بعد أكثر من عام على جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بمدينة إسطنبول التركية، تنتهي التحقيقات السعودية إلى الحكم بإعدام 5 متهمين، وبالسجن على 3 آخرين مدة تصل إلى 24 عاماً، في حين حكمت ببراءة 3 آخرين كانت التهمة بالوقوف وراء ارتكاب الجريمة أكثر لصوقاً بهم، بحسب تقارير دولية.

وأكدت النيابة العامة السعودية، الاثنين (23 ديسمبر)، أن كل من ثبت تورطه في القضية قد حوكم، مشيرة إلى أن المحكمة عقدت 9 جلسات في قضية خاشقجي، وصدر الحكم في الجلسة العاشرة.

ولفتت النيابة العامة النظر إلى أنها أصدرت أحكاماً ابتدائية بحق 11 متهماً في قضية خاشقجي.

وبينت أنها أفرجت عن أحمد عسيري، نائب رئيس المخابرات السابق، بعد التحقيق معه لعدم ثبوت تهم عليه، وعن سعود القحطاني، المستشار السابق لولي العهد السعودي محمد بن سلمان، المتهم الرئيس في القضية، بعد التحقيق معه ولم توجه له أي تهم.

وذكرت أنها أصدرت حكم الإفراج عن القنصل السعودي في تركيا، محمد العتيبي؛ بعد أن أثبت وجوده خارج القنصلية ساعة وقوع الجريمة.

ولاقت تبرئة المتهمين الثلاثة انتقادات واسعة من السلطات التركية، وعدة أطراف حقوقية ودولية، معتبرة أن الأحكام “مثيرة للسخرية”.

 

من هم المُبرؤون الثلاثة؟

في يونيو المنصرم وثّق تقرير الأمم المتحدة حول جريمة قتل جمال خاشقجي، عدم محاكمة السلطات السعودية لـ”سعود القحطاني”، المتهم الرئيسي في ارتكاب الجريمة، فضلاً عن شخصيات أخرى كانت ضمن فريق الاغتيال.

 

وسبق أن أعلنت النيابة العامة السعودية للرأي العالم مثول 11 متهماً أمام المحكمة بسبب علاقتهم بالجريمة، لأول مرة في 3 يناير الماضي، دون الإفصاح عن أسمائهم.

التقرير الذي أعدته مقررة الأمم المتحدة الخاصة بالإعدام خارج نطاق القضاء، أغنيس كالامارد، تضمن أسماء هؤلاء المتهمين الـ11 استناداً إلى معلومات حصلت عليها من مصادر حضرت جلسة المحاكمة في الرياض، وهم: فهد شبيب البلوي، ووليد عبد الله الشهري، وتركي مشرف الشهري، وماهر عبد العزيز مطرب، وصلاح محمد الطبيقي، ومنصور عثمان أبا حسين، ومحمد سعد الزهراني، ومصطفى محمد المدني، وسيف سعد القحطاني، وأحمد محمد عسيري، ومفلح شايع المصلح.

هذه الشخصيات، ما عدا مفلح شايع المصلح الذي قيل إنه من موظفي القنصلية السعودية، والنائب السابق لرئيس الاستخبارات السعودي أحمد عسيري، هي من ضمن فريق الاغتيال الذي جاء إلى إسطنبول واتهم بقتل خاشقجي، والمكون من 15 شخصاً، بحسب تقارير أمنية تركية.

ما لفت الانتباه في هذا الصدد هو عدم وجود اسم القحطاني، المستشار السابق لولي العهد محمد بن سلمان، وأيضاً القنصل العام السابق محمد العتيبي، بين هذه الشخصيات الـ11، على الرغم من أن التحقيقات التركية تتهمهما بالاشتراك في تنفيذ الجريمة.

وأصدرت النيابة العامة الجمهورية في إسطنبول قراراً بالقبض على القحطاني وعسيري بتهمة “القتل العمد بدافع وحشي أو عبر التعذيب مع سابق الإصرار والترصد”.

في حين كشفت السلطات الأمنية التركية عن تحركات للقنصل العتيبي بين مبنى القنصلية ومنزله خلال عملية قتل خاشقجي، وورد هذا الأمر في تقرير الأمم المتحدة.

 

الرواية السعودية

بحسب تقرير بثّته قناة العربية السعودية (شبه الرسمية)، يوم 21 أكتوبر 2018، عبر حسابها في “تويتر”، “فقد شكّل نائب رئيس الاستخبارات السعودية، اللواء أحمد عسيري، فريقاً أمنياً من 15 شخصاً بهدف إقناع خاشقجي بالرجوع إلى المملكة”، والغريب أن التقرير أشار صراحة إلى دور القحطاني في اختيار العقيد ماهر مطرب، أحد أعضاء الفريق، بحجة التفاوض مع خاشقجي؛ لأن علاقة خاصة تربطه بالصحفي المغدور.

الرياض بإعلانها توقيف الـ15، و3 موظفين بالقنصلية، لم تتطرَّق لاعتقال القحطاني وعسيري، رغم أنهما أقيلا من مهامهما بسبب القضية.

ويضيف التقرير: إن “القحطاني أعطى الفريق أوامر بالتصرّف دون الرجوع إلى القيادة”.

وادّعت العربية في تقريرها أن الخطة كانت تقضي باصطحاب خاشقجي خارج إسطنبول والتفاوض معه للعودة إلى بلاده، قبل أن يقول مطرب، بحسب التقرير، لخاشقجي: “سنقوم بتخديرك ونأخذك إلى المملكة”، وهو ما رفضه خاشقجي، فانقض الفريق عليه، ليقوم الخبير في التشريح، صلاح الطبيقي، بالتعامل مع معالم الجريمة وإخفاء الجثة بمساعدة “متعاون محلي”.

وقبل أيام من نشر العربية تقريرها، نقلت وكالة “رويترز” للأنباء عن مصدر عربي رفيع المستوى قالت إن له علاقات مع العائلة المالكة في السعودية، أن القحطاني المقال هو من أدار عملية قتل خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول.

وبالإضافة إلى عمله مستشاراً في الديوان الملكي، يشغل القحطاني رئاسة مجلس إدارة الاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة والدرونز.

واكتفت السلطات السعودية بإلقاء اللوم على الفريق الذي نفّذ العملية في إسطنبول، بينما غضّت الطرف عن المسؤولَيْن الأساسيَّيْن في المملكة؛ وهما القحطاني وعسيري، واكتفت بإعفائهما من مناصبهما.

الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أكّد في خطاب داخل البرلمان، يوم الثلاثاء 23 أكتوبر  2018، وجود “أدلّة قوية” لدى بلاده على أن جريمة قتل خاشقجي “عملية مدبَّر لها وليست صدفة”، وأن “إلقاء تهمة قتل خاشقجي على عناصر أمنية لا يقنعنا نحن ولا الرأي العام العالمي”.

وكرر الرئيس التركي تأكيداته هذه في مناسبات أخرى عديدة.

وتأكيداً لحديث أردوغان، نقلت وكالة “رويترز” عن مصدر عربي رفيع لم تذكر اسمه، قوله إن اتصالاً عبر سكايب أُجري بين خاشقجي والقحطاني، حيث “أهان الأخير خاشقجي وسبَّه، قبل أن يرد عليه خاشقجي، ليطلب القحطاني بعد ذلك من رجاله قتله، قائلاً لهم: أحضروا لي رأس هذا الكلب”.

وبحسب المصدر العربي، فإنه ليس من الواضح إن كان القحطاني قد شاهد بقية تفاصيل عملية قتل خاشقجي داخل مبنى القنصلية، واصفاً تلك العملية بـ”الفاشلة وغير المتقنة”.

لكن المصدر نفسه وآخر تركياً أكّدا وجود هذا التسجيل بحوزة الرئيس التركي، الذي رفض إعطاءه للأمريكيين، وأوفدت الولايات المتحدة مديرة المخابرات المركزية، جينا هاسبل، يوم الاثنين 23 أكتوبر 2018، إلى تركيا لهذا السبب، وبعد الاطلاع على التسجيل وصفت هاسبل مقتل خاشقجي بـ”العملية المدبرة”.

ولم تقتنع الدول الغربية، أو الولايات المتحدة، أو تركيا، بما ذكرته السعودية بشأن الجريمة، في حين اقترح الرئيس التركي محاكمة الأشخاص الـ18 الموقوفين في السعودية بإسطنبول، ودعا أيضاً إلى إجراء تحقيق دقيق في مقتل خاشقجي من قِبل لجنة عادلة ومحايدة تماماً، ولا يشتبه في أي صلة لها بالجريمة.

 

العتيبي بعيد عن التحقيق

كان من الطبيعي أن يتصدر القنصل محمد العتيبي المشهد في قضية اغتيال خاشقجي لكونه يدير القنصلية التي وقعت فيها الجريمة، لكنه أحرج كثيراً حين تبين زيف ادعائه بإنكار وجود خاشقجي في مبنى القنصلية بعد اعتراف بلاده بوقوع الجريمة داخل القنصلية.

وبعد كشف خبايا الجريمة المروعة التي نفذها فريق اغتيال سعودي، غاب العتيبي عن الأضواء، ورسمياً لم توجه المحكمة الجزائية في العاصمة السعودية الرياض أي تهم للعتيبي، أو تذكر اسمه ضمن المدانين بقضية قتل خاشقجي، البالغ عددهم 15 شخصاً، على الرغم من أنه حامل أسرار القتل ومكان اختفاء الجثة التي لم يعلم مكانها بعد.

وكان الظهور الأول للعتيبي من خلال مقطع فيديو نشرته وكالة “رويترز” داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، ليؤكد مغادرة خاشقجي القنصلية وعدم وجوده داخل الحرم الدبلوماسي، عبر جولة سريعة فيها بصحبة مراسل الوكالة العالمية.

وأثار العتيبي في تلك المقابلة استياءً عارماً في منصات التواصل، عندما استشهد بفتح إحدى خزانات الغرف الصغيرة.

ويُعد العتيبي أحد أهم الشهود الذين يمتلكون معلومات دقيقة حول قتل خاشقجي؛ لأنه كان في القنصلية عند تنفيذ عملية الاغتيال، وإخفاء الجثة، ويعرف جميع من أسهم في ارتكاب هذه الجريمة.

وبعد فترة من المرواغة وجلب فرق سعودية متخصصة في طمس الأدلة، سمحت السعودية للسلطات التركية بتفتيش منزل قنصلها في إسطنبول، ولكن بعد أن غادر الأراضي التركية عائداً إلى السعودية.

فوفقاً لما ذكرت صحيفة “صباح” التركية عما أسمته مصادر أمنية موثوقة، جرى إرسال خبير كيميائي وخبير بالسموم لمحو الأدلة من القنصلية، بعد تسعة أيام من ارتكاب الجريمة، للتخلص من آثار جثة خاشقجي.

وانتقد الرئيس التركي السلطات السعودية “لأنها لم تتخذ أي إجراء ضد القنصل العتيبي؛ الذي كذب أمام وسائل الإعلام”، وفرّ من تركيا بعد الحادثة بأيام قليلة.

وبالفعل بعد وصول العتيبي إلى الأراضي السعودية لم تتخذ المملكة أي قرارات ضده أمام العالم، أو تقدمه للمحاكمة، لكونه قاد أسوأ عملية تمثيل وفبركة لعملية اغتيال مكتملة الأركان ضد مواطن سعودي.

ولاحقاً، كشف تحقيق لقناة “الجزيرة” عن إنشاء فرن داخل منزل العتيبي، ورجحت تحقيقات تركية أن جثة خاشقجي قد أذيبت في هذا الفرن غير المخصص للشواء العادي، وزود بدرجة حرارة مرتفعة جداً.