بقلم/ يحي العسيري

في بلد يفتقد للبناء المؤسسي القويم، ويقوم على رأي الفرد الواحد، الحاكم والمتصرف، فلا غرابة أن تجد نفورًا من فكرة المؤسسات، وجنوحًا للعمل الفردي، ولا غرابة أن تجد خصومة مع التنظيم والمأسسة، ولا غرابة أيضًا أن ترى من يغضب من المستبد بسبب جوره وظلمه، تجده يدعي الله أن يهيء له مستبدًا يخاف الله ويتقيه في الشعب، ولا يدعو الله بأن يهيئ له نظامًا يكفل العدالة بلا مستبد ولا حاكم مطلق، وكل ما سبق يجعل بناء المؤسسات أشد صعوبة، ليس فقط في داخل بلادنا حيث المنع والتضييق والمعاقبة، بل أيضًا خارج البلاد حيث تنتقل معنا آفات سببّها لنا الاستبداد، وغيّر فيها من السلوك إذ حرم الناس من العمل المؤسسي الذي يخدم مشاريع واضحة، وحرمهم من تلك الممارسة، ولم يسمح لهم إلا بالعمل في أجهزة الدولة أو شبيهاتها التي ينخرها الفساد، ويسيطر فيها الأقوى، وتكون مشاريعها غير واضحة، أو واضحة لخدمة أجندات أفراد أو السلطات، فلا يشعر الناس فيها بالانتماء، بل يشعرون أنهم أدوات تنفذ فقط من أجل المرتبات دون مشاركة أو انتماء حقيقي لتلك “المؤسسات”.

وحيث أننا نسعى لبناء دولة الحقوق والمؤسسات لتحل محل دولة القمع والاستبداد، وحيث أن النظام قد منعنا من فعل ذلك بحرية في بلادنا، فواجبنا السعي لبنائها في الخارج، وإذا كان الحديث في المقالات السابقة من متكأ يدور حول أهمية المعارضة وبعض أشكالها ومهامها، ففي هذا المقال سأسعى لوضع لمحة سريعة عن أهمية مأسسة المعارضة، حتى لا تكون المعارضة أعمالًا فردية كما هي السلطة عمل فردي لمن يتمكن فيها.

ولا غرابة أن نجنح – نحن كمعارضين – إلى حب العمل الفردي لأسباب واضحة ومفهومة، فإذا كان أولها هو أننا لم نعتد في بلادنا ولم يسمح لنا بالانخراط في مؤسسات وطنية، ولم ننعم بتجربة العمل مع فريق لخدمة النفع العام، محتكمين لأنظمة وقوانين، يقودنا هدف قيمي واضح، سواء كان ذلك العمل تطوعًا أو بأجر، إلا أن هذا ليس السبب الوحيد، فيضاف إليه مغريات كثيرة قد نجدها في العمل الفردي ولا نجدها في العمل المؤسسي، أولها سهولة الحركة، وسهولة إطلاق الأعمال، وسهولة اتخاذ القرار، حيث يكون الناشط فيه يتحرك بمفرده، فيسهل عليه إطلاق أعماله بمفرده، وخاصة بعد توفر منصات الإنترنت المجانية التي تكفل لكل واحد أن ينطلق بمفرده، فأصبح الفضاء مفتوحًا لكل من يرغب، ويضاف له أجواء الحرية في خارج البلاد فتتوفر حرية الانعتاق من قمع الاستبداد، وحرية استخدام الفضاء دون تكاليف ولا قيود، فيشرع كل فرد في تقديم رؤيته دون قيود باستثناء ما يضعها هو لنفسه، وقد يغيرها كيفما يريد، ويتنازل عن بعضها وفق المصلحة أو وفق ما يطلبه الجمهور.

وهذا إغراء كبير، وسهولة الحركة هذه توفر جمهورًا سريعًا، فالجماهير في غالبها تجذبها هذه الديناميكية، وحضور الجماهير السريع ميزة أخرى تغري بالعمل الفردي، ومن لديه قدرات خاصة سواء في الإلقاء أو صناعة المحتوى أو الثقافة أو المعرفة أو الحس الفطن للتعامل مع الجمهور تكون مهمته لبناء قواعد جماهيرية بشكل سريع مهمة غير شاقة، ويزيد من هذه الفرص قلة الفاعلين في الساحة وقلة المنافسة، ففي بلدنا قد لا يتجاوز الناشطين من المعارضين على وسائل التواصل المئة شخص، وهذا عدد قليل جدًا مقارنة بعدد السكان.

كما أن العمل الفردي قد يوفر غزارة وسرعة في الإنتاج، إذ يتم التخلص من تعقيدات النظام وبيروقراطية المؤسسات وقوانينها، وهذا إغراء إضافي للناشط نفسه وللجمهور، وقد يكون الإغراء الأهم من كل ذلك أن يكون الناشط رئيس نفسه، ينشط متى ما شاء ويتوقف متى ما شاء ويختار الموضوع الذي يريد والوقت الذي يريد ويتناوله كيفما يريد، وغالبنا خرجنا لنبتعد من قمع النظام وسلبه للإرادة والاختيار، فأصبح لدينا شوق مفرط للحرية وكره قد يكون حتى للانضباط والالتزام والنظام، فما الذي يدفعنا إذًا للعمل الجماعي وللمأسسة، ولماذا يجب أن نتجه لها إذًا.

إن بناء المؤسسات مع صعوبته، ومع كل التعقيدات التي يمكن أن تواجهه في خلق تجانس بين فريق من النشطاء، ليكون لهم هدف واحد ومشروع واحد ونظام يلتزمون به، إن ذلك لأمر لا يمكن الاستهانة به، وهو في غاية الصعوبة، وخاصة أن المال لا يمكنه وحده أن ييسر لك تلك المهمة، فما تدفعه أنت يدفع النظام أضعافه، والنجاح السريع واللحظي لا يمكن أن يغري النشطاء وهم يرون النجاح الفردي أسهل وأسرع، فلا شيء سيدفعهم لذلك إلا وجود رغبة في الاحتساب، وحس وطني قوي، وإيمان عميق بالفكرة وأهميتها، وبالمشروع وكيف تجب خدمته، حتى يقدموا التنازلات، ويتقبلوا الصعوبات، ويتفانوا في خدمة مشاريعهم، ولا يأتي هذا الإيمان إلا من حرص على الوطن أولًا، وإيمان بضرورة بناء المؤسسات، وأهميتها وحاجتنا الماسة لها، وهذا الإيمان سيجعل النشطاء يحرصون على البناء ليس من الصفر، بل من تحت الصفر حقيقة، وسيجعلهم ينخرطون في ذلك بضمير وتفاني.

فالعمل الفردي مهما كانت روعته فإنه في غالبه يتلاشى سريعًا ويخبو سريعًا بعد توقف النشاط، ونادرًا ما استمر عمل فردي لزمن طويل إلا ما ارتبط منها بعمل مؤسسي أو حول ذلك العمل لعمل مؤسسي، كأفكار بعض الفلاسفة التي أطلقت منظمومات وجماعات على سبيل المثال، وحتى أولئك الكُتّاب الكبار كثير من كتبهم وأعمالهم لم تلق حقها بعد رحيلهم، ولم ينجح منهم من تحويل أعماله لمشاريع بعد رحيله إلا عدد قليل، فالديمومة للمؤسسات أكبر من ديمومة أعمال الأفراد، وكلما كان العمل المؤسسي نبيلًا في أهدافه، واضحا في أنظمته وقوانينه وصارمًا بها، ومتينًا في بنيته، كلما ضمن ديمومة أطول، ليكون غير مرتبط بالأفراد ولا بتقلباتهم ولا ظروفهم، بل مرتبط بما توافقوا عليه من أفكار وقيم، وهذا ما يعطي ضمانة وخدمة للأفكار والقيم التي نؤمن بها ويمكننا أن نتوافق عليها، لتأخذ تلك الأفكار والقيم حظها من جهدنا أكثر من حظ أسمائنا وأشخاصنا.

فتعقيدات النظام والانضباط المملة في بدايات الأعمال هي ضمان الديمومة لاحقًا، وصعوبات البدايات هي الكفيلة بالاستمرار، فالمؤسسات لا تتأثر بتغير أفكار فرد من أفرادها أو تراجعه، ولا بتعب فرد آخر وعدم قدرته على العطاء، ولا لمزاج الفرد الأوحد مهما كان هذا الفرد صادقًا ومخلصًا وعبقريًّا، والتشاور مع الفريق، والمرور بالعمل عبر مسار مرسوم وبين مجموعة من اللجان أو الفرق أو الأفراد، قد يكون مرهقًا ومملًا، وقد يكون مؤخرًا للانتاج، وقد يكون محبطًا لمن يستدرك عليه، إلا أنه يضمن جودة لا يمكن للفرد الوصول إليها، وما نقوله ونسعى لتعليمه لجمهورنا أن العقل الجمعي بالضرورة أفضل من عقل الفرد، وأن التشاور مع الناس هو استخدام لعقولهم، ثم يوكل اتخاذ القرار لمن يتم توكيله وتفويضه في ذلك، ليسمع عدد من الآراء، وتُنار الكثير من الزوايا التي قد لا يراها شخص ولا شخصين، وخاصة إذا كان الفريق لم يعتد العمل بشكل جماعي، وإذا كنا في بلدنا من قبل لم يسمح لنا بالحديث بحرية مع كل مكونات وطننا، فأصبح كل شخص يرى بعض زوايا المشهد، ويكمل له نظيره زوايًا أخرى، فيضيف ذلك للعمل ليس جودة فقط، بل اعتدال أكبر وتغطية لزوايا أكثر.

ستهون الصعاب إذا آمن المحبون لوطنهم بذلك، وكل من اختار طريق المعارضة فالأصل فيهم حب الوطن وكره من ظلمه، وإذا استعدوا لتقديم التضحيات والتنازلات، وكل المعارضين نحسبهم أهلًا لتلك التضحيات، وأول التضحيات قد تبدأ بفراق الوطن، وتمر بالتنازل لرفاق الدرب والعمل معهم بروح الإخاء وضمن عمل جماعي مؤسسي، لنبني من هذه الصفوة التي اختارت أن ترفض الظلم، لنجمع منها من كانوا متسامحين مع اختلافتنا، متقبلين لتقديم بعض التنازل في اختياراتنا وليس في قيمنا، إذ أن القيم هي ما يجمعنا فيجب ألا تفرقنا وسائل وطرق تنفيذ تلك القيم، مفرقين بين الأناركية والاستقلال، محترمين للأنظمة ولروح الفريق ولوجوب وجود نظام وترتيب، واضعين نصب أعيننا وطن حرم من تلك المؤسسات في الداخل، فهل نقبل التحدي ونرضخ أنفسنا لنبني ذلك في الخارج؟ وهل يمكننا ذلك؟ وما دور العمل الحزبي في ذلك، وكل هذا نتناوله في المقال القادم.