“الدول لا تحكمها العواطف، بل المصالح المشتركة، لكن من وجهة نظر عاطفية، بالطبع أنا حزينة”.. هكذا عبرت “خديجة جنكيز”، خطيبة “جمال خاشقجي”، عن خيبة أملها إزاء اتجاه أنقرة لإغلاق ملف قضية اغتيال الصحفي السعودي الراحل، تزامنا مع إعلان وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” أن بلاده “اتخذت خطوات مهمة في سبيل تطبيع العلاقات مع السعودية”.

تصريح الوزير التركي ورد في لقاء تليفزيوني، أجراه عقب طلب المدعي العام التركي تعليق محاكمة غيابية لسعوديين مشتبه بهم في قتل الصحفي المعارض “جمال خاشقجي” في قنصلية بلاده بإسطنبول عام 2018، ونقل القضية إلى السلطات السعودية، ما اعتبره مراقبون بمثابة تتويج لسلسة من حلقات التقارب بين الرياض وأنقرة، خلال الشهور القليلة الماضية، على خلفية دوافع ذاتية، تبدو ضاغطة على كل منهما إلى حد تجاوز آثار سنوات مما يشبه الحرب الباردة بينهما على المستوى الإقليمي.

وفي هذا الإطار، رفعت الرياض “حظرا غير معلن رسميا” عن استيراد البضائع التركية، فيما أزالت أنقرة الحجب الذي فرضته قبل نحو عامين على عدد من المواقع الإخبارية السعودية، وهي المواقع التي جاء حجبها كخطوة تصعيدية ضد الرياض، على خلفية توالي فصول قضية “خاشقجي” بالقضاء التركي.

وشهدت الشهور الأخيرة محاولات جادة لإحياء العلاقات بين تركيا والسعودية، فيما أوردت صحف غربية أنباء عن زيارة سيجريها الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى الرياض، الشهر المقبل.

وكان “جاويش أوغلو” قد زار الرياض، في مايو/أيار الماضي، بعد مكالمة هاتفية أجراها الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، مع العاهل السعودي، الملك “سلمان بن عبدالعزيز”، بحثا خلالها إعادة العلاقات الثنائية إلى مسار إيجابي.

وعلى المستوى الاقتصادي، أجرى نائب الرئيس التركي “فؤاد أقطاي”، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مباحثات مع وزير التجارة السعودي “ماجد بن عبدالله القصبي” في إسطنبول، حول العلاقات التجارية بين البلدين.

وتعد قضية “خاشقجي” السبب الأبرز في توتر العلاقات بين تركيا والسعودية، إضافة إلى دعم أنقرة لقطر في نزاع الأخيرة مع السعودية إبان فترة الأزمة الخليجية، وبانتهاء بواعث السبب الثاني، بات ملف محاكمة قتلة الصحفي السعودي الراحل العقبة الباقية أمام إعادة تطبيع العلاقات بين البلدين، خاصة في ظل توجيه الاتهام فيه “إعلاميا” إلى ولي عهد المملكة وحاكمها الفعلي “محمد بن سلمان” رأسا.

السعودية من جانبها، تعي المتغيرات الدولية والإقليمية، وتعلم أن الولايات المتحدة تنسحب من المنطقة بشكل أو بآخر، ومن ثم ستترك الأصدقاء دون الانتباه لمصالحهم السياسية والعسكرية والأمنية، وهو ما تأكد للرياض بردود الأفعال في واشنطن إزاء تكرار الهجمات الحوثية على أهداف مدنية منشآت نفطية داخل المملكة.

وإزاء ذلك، تعي السعودية الآن، أن بعض الدول المركزية في الإقليم لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاهلها أو عدم التعاون والتنسيق معها، ومنها تركيا، التي تواجه، في المقابل، أزمة اقتصادية وتسعى لتفكيكها، من خلال إنهاء خلافاتها السياسية وجذب الاستثمارات إليها.

فالاقتصاد والوضع المعيشي هما ما يشغلان الرأي العام التركي، وهو ما ينعكس في استطلاعات الرأي، قبل نحو عام من الانتخابات البرلمانية والرئاسية، التي تهدد حكم الرئيس “أردوغان”، المستمر منذ نحو 20 عاماً، خاصة في ظل جهود غير مسبوقة من المعارضة لتنظيم صفوفها.

وفي أحدث استطلاع للرأي، أجرته شركة “أوبتمار” في الفترة بين 10 و16 مارس/آذار الحالي، ظهر أن 51.6% من الأتراك يعتبرون أن زيادة الأسعار هي أهم مشكلة في البلاد، و18.1% قالوا إن المشكلة هي التضخم، أي نحو 70% من الأتراك يعتبرون أن الأوضاع الاقتصادية هي أبرز مشاكل البلاد.

ولذا يشير الخبير في الشأن التركي “يوسف سعيد أوغلو”، إلى أن “أردوغان يواجه أكبر تحدٍ منذ توليه الحكم، إذ بدا عاجزاً عن ضبط الأسعار في الأسواق، والحد من التضخم، على الرغم من فرض سياسة جديدة اقتصادية تعمل على تقليل الفائدة وزيادة الإنتاج”، وفقا لما أورده موقع “العربي الجديد”.

فعلى الرغم من وعود الرئيس التركي بتحسّن الأوضاع مع حلول الصيف، لكن ليست هناك أي مؤشرات تدل على هذا التحسن، في ظل ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً، و”هو ما لا يمكن للحكومة أن تفعل به شيئاً”، بحسب “سعيد أوغلو”.

وإزاء ذلك، بدا واضحاً أن عام 2022 بالنسبة لتركيا هو عام الدبلوماسية لرأب الصدع مع دول الجوار والإقليم، خاصة أن حجم الاستثمارات السعودية في تركيا تراجع بشكل كبير في السنوات الأخيرة، بعدما بلغ 8 مليارات دولار في عام 2016.

وتراجعت حركة السياحة السعودية إلى تركيا على خلفية توتر العلاقات الثنائية لكنها، إذ زار تركيا 66.8 ألف سعودي منذ بداية عام 2021 حتى نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول من السنة ذاتها، بانخفاض 87.1% عن الفترة نفسها من العام الماضي، وفقا لما أوردته وكالة “بلومبرج”.

ويشير مدير معهد إسطنبول للفكر “باكير أتاجان”، في هذا الصدد، إلى أن “تركيا تصر في سياق تحسين علاقاتها مع الدول على أن تفتح الحوار أولا، ومن ثم تتجه لنقاش المشاكل العالقة الموجودة، وفقا لما أورده موقع قناة “الحرة” الأمريكية.

وتحدث الباحث السياسي التركي عن “شرطين” تطالب بهما الرياض، واعتبر أن أحدهما يعد رئيسيا، ويتعلق بقضية مقتل “خاشقجي”.

وأضاف: “الرياض تصر أن هذا الملف يجب ألا تتكلم فيه تركيا في الأيام المقبلة لا الحكومة ولا الإعلام ولا المعارضة”.

ولذا فإن الاتجاه الجديد في قضية “خاشقجي” داخل تركيا من شأنه المساهمة في “تصفير” خلافات أنقرة الإقليمية، وهو ما تحتاجه لتأسيس شراكات جديدة مبنيَّة على رؤى سياسية واقتصادية جديدة، وفقا لما نقله موقع “الخليج أونلاين” عن الخبير الإستراتيجي “عامر السبايلة”.

ولفت “السبايلة” إلى أن “تركيا استهدفت خلال الفترة الماضية، السعودية بسياساتها، والأخيرة كذلك، “لذلك من المهم اتخاذ خطوات لإعادة بناء الثقة” بينهما.

وفي السياق، يرجح عديد المراقبين أن تسفر إحالة القضاء التركي لقضية “خاشقجي” إلى نظيره السعودي، عن إغلاق رسمي للقضية، التي شكلت حجر الزاوية في توتر العلاقات بين الرياض وأنقرة.

وفي ديسمبر/كانون الأول 2019، بعد إجراءات يكتنفها السرية، برأت محكمة سعودية 3 متهمين في القضية، وحكمت على 5 آخرين بالإعدام، و5 بالسجن، قبل أن يتم العفو عن المحكومين بالإعدام في مايو/أيار 2020 من قبل أبناء “خاشقجي”، في ترتيب توسط فيه “بن سلمان”، وبالتالي فإن ملف القضية مغلق بالفعل داخل المملكة.

وعليه فإن لإحالة ملف القضية من أنقرة إلى الرياض سيكون بمثابة “إغلاق نهائي” لها على المستوى الرسمي، وإن لم يتم إغلاقه إعلاميا وحقوقيا، في ظل غياب أي معلومات عن مصير جثة “خاشقجي”، الذي تعرض، في 2 أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، لتمزيق جسده دخل القنصلية السعودية في إسطنبول.