآن في الحياة في مدنها.
ويؤكد الكاتب أنه عندما سافر إلى الرياض الشهر الماضي، شهد السعوديون والمغتربون على حد سواء بحماس على مدى تغير تلك الأمور، والتي لا تزال تتغير بسرعة.
اندماج المرأة
ويعتبر ريابوي أن من أبرز التغيرات التي حدثت في المملكة هو اندماج المرأة في الحياة المفتوحة، حيث يحضر السعوديون الآن بشكل روتيني الأحداث المختلطة بين الجنسين، وبات بإمكان المرأة قيادة السيارة والذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية وممارسة الأعمال التجارية دون موافقة ولي الأمر الذكر، ولم يعد مشهد النقاب التقليدي والشرطة الدينية التي تمارس سلطاتها على الرجال والنساء في الأماكن العامة موجودا.
ويردف: “ليس لدى النساء الآن ما يخشينه من الانتقام لاختيارهن الكشف عن شعرهن أو وجههن”.
الحملة على الإسلاميين
ويشيد الكاتب بالحملة التي شنها ولي العهد السعودي على الإسلاميين في المملكة، باختلاف أطيافهم، من الخلايا الجهادية حتى الإخوان المسلمين ورجال الدين الذين ألهموا تلك الحقبة، قائلا في تصريحه الشهير في 2017: “70% من الشعب السعودي تقل أعمارهم عن 30 عامًا، وبصراحة لن نقضي السنوات الثلاثين القادمة من حياتنا في التعامل مع أفكار هدامة.. سنقضي عليهم اليوم، وفي الحال”.
ويقول إن الإسلاميين اليوم أصبحوا منبوذين في المملكة، وابتعد مظهر الرجال السعوديين الآن عن الخصائص الجسدية للسلفيين المحافظين، وبدلا من ذلك، باتوا يرتدون الآن الملابس الأنيقة ويحرصون على لحى مشذبة بإحكام.
فراغ الهوية
وينتقل ديفيد ريابوي إلى إشكالية أخرى، قائلا إن تصميم محمد بن سلمان على جعل السعودية بلدا منفتحا على جميع الأديان والتقاليد والثقافات خلق فراغا في الهوية الوطنية السعودية التقليدية، التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالإسلام المحافظ منذ نشأتها.
ولمعالجة ذلك، شرعت المملكة في مشروع تثقيف عام لتعزيز هوية وطنية قوية – ليست منفصلة عن الدين – ولكنها مع ذلك تختلف عنه، على حد قوله.
ويرى أنه يتم تشجيع السعوديين اليوم على رؤية دورهم في قصة وطنية نابضة بالحياة تمتد من التاريخ المبكر للجزيرة العربية – بما في ذلك، بشكل كبير للغاية، ثقافة ما قبل الإسلام – إلى الدولة السعودية الحديثة التي تحكمها سلالة آل سعود.
يوم التأسيس نموذجا
وكمثال على هذا، بدأت السعودية في إقرار مناسبة جديدة منذ سنتين تقريبا، وهي ما يعرف بـ”يوم التأسيس”، والذي أصبح ما يشبه “مناسبة قومية علمانية جديدة لها عطلة” بعد اليوم الوطني السعودي، حيث يتسابق السعوديون في هذا اليوم على إذكاء المشاعر القومية لمرحلة تأسيس دولتهم على يد محمد بن سعود، ويقتربون من فلسفة وشخصية النظام نفسه.
ويروي الكاتب أنه كان يزور الرياض في تلك الأثناء، ووجد فعاليات تعليمية احتفالية أعادت إنشاء مشاهد من الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر وحتى مطلع القرن العشرين، وشاهد تجمع الحشود أمام متجر “ديور” لمشاهدة عشرات الرجال وهم يؤدون الموسيقى والرقص العربي التقليدي، وشاهد الإعلانات عن منتجات وخصومات بالمتاجر والشركات بمناسبة “يوم التأسيس”.
وبشكل أكثر طموحًا، أعلنت المملكة مؤخرًا عن مشاريع عملاقة ضخمة تسعى إلى حشو الحياة العصرية في هيكل واحد، مثل مدينة نيوم و”ذا لاين”، وهناك أيضا مشروع “المعكب” الجديد في قلب الرياض، والذي يقوم على مبنى ضخم بحجم 20 إمباير ستيت في نيويورك، يقول الكاتب.
ويمضي بالقول، معلقا على “المكعب”: “إن رمز المكعب الواضح للكعبة العلمانية – ليس في مكة، ولكن في أكثر مدن المملكة عالمية – هو بالتأكيد مقصود، إنها إعلان واضح بأن السعودية تتغير بسرعة”.
ويختم الكاتب مقاله بالقول: “اليوم، تحاول المملكة الإبحار في التطورات التكنولوجية والاقتصادية لحياة القرن الحادي والعشرين مع الحفاظ على مقياس لتاريخها وثقافتها المتميزة ضد ثقافة غربية أحادية متجانسة يقودها التكنوقراط والتي يبدو أنها تجلب معها الكثير من العبء الأيديولوجي التقدمي”.