د. عبد الله العودة
بحضور عدد غفير من العلماء والمفتين والوزراء وبرعاية رسمية من السلطات السعودية، صدرت وثيقة مؤتمر مكة تدعو إلى الوسطية والاعتدال وذلك على مقربة من سجن ذهبان سيئ السمعة والذي يمكث فيه العديد من دعاة الاعتدال الذين تطالب النيابة السعودية بإعدام بعضهم.
قبل أيام عدة في مهبط الوحي ومنبع الرسالة في مكة المكرمة انطلق مؤتمر لبعض العلماء في العالم الإسلامي تحت عنوان تحت عنوان “قيم الوسطية والاعتدال فى نصوص الكتاب والسنة”بمشاركة أكثر من 80 مُفْتياً ووزيراً من مختلف دول العالم.
يعقد المؤتمر هذا على بعد كيلومترات عدة فقط من سجن ذهبان في جدة الذي يقبع فيه رموز الاعتدال والوسطية في العالم الإسلامي مثل والدي الشيخ سلمان العودة وآخرين (والذين تطالب النيابة بإعدام ثلاثة منهم أحدهم والدي).
قام هذا المؤتمر لرعاية الوسطية وأصدر وثيقة مهمة، في غالبها قيم رشيدة وجميلة ترفض فيها العنف، وترفض حملات التخويف من الإسلام، وترفض العنصرية وترفض انتهاكات حقوق الإنسان.
هذه المبادئ الجميلة العظيمة تتلى على بعد كيلومترات بسيطة من سجن ذهبان سيئ السمعة، الذي يحكي قصة أخرى لرموز الاعتدال والوسطية.
هذه المؤتمر الذي ترعاه مؤسسات رسمية يقدّم في المجمل قيماً جميلة ومهمة في وثيقته الختامية مثل رفض الاستعلاء والكراهية، والاستبداد والظلم، وهضم الحقوق، وغيرها؛ ويحترم قيمة الاختلاف والتعددية واحترام الآخر (ربما إلا إذا كان هذا الآخر عالماً وسطياً يقبع في سجن ذهبان وتطالب النيابة بإعدامه لأنه يدعو لتأليف القلوب وإصلاح ذات البين).
كيف لمؤتمر يعقد في هذه الظروف ألا يحس بالحرج، وأن لا يشعر بالتناقض، وكيف له أن لا يخاف من حكم التاريخ الذي يكتب هذه الظروف، وسيكون شاهداً على هذا الوضع والظروف العجيبة الذي كتبت به.
المخيف في هذه الوثيقة التي قبلت التعددية نظرياً هو بندها الختامي (رقم 29) الذي يؤسس للمجموعة الواحدة، والتحزب الإفتائي، ويؤسس أيضاً للاحتكار الكهنوتي للدين. وقد جاء نص البند كالتالي: “لا يُبرم شأن الأمة الإسلامية ويتحدث باسمها في أمرها الديني وكل ذي صلة به إلا علماؤها الراسخون في جمع كجمع مؤتمر هذه الوثيقة….”.
هذا النَفس الاحتكاري في الدين والعلم والفتوى الذي يذكّرنا بالكهنوتية المسيحية، والصبغة المؤسسية التي انحرفت بالتجربة المسيحية في عصور الانحطاط الأوروبي وما بعده، وكانت ذريعة للاستبداد الكنسي والسياسي وذراعاً للسلطة ليس وليد اليوم في العالم العربي والإسلامي.
في عام 2010، وبقرار ملكي، قرر الملك عبدالله -رحمه الله- حصر الفتوى في المملكة العربية السعودية في هيئة كبار العلماء، وكان ذلك القرار بمثابة خطوة كارثية نحو الصيغة الكهنوتية الاحتكارية للدين، تريد حصر عمل الإفتاء في مؤسسة حكومية تعيّن من قبل الملك نفسه وتدار حسب رغباته فتعيّن من تشاء وتفصل من تشاء.
لذلك وفي تسعينيات القرن العشرين فُصل منها الشيخ ابن جبرين -رحمه الله- وتحوّل فجأة من “العالِم” إلى “المدعوّ” بسبب اشتراكه ضمن كوكبة من العلماء الآخرين، والمفكرين، والإصلاحيين بدعوة للإصلاح السياسي دعوا فيها إلى مجلس للشورى، وإلى دستور يحفظ القيم قبل تأسيس مجلس الشورى الحالي.
وفي فترة تالية في عهد الملك عبد الله فُصل من هيئة كبار العلماء الشيخ سعد الشثري بسبب موقفه من الاختلاط في جامعة الملك عبد الله.
وبغض النظر عن هذه الفتاوى والآراء إلا أن القصة هنا أن مؤسسات الاستبداد العربية الحديثة تريد أن تحوّل عمل الإفتاء الديني والإسلامي المحمي شعبياً، والذي يقوم على التعامل مع الناس والعمل من ضمنهم، تريد أن تحوله إلى مؤسسة كهنوتية حديثة للمسلمين تحتكر فيها الإفتاء، وتقيم ضمنياً عليها الولاء والبراء في مخالفة صريحة لمعظم بنود الوثيقة هذه نفسها التي تتحدث عن التعددية، واحترام الآخر، وعدم العنصرية. وفي مخالفة صريحة لأبسط مفاهيم الاختلاف الفقهي والشرعي والديني في الإسلام.
ثم إذا تجاوزنا هذا النَفَس الاحتكاري الكهنوتي في البند الأخير، وأردنا النظر إلى كيفية تعامل المؤتمر وعلمائه مع واحدة من أكثر القضايا حساسية وأهمية تتعلق بأصدقائهم، والعلماء الآخرين الذين يبعدون فقط كيلومترات عدة في سجون سيئة السمعة وفي مطالبات نيابية بالإعدام.. يصيبنا الذهول.
كيف يمكن لعلماء يتحدثون عن قيمة الاختلاف، وعن قيمة التسامح، وعن قيم ومثُل عليا أن يقبلوا أن تُنصَب على بعد كيلومترات منهم السجون والمعتقلات، وتُطْلَب الإعدامات لمن يشتركون معهم في الأغلبية الساحقة من تلك القيم. بل ومن لبثوا عقوداً يدعون لها ويبشرون بها؟
كيف يمكن أن تتحول هذه القيم العظيمة، والبنود الجميلة في معظمها في الوثيقة إلى مؤسسة كهنوتية احتكارية تتخذها دول الثورات المضادة للترويج لنفسها، ولصناعة حملة دعاية سياسية تستخدم فيها اللحى والمشايخ، وتبرر ضمنياً القضاء على كل التيارات المختلفة، وعلى الآراء المختلفة، وعلى مطالب الحق والعدل وإصلاح ذات البين؟
أين ذلك الإرث الشرعي، والعلمي العظيم في النصيحة العلمية، وفي الحذر من السلاطين وفي حمل هموم المسلمين، ورعاية مصالحهم عوضاً عن رعاية مصالح الطغمة الفاسدة، والحفنة الصغيرة التي تستولي على مقدرات الأمة وتنشر فيها الفساد والبغي والعدوان.
إن أعظم وثيقة يمكن أن يقدمها هؤلاء العلماء المجتمعون أن يقولوا كلمة حق دفاعاً عن إخوانهم المظلومين، وأن يُسدوا النصيحة الواجبة للسياسي وغيره، وأن يكونوا لسان الناس عوضاً عن أن يكونوا لسان الحكومات والأنظمة. وإلا فاكتب على هذا التراث العلمي الذي يحملونه السلام.