ستيفين سايمون ودانييل بنجامين

في فبراير / شباط من عام 1945، وفي طريق عودته إلى بلاده من مؤتمر يالطا – وفقط قبل شهرين من وفاته – انعطف فرانكلين روزفيلت ليتوقف في مصر حيث التقى عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، مؤسس الدولة السعودية الحديثة. يذكر المؤرخون أن العاهل السعودي أحضر معه إلى ظهر السفينة “يو إس إس كوينسي” أغناماً حية ليشويها على ظهر السفينة واصطحب معه منجمه، بينما عرف الرئيس الأمريكي الملك ذا السبعين عاماً على الآيس كريم (البوظة) وأفلام السينما. إلا أنهما كانا رغم ذلك منشغلان بقضايا جادة: كانت الولايات المتحدة تبحث عن الوصول المضمون إلى النفط الذي اكتشف في المملكة قبل سبعة أعوام بينما طلب ابن سعود، كما كان يعرف آنذاك، الحماية لحكم عائلته من خطر محدق كان يتصوره قادماً من طرف بريطانيا.

على مدى أربعة وسبعين عاماً مضت على تشكلها، أظهرت العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية قدرة عجيبة على الثبات والاستمرارية. ولعل واحداً من أسباب ثبات هذه العلاقة هو السهولة التي نشأت بها بينما كان الشركاء يثرون ويزدهرون في ظروف سياسة عالمية متغيرة، حيث تحولت المملكة العربية السعودية بفضل ثروتها النفطية من تجمعات قبلية شبه بدوية متناثرة إلى واحدة من القوى الاقتصادية العشرين الأكبر في العالم، بينما تنامى نفوذ التدخل الأمريكي في أمن المنطقة بشكل مضطرد على مدى عقود لدرجة أن المحللين باتوا يتحدثون عن “سلام أمريكا” في الشرق الأوسط. وكان من العوامل الهامة التي حافظت على استمرار هذه العلاقة تجنب الزعماء الأمريكيين انتقاد السياسات السعودية المحلية، وخاصة في مجال حقوق الإنسان. ولقد لاحظ بروس ريديل، الذي عمل مستشاراً في شؤون الشرق الأوسط لدى أربعة من الرؤساء الأمريكيين، إن المرة الوحيدة التي ضغط فيها زعيم أمريكي على السعوديين لإحداث تغييرات داخلية حصلت في عام 1962، عندما تجاوب ولي العهد آنذاك الأمير فيصل مع إلحاح جون إف كينيدي فأدخل إصلاحات على الجهاز القضائي ووفر الرعاية الصحية والتعليم المجانيين وألغى الرق.

ولطالما أشرف البيت الأبيض بنفسه وبشكل مباشر على إدارة العلاقة الأمريكية السعودية، تماماً كما هو الحال مع إدارة العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، بينما لم يكن ذلك بشكل عام حال أي من العلاقات الثنائية الأخرى. ولذلك لم يحصل أن أخذت القيادة السعودية في يوم من الأيام على محمل الجد لا الكونغرس الأمريكي ولا وزارة الخارجية الأمريكية، وظلت باستمرار تسعى خلف الارتباط المباشر بالرئيس نفسه. وما لبثت محطة السي آي إيه (المخابرات الأمريكية) في الرياض تمارس درجة عالية من الضبط والتحكم بما يجري من تعاملات مع المملكة وذلك للحيلولة دون حدوث تدخلات دبلوماسية غير مرغوب بها مثل التطوع بأفكار كبيرة حول احترام حقوق الإنسان وكذلك للحيلولة دون تجاهل رغبة السعوديين في الحفاظ على السرية التامة. يمكن لمثل هذا الترتيب أن ينجح في بلد لم يعرف تاريخياً وجوداً إعلامياً أجنبياً من أي نوع تقريباً ولا وجود منظمات مجتمع مدني. وفعلاً، فقد ظلت إدارة الحكم السعودي تقليدياً حكراً على عدد صغير من الأمراء المسنين. وكثيراً ما كان يتردد في أوساط صناع السياسة وضباط المخابرات الأمريكيين أنه فيما عدا شمال كوريا لا تكاد تجد بلداً يضاهي السعودية في انعدام الشفافية.

أما اليوم، فلربما بدأ هذا الانسجام الذي عمر طويلاً بالانهيار نتيجة وصول ولي العهد السعودي النزق محمد بن سلمان إلى رأس السلطة في البلاد. لقد أعرب زعماء الكونغرس الأمريكي من الحزبين عن سخطهم تجاه ولي العهد البالغ من العمر اثنين وثلاثين عاماً بسبب دوره في جريمة القتل التي وقعت في إسطنبول بحق الصحفي المقيم في أمريكا جمال خاشقجي في شهر تشرين الأول/ كانون من عام 2018، وكذلك بسبب أفعال سيئة أخرى له – وخاصة التدخل السعودي في حرب وحشية داخل اليمن أحالت البلد إلى كارثة إنسانية هي الأشد وطأة في العالم.

تتنامى رعونة إم بي إس، كما بات يُعرف، بفضل تحريض من إدارة ترامب التي طالما تفاخرت بعلاقتها الخاصة مع هذا الشاب الذي غدا الحاكم الفعلي للملكة (فوالده الملك سلمان يعاني من وضع صحي سيء بينما يتمتع إم بي إس بصلاحيات واسعة). في نفس الوقت تجنبت إدارة ترامب انتقاده على ما يصدر عنه من بلايا. في هذه الأثناء يصطف الديمقراطيون الذين يتنافسون على الفوز بترشيح حزبهم لخوض انتخابات الرئاسة في عام 2020 لرؤية من هو أعلاهم صوتاً في انتقاد السعودية، ولعله مما زاد في سخط الديمقراطيين شكهم في أن موالاة الرئيس للسعوديين وامتناعه عن توجيه أي نقد إليهم مرجعه تطلعه إلى الإثراء الشخصي من العلاقة معهم – وهو تخمين معقول إذا ما أخذنا بالاعتبار تعود السعوديين على حجز طوابق بأكملها في فندقه الكائن في واشنطن عندما تحل وفودهم في المدينة. وبينما يقترب تحالف الأمر الواقع من ذكراه السنوية الخامسة والسبعين، تجد بعض صناع السياسة وعلمائها في الولايات المتحدة يتساءلون حول ما إذا بقي لهذا التحالف من معنى بالنسبة للولايات المتحدة.

من الواضح أن جدواه استمرت لزمن طويل. كان أول خرق للتحالف هو ذلك الذي حدث أثناء حرب يوم الغفران (أكتوبر) 1973 عندما سارعت واشنطن إلى مد إسرائيل بالسلاح الذي ساعدها على إحباط الهجوم المفاجئ الذي شنته عليها الدول العربية. أسخط ذلك الملك الفيصل، والذي ربما كان أذكى أولاد ابن سعود، فعمل على إقناع الدول الأعضاء في أوبيك بتخفيض إنتاجها في وقت شهد طلباً عالمياً متزايداً على النفط. على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تستورد إلا القليل من النفط من منطقة الخليج الفارسي، إلا أن الأسعار تضاعفت تقريباً أربعة أضعاف، وأضحت الأزمة التي شهدتها العلاقة بين الطرفين واقعاً يومياً يعيشه الأمريكيون بسبب الطوابير الطويلة على محطات التزود بالوقود، ناهيك عن أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة تراجع على مدى أكثر من عامين بما نسبته ستة في المئة.

انتهى تخفيض الإنتاج النفطي بعد أن خلف خالد بن عبد العزيز شقيقه فيصل الذي اغتاله ابن شقيق له معتوه في عام 1975، وبعد أن أصبح جيمي كارتر رئيساً للولايات المتحدة في عام 1977. حينها تأسست قناة جديدة للتعاون تمثلت في العمليات الاستخباراتية السرية. وبعد وقت قليل من غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان في عام 1979، سعى نائب وزير الخارجية وارين كريستوفر ومستشار الأمن القومي زبغنيو بريزنسكي للحصول على مساندة خالد في تنفيذ عملية سرية لتسليح وتدريب المعارضة الأفغانية، وغدت عادة لدى السعوديين أن يقوموا بدور البنك غير الرسمي لتمويل عمليات واشنطن. تمكن روبرت مكفارلين، مستشار رونالد ريغان للأمن القومي، من استخلاص اثنين وثلاثين مليون دولار من الرياض لتمويل الكونتراس في نيكاراغوا، رغم أن السعوديين لم يسرهم أن يكتشفوا فيما بعد أنهم استخدموا دون علمهم في مؤامرة تخللها جهد أمريكي سري للتقارب مع جمهورية إيران الإسلامية، والتي تعتبر من وجهة نظرهم الخطر الأكبر الذي يتهدد المملكة. ما من شك في أن البغض السعودي لإيران سابق على الثورة الإسلامية التي تفجرت في عام 1979، إلا أن هذا البغض والجفاء تعمق بسبب الثورة. وعلى الرغم من أن الانقسامات السنية الشيعية تتحمل جزءاً من المسؤولية عن العداوة المتبادلة بين البلدين إلا أن تلك العداوة يغذيها التنافس على الهيمنة في منطقة الخليج الفارسي لما تحتويه من احتياطيات هائلة من النفط والغاز، مع أن أياً من الطرفين أبعد ما يكون عن القدرة على إخضاع الآخر لسلطانه.

في سنوات ما بعد حظر النفط، رسمت الهموم الأمنية شكل العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، فقد فاقم غزو أفغانستان من المخاوف من أن يسيطر الاتحاد السوفياتي على الخليج الفارسي ويقطع امتدادات النفط، ولربما كان ذلك وراء اعتبار “عقيدة كارتر” أن المنطقة تمثل مصلحة حيوية للولايات المتحدة وتعهد إدارته بالدفاع عنها بالقوة. وعلى إثر غزو صدام حسين للكويت في عام 1990، عرض الرئيس جورج إتش دبليو بوش نشر قوات أمريكية داخل المملكة – وهي القوات التي أنيطت بها في نهاية المطاف مهمة طرد القوات العراقية من الكويت.

يصعب على المرء المبالغة حين الحديث عن اعتماد السعوديين على الضمانات الأمنية الأمريكية، وذلك على الرغم من الإلحاح البطيء الذي مارسته المملكة لإخراج القوات الأمريكية من أراضيها بعد الهجوم الإرهابي على ثكنة سلاح الجو الأمريكي في قاعدة الظهران الجوية في عام 1996. لقد فاقم ذلك التفجير، الذي نُقذ بتوجيه وتمويل من إيران، من المخاوف السعودية بأن يتم جر المملكة إلى صدام قد يقع بين الولايات المتحدة وإيران، مع أن حجم ووضوح الوجود الأمريكي كان ينظر إليه على أنه يشكل استفزازاً للسعوديين، باعتبار أن الاعتماد على القوات الأجنبية يثير تساؤلات حول أهلية ونزاهة النظام الملكي.

لم تحفز سنوات من مشتريات السلاح بمليارات الدولارات آل سعود على الاستثمار في التجنيد والتدريب وإعداد جيش على درجة عالية من الكفاءة. (لم يكن الهدف من تلك المشتريات بناء قدرة عسكرية حقيقية بقدر ما كان يقصد منها تعزيز العلاقة مع واشنطن وإعادة تدوير دخل النفط من البترودولارات، وتهدئة وطمأنة النخبة العسكرية السعودية من خلال تزويدها بأرقى أنواع الأسلحة، وإرسال إشارات إلى الجيران المعادين بأن ذلك التسليح يُفهم منه ضمناً وجود ضمانات أمنية أمريكية.) فقد كان يخشون من تشكل نخبة طامحة من القادة العسكريين كأولئك الذين كانوا يحكمون في كل من مصر وسوريا وتركيا وباكستان، وسعوا بدلاً من ذلك إلى إقامة علاقة دفاع وثيقة مع الولايات المتحدة والاحتفاظ بجيش محصن ضد الانقلابات.

ثم جاءت أزمة ثانية لتعيد رسم شكل العلاقة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وذلك أن خمسة عشر من بين تسعة عشر مهاجماً كانوا سعوديين، بينما كان أسامة بن لادن سليل واحدة من أغنى العائلات خارج نطاق العائلة الملكية الحاكمة. إلا أن الأمراء المسنين الذين يحكمون البلاد بالكاد أقروا بتورط مواطنيهم في الهجمات، بل راح بعضهم يوجه أصابع الاتهام إلى إسرائيل – وظلوا على ذلك إلى أن وقعت هجمات الرياض في عام 2003 والتي أتاحت لهم الفرصة ليتظلموا من أنهم هم أنفسهم وقعوا ضحية للإسلاميين المتطرفين. بعدها، تحولوا مباشرة ليصبحوا حلفاء للولايات المتحدة في حربها التي تشنها على الإرهاب. وحينها وثق مسؤولو المخابرات الأمريكية الصلة مع الأمير محمد بن نايف، مسؤول مكافحة الإرهاب المقتدر جداً والموالي لأمريكا.

استمرت الولايات المتحدة في التعامل مع السعوديين بأسلوب يراعي حساسية العلاقات معهم، فعلى سبيل المثال، وبينما كان البلدان يستهدفان الإرهابيين، لم يصدر عن واشنطن الكثير فيما يخص المنظمات غير الحكومية الكثيرة في السعودية التي كانت تنشر رؤيتها للإسلام الوهابي المتشدد حول العالم. فكما لاحظ الباحث المتخصص ويل ماكانتس، حينما يتعلق الأمر بالتطرف الإسلامي فإن “السعوديين يمارسون في نفس الآن دور من يشعل النيران ودور من يسعى لإطفائها.”

ومع ذلك، أثمرت الروابط المتنامية بين عملاء المخابرات لدى الطرفين فوائد حقيقية، فقد تم إحباط مخططين على الأقل كان بإمكانهما لو تما قتل عدد كبير من الأمريكيين في عهد إدارة أوباما وذلك بفضل المعلومات التي وردت من الطرف السعودي. كما صدرت عن المسؤولين الأمريكيين موافقة مغمغمة عندما اتخذ السعوديون خطوات صغيرة للتخفيف من معاناة الأقلية الشيعية في البلاد أو لتشجيع تعليم الفتيات وإشراكهن في سوق العمالة، إلا أنهم التزموا الصمت تجاه ما يرتكب من انتهاكات لحقوق الإنسان – بما في ذلك تعذيب وسوء معاملة من ينتقدون الحكومة، وتنفيذ العقوبات القاسية بحق العمال الأجانب، وقطع الرؤوس الجماعي، سواء بحق “الإرهابيين” الشيعة أو المجرمين العاديين.

إذن، أين الخلل؟ وما الذي جرى؟ ساءت العلاقات بين الطرفين أثناء حقبة أوباما بسبب سخط السعوديين إزاء رفض واشنطن الوقوف إلى جانب الرئيس المصري حسني مبارك بينما كان نظامه ينهار تحت وطأة الربيع العربي. كما أسخطهم أيضاً قبول الولايات المتحدة الضمني لجماعة الإخوان المسلمين التي أوحى تبنيها للديمقراطية ضمناً بأنها تتحدى النظام السياسي السعودي. ثم أسخطهم رفض الولايات المتحدة التدخل عسكرياً في الحرب الأهلية داخل سوريا، حيث كان السعوديون يتطلعون إلى رؤية نظام الأسد، حليف إيران القديم، يطاح به من السلطة، حتى لو كان ذلك يعني دعم المقاتلين الإسلاميين المتطرفين. كان ذلك من وجهة نظر الرياض سيشكل يوم الحساب رداً على الصعود السريع للنفوذ الإيراني في العراق بعد أن أطاحت الولايات المتحدة بصدام حسين وبعد إقامة حكومة يهيمن عليها الشيعة في بغداد.

ومما زاد من شعور السعوديين بخيبة الأمل مع الولايات المتحدة تلك الدبلوماسية التي تمخضت عن اتفاق النووي مع إيران، والذي رأي فيه السعوديون نذيراً لتقارب أشمل مع إيران بما يمهد الطريق أمام انسحاب الولايات المتحدة من منطقة الخليج الفارسي. وتصاعد التوتر خلال تلك الفترة بسبب دعم إيران لحزب الله في لبنان والخوف من قيام “هلال شيعي” تسوده طهران يمتد من لبنان عبر سوريا إلى العراق ثم إيران. بل ذهب الدبلوماسيون السعوديون، وعلى رأسهم سفيرهم آنذاك لدى الولايات المتحدة عادل الجبير، يستخفون بالرئيس أوباما معتبرين إياه زعيماً ضعيفاً، في حين أن الذي أثار امتعاضهم في حقيقة الأمر هو رفضه الانسياق مع الموقف السعودي العدائي المتشدد تجاه إيران.

ثم تزعزع الاستقرار مجدداً في عام 2015 على أثر وفاة الملك عبدالله، الذي حكم لعشرة أعوام بعد أن أمضى عقداً من الزمان ولياً للعهد كان خلاله الحاكم الفعلي للبلاد بسبب مرض سلفه، أخيه غير الشقيق فهد. وهذا ما حصل مع سلمان، استمراراً لنفس التقليد. ويذكر أن سلمان هو الابن السادس من أولاد ابن سعود الذي يرتقي إلى العرش، وكان قد نُصب قبل ذلك ولياً للعهد من قبل عبدالله ومجلس من كبار الأمراء. إلا أن الملك الجديد وابنه المدلل، محمد، ما لبثا سريعاً أن تحللا من قيد التقليد المتوارث. على النقيض من كثير من الأمراء من أبناء جيله، وحتى من أبناء الجيل السابق، تلقى محمد بن سلمان تعليمه بشكل كامل داخل المملكة العربية السعودية. وفي يناير / كانون الثاني من عام 2015 نُصب وزيراً للدفاع مباشرة بعد تولي سلمان الحكم ثم عُين نائباً لولي العهد.

وبعد أقل من شهرين، زج محمد بن سلمان بقوات التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية في حملة عسكرية ضد المتمردين الحوثيين الذين استولوا على العاصمة اليمنية صنعاء. إلا أن توقعاته بأن تكون تلك الحرب قصيرة ومجيدة ما لبثت أن تبخرت، حيث غدت أضخم وأطول عمل عسكري تلتزم به المملكة. كان ذلك التدخل مخالفاً لما جرت عليه عادة المملكة من تسليح الآخرين للقتال بينما تبقي هي على قواتها آمنة سالمة داخل ثكناتها. ولكن لم يكن ذلك الأمر هو الشيء الوحيد الذي استجد. بدأ الديوان الملكي السعودي سريعاً في القيام بجهد غير مسبوق لمركزة السلطة، وذلك من خلال إلغاء العديد من الكيانات الحكومية التي كان يقوم عليها كبار الأمراء واستبدالها بلجان يغلب على الموظفين فيها أنهم ليسوا من آل سعود، بل من التكنوقراط الموالين لمحمد بن سلمان شخصياً.

كانت تلك التغييرات جزءاً من محاولة أكبر لإبراز الحكام الجدد في صورة الإصلاحيين الذين يتصدرون لمواجهة التحديات التي تلوح للمملكة، ومنها النمو السكاني الكبير (كان تعداد السكان وقت وفاة الملك عبد العزيز في عام 1953 أقل من ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة بينما يصل تعدادهم اليوم إلى عشرة أضعاف ذلك)، والاقتصاد الذي يعتمد بشكل تام على النفط، والعمالة غير الماهرة التي تعودت على الحصول على دعم وهبات سخية لم يعد بالإمكان الاستمرار في منحها. ولذلك أعلن محمد بن سلمان في عام 2016 عن “رؤية 2030″، وهي عبارة عن خطة شاملة لتحديث وتنويع الاقتصاد السعودي.

في بداية الأمر، منحت “رؤية 2030” محمد بن سلمان بريقاً حقيقياً، حتى أن دونالد ترامب خالف ما جرت عليه العادة والتقاليد وكرس أول زيارة خارجية في رئاسته للتوجه إلى الرياض بدلاً من التوجه إلى حلفاء الولايات المتحدة في البلدان الديمقراطية. حينها، كتب توماس فريدمان في عموده الذي تنشره له صحيفة نيويورك تايمز: “لم أكن أظن أنني سأعيش لما فيه الكفاية حتى أكتب هذه الجملة: إن أبرز وأهم عملية إصلاح تجري حالياً في أي مكان في الشرق الأوسط هي تلك التي تحدث في المملكة العربية السعودية.” ثم أشاد بمحمد بن سلمان لتقليصه نفوذ المؤسسة الدينية في البلاد معلناً أنه “لا يوجد سعودي واحد تحدثت معه هنا على مدى ثلاثة أيام إلا وعبر عن دعمه الشديد لحملته ضد الفساد.” وخلال زيارة قام بها إلى الولايات المتحدة في إبريل / نيسان من عام 2018 استُقبل الأمير بحفاوة بالغة من قبل بيل غيتس وجيف بيزوس، واستضافه روبرت ميردوخ في حفل عشاء حضره ليفيف من كبار الممثلين منهم مايكل دوغلاس ومورغان فريمان، وذلك قبل أن يحظى بلقاء خاص مع أوبرا وينفري.

إلا أن البريق ما لبث سريعاً أن تلاشى، وذلك بعد أن بدا جلياً أن فكرة محمد بن سلمان عن الإصلاح لا تعزى إلى القيم الغربية بقدر ما تعزى للرئيس الصيني زي جينبينغ وللسياسة الصينية التي تدفع باتجاه تحقيق نمو اقتصادي دون السماح بتوسيع هامش الحريات السياسية. ما من شك في أنه كانت هناك درجة محدودة من التوسع في مجال الحريات، ولكن محمد بن سلمان يرى أن الإصلاحات ينبغي أن تأتي بمنحة من قبل التاج لا أن تنتزع انتزاعاً، ناهيك عن أن يطالب بها رعاياه، ومن هنا جاء القرار بسجن النساء اللواتي ناضلن من أجل الحصول على حق قيادة السيارات وتخفيف القيود التي تفرضها “قوانين الولاية”، والتي تمنح الرجال سلطة التحكم بحياة النساء داخل عائلاتهم – وهي نفس الإجراءات التي أقرها محمد بن سلمان وإلى حد ما أمر بإنفاذها. ثم، وبالرغم الإصلاحات، شهدت المملكة ارتفاعاً كبيراً في وتيرة الإعدامات، وينتظر أن ينفذ المزيد منها بحق عدد من كبار علماء أهل السنة والذين رغم تعرضهم للسجن بسبب معارضتهم للسياسات الملكية كان ينظر إليهم باعتبارهم من المشاهير الذين لا ينبغي أن يعاملوا بقسوة فائقة بسبب شهرتهم.

في شهر حزيران/ يونيو من عام 2017، نُصب محمد بن سلمان ولياً للعهد، ليحل محل محمد بن نايف، ابن شقيق الملك سلمان. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر من نفس العام أمر بإلقاء القبض على ما لا يقل عن مائتين من أكبر أثرياء البلد، بما في ذلك عدداً من أمراء المملكة الأثرياء، احتجزوا في فندق ريتز كارلتون بالرياض فيما تبين أنه عملية موسعة “لمكافحة الفساد”. وعندما أفرج عن آخر المعتقلين أو تم نقلهم إلى السجن بعد عدة شهور – بعضهم، ومنهم ابن الملك عبد الله، مازالوا داخل الحبس – أعلنت الحكومة أنها جمعت منهم ما يزيد عن 106 مليارات دولار.

إضافة إلى سفك الدماء الجاري في اليمن، أدهشت سياسة محمد بن سلمان الخارجية الدبلوماسيين والمهتمين بمتابعة شؤون السعودية. ففي صيف عام 2017، مباشرة بعد زيارة ترامب وبدعم من دولة الإمارات العربية المتحدة، بدأت الرياض بفرض حصار على دولة قطر المجاورة، متهمة إياها بدعم الإرهاب وإيران، وبدت السعودية على أهبة الاستعداد لغزو الدولة الوهابية الأخرى الوحيدة في العالم.

أدت المواجهة إلى تدمير مجلس التعاون الخليجي الذي لم يبق منه سوى اسمه، علماً بأنه الرابطة الإقليمية التي ساعدت الولايات المتحدة في تأسيسها في عام 1981 لتعزيز القدرات الدفاعية للدول الأعضاء في مواجهة إيران. وفي شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 2017 استضاف السعوديون رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري. وفي صبيحة أحد الأيام، وظناً منه أنه كان سيؤخذ في رحلة إلى الصحراء برفقة محمد بن سلمان، تم عزله عن حراسه وأجبر على قراءة بيان استقالته من منصبه عبر التلفزيون – وما ذلك إلا لأن تسامحه مع حزب الله أسخط عليه السعوديين. لم يتمكن الحريري من المغادرة عائداً إلى بيروت إلا بعد أن تدخل العديد من زعماء العالم مطالبين بإطلاق سراحه. وما أن وصل إلى بيروت حتى أعلن تراجعه عن استقالته.

وعندما احتجت كندا على سجن الناشط الحقوقي السعودي والمدون رائف بدوي وشقيقته سمر في صيف عام 2018، استدعت الرياض سفيرها في أوتاوا وطردت السفير الكندي وحظرت التجارة وأوقفت الرحلات الجوية بين البلدين. وقام السعوديون مؤخراً بضخ الأموال في جيوب الجيش السوداني لمساعدته على قمع التظاهرات التي أطاحت بحاكم البلاد السابق عمر حسن البشير في شهر نيسان/ أبريل. ويبدو أن المسؤولين السعوديين يدعمون كذلك الحملة التي يقودها الجنرال الليبي خليفة حفتر، الذي يتخذ من بنغازي مقراً له، ضد الحكومة التي تدعمها الأمم المتحدة في طرابلس – وهي نفسها الحملة التي يدعمها الرئيس ترامب، فيما يمثل تحولاً عجيباً في الموقف السياسي.

وكان مذهلاً بنفس القدر ذلك الاحتضان العلني من قبل المملكة لإسرائيل. ففي عام 2015، شارك جنرال سعودي متقاعد، هو أنور عشقي، في حوار عقد في مكتب مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن حول المصالح المتبادلة بين إسرائيل والسعودية مع دوري غولد، وهو دبلوماسي إسرائيلي يميني سابق. وفي عام 2017 بثت وسائل الإعلام السعودية مقابلة مطولة مع رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي غادي آيزنكوت. وفي نوفمبر من عام 2018، سربت وسائل الإعلام الإسرائيلية برقية دبلوماسية من وزير خارجية البلاد يوجه فيها سفارات إسرائيل حول العالم بدعم أهداف السياسة الخارجية السعودية، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من إيران. ثم ما كان من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو إلا أن تصدر للدفاع عن محمد بن سلمان وضلوعه في جريمة قتل خاشقجي– والتي يتهم فيها الجنرال أحمد العسيري الذي كان يقوم بدور المبعوث السعودي المكلفبالتواصل مع إسرائيل. كما أشيع على نطاق واسع أن إدارة ترامب تتوقع من السعوديين تمويل اتفاقية سلام مقترحة بينالإسرائيليينوالفلسطينيين. وحسبما قال محمد بن سلمان فإنه يتوجب على الفلسطينيين إما أن يقبلوا بما هو معروض عليهم أو أن “يخرسوا”.

رغم أن كل ذلك يمثل انحرافاً كبيراً عما كان سائداً طوال عقود من الممارسة – كان ابن سعود في لقائهما على متن السفينة يو إس إس كوينسي قد طلب من الرئيس فرانكلين دي روزفيلت ضمانات بأن تعارض الولايات المتحدة إقامة دولة يهودية في فلسطين – ثمة ما يثبت أن بعض السعوديين على الأقل يعتقدون بأن الوقت قد حان لذلك. فلطالما نصحتهم مؤسسات العلاقات العامة التي تعمل لصالحهم في واشنطن كما نصحهم الدبلوماسيون الأمريكيون بأن يلطفوا موقفهم تجاه إسرائيل حتى يصبح الكونغرس أكثر تسامحاً مع السياسات السعودية المستهجنة. ولكن بالنسبة لمحمد بن سلمان، يأتي هذا التغيير نتيجة للعداوة المشتركة تجاه إيران بقدر ما هو استراتيجية لممارسة الضغط السياسي (اللوبي). لقد أكد محمد بن سلمان بشكل أوضح وأكثر صراحة من أي زعيم سعودي آخر على حق إسرائيل في الوجود وانتقد الفلسطينيين بسبب إخفاقهم في تحقيق السلام. ويبدو أن التعاون الاستخباراتي بين السعودية وإسرائيل قد زاد بشكل كبير. ومع ذلك، لا ترى واشنطن أن ثمة ما يضمن استمرار هذا السلوك الجديد. إذيستحيل مع انعدام الشفافية في سياسات المملكة معرفة كيف ترى شرائح المجتمع السعودي الأخرى العلاقات السرية مع إسرائيل أو معرفة ما إذا كان خصوم محمد بن سلمان سيلجؤون إلى استخدام هذا التغير في السياسة فيما لو اختاروا تحديه ونقض شرعيته.

ما هو الضرر الذي يلحقه محمد بن سلمان بالدولة السعودية؟ لطالما قيل إن ثلاثة عوامل أساسية هي التي تحافظ على بقاء حكم آل سعود. أما العامل الأول فهو التوزيع السخي لعوائد النفط كجزء من الصفقة السلطوية بين العائلة الحاكمة ورعاياها، والتي يمكن أن توصف بعبارة “لا ضرائب دونما تمثيل”. وأما العامل الثاني فهو الدعم الذي توفره قوة خارجية، والتي مازالت قائمة في حالة الولايات المتحدة منذ اجتماع روزفيلت مع ابن سعود. وأما العامل الثالث فهو تماسك العائلة الحاكمة، والذي استمر لما يزيد عن قرن بفضل سياسة الإجماع التي التزم بها كبار الأمراء في آلية صنع القرار.

لم تسعف تغييرات محمد بن سلمان الاقتصاد السياسي للمملكة، على الرغم من أنه يتم إعادة تشكيله، لدرجة ما، من خلال إصلاحات رؤية 2030. ولم تقلل كذلك من أهمية دعم الولايات المتحدة، كما اتضح جلياً من تودد محمد بن سلمان لعائلة ترامب ومن إنفاق الرياض المسرف على شركات العلاقات العامة والجامعات ومراكز البحث والتفكير، والتي يتم في بعض الأوقات كسب جانبها من خلال هبات ووقفيات سخية. ولكن يبدو أن الالتزام التاريخي بتماسك العائلة وبالإجماع داخلها قد ولى وتم التخلي عنه. إلا أنه يبدو، حتى الآن، أن سرعة وقسوة استيلاء محمد بن سلمان استبقت انطلاق معارضة علنية من داخل العائلة، ولكن على المدى البعيد، يمكن لسوء تقديره ومجافاته للتقاليد والدائرة الضيقة من مستشاريه أن تجعله عرضة للعزلة والرؤية الضيقة وضياع دعم النخبة وأخيراً مواجهة معارضة شعبية. ولكن قد يبقى جالساً على كرسي الملك لعقود قبل أن يتحول السخط إلى مقاومة فعالة.

وقد تعاني إصلاحات ولي العهد أيضاً من القلق المتنامي بشأن نظام الحكم في عهده. تقوم رؤية 2030 على الاعتقاد بأنه ينبغي على المملكة العربية السعودية جذب الاستثمار الأجنبي، إلا أن تدفق رؤوس الأموال تراجع في عام 2017 ولم يعد يرتفع بشكل طفيف إلا مؤخراً. أما التقدم في مجال تنويع الاقتصاد فهو في أحسن الأحوالمتوقف، ومازالت لا ترى نتائج ملموسة للجهود التي تبذل لحث السعوديين على استلام وظائف العمال الأجانب – والذين غادر البلاد منهم ما يقرب من مليون ونصف المليون عامل.

يشعر قادة المملكة بالثقة بأن قطاعها النفطي سيظل مربحاً لعقود قادمة، ومازالت تقديرات احتياطي النفط السعودي في نمو مستمر بينما تتعاظم ربحية أرامكو، شركة النفط المملوكة للدولة، والتي بلغت في العام الماضي 111 مليار دولار. ولكن تدني أسعار النفط قد يجعل من الصعب أن يستمر السعوديون في توفير المنافع الاجتماعية على نطاق واسع – ومن هنا تأتي أهمية الإسراع في تنويع الاقتصاد.

لقد عرضت سقطات محمد بن سلمان للخطر ذلك الدعم الأمريكي التقليدي الذي طالما شكل واحداً من أعمدة الحكم السعودي. والحقيقة هي أن الأمريكان لم يكونوا في يوم من الأيام معجبين بشكل خاص بالمملكة العربية السعودية، والتي تنطبع في أذهان كثير من الناس عنها صورة مملكة ذات نظام مستبد، فاسد وقاس ومعاد للسامية، وذلك بفضل مجموعة من العوامل المتضافرة منها استخدام النفط كسلاح في عام 1973، ومشاهد الإعدامات العلنية، والتقارير المتتابعة حول الانتهاكات الأخرى في مجال حقوق الإنسان، والشكوك المتعلقة بتواطؤ قادة سعوديين في هجمات الحادي عشر من سبتمبر بالإضافة إلى انتشار حالة النفور العام من الإسلام. وهذا ما تثبته استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة غالوب على مدى سنوات عديدة، حيث أظهرت نتائجها أن معظم المستطلعة آراؤهم لديهم تصورات غير إيجابية عن المملكة. وفي أحسن الأحوال لم تتجاوز نسبة من عبروا عن آراء إيجابية تجاه المملكة 11 بالمئة، ولم يحدث ذلك إلا أثناء عاصفة الصحراء عندما بذلت واشنطن جهوداً غير عادية لتصوير المملكة العربية السعودية على أنها حليف شجاع في الحملة لتحرير الكويت. فيما عدا ذلك، لم تتجاوز نسبة من عبروا عن انطباعات إيجابية خمسة في المائة.

ومع ذلك فإن العلاقة القائمة بين جاريد كوشنر ومحمد بن سلمان تثبت استمرار النفوذ الذي تتمتع به المملكة داخل واشنطن على الرغم من الشعور المتزايد بالاشمئزاز والتقزز تجاه ولي العهد. وهذا يشبه ما كان قائماً من علاقات ودية بين البيت الأبيض في عهد جورج دبليو بوش وبندر بن سلطان، ابن وزير الدفاع السعودي السابق وسفير السعودية لدى الولايات المتحدة من 1983 إلى 2005. كان بندر يتودد إلى الأغنياء والمشاهير ويتقرب منهم بسبب ما كان ينعم به من موارد لا حد لها بفضل فساد والده وجشعه. كانت له شخصية جذابة وكان يتمتع بحيوية اكتسبها من عمله كطيار مقاتل حينما كان في ريعان الشباب، ولطالما حظي بإعجاب كبار الموظفين الذين كان بعضهم يقع في حبائل إغراءاته. ولا أدل على ما كان يسود بين بندر وبوش من علاقة حميمية خاصة من تلك الصورة التي التقطت لبندر في معية بوش وديك تشيني وكونداليزا رايس وهم يقفون معاً على برندة البيت الأبيض بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر مباشرة.

وكذلك تعكس العلاقة بين كوشنر ومحمد بن سلمان حالة من التآلف الطبقي وتعبر عما بين الرجلين من مصالح مالية مشتركة وعن رؤية كل منهما لذاته باعتباره رجلاً مهماً يحسب له كل حساب. وأما في مجال السياسات المتبعة، فتعكس العلاقة بينهما تجاهلاً تاماً لحقوق الإنسان، ورغبة في كبح جماح النفوذ الإيراني في أرجاء المنطقة وفي رؤية نظام رجال الدين في طهران مصاباً بالشلل أو مستبدلاً، كما تعكس اندفاعاً اً نحو إعادة تشكيل السياسة في الشرق الأوسط ليس فقط من خلال إذلال إيران وإخضاعها بل وكذلك من خلال قطع عقدة غورديوس المتمثلة بالعداء المستحكم بين الإسرائيليين والفلسطينيين. كما تتجسد في العلاقة بينهما رأسمالية المحسوبية حيث توثر المصلحة الذاتية على المصلحة العامة، والتي يعزى إليها الفضل في إبقاء أنظمة الشرق الأوسط – وبشكل متزايد الولايات المتحدة – طافية على السطح. ومن نتائج ذلك تخريب المصالح الاستراتيجية الأمريكية عبر إبرام صفقات ثنائية تؤثر المصالح المالية للنخب الحاكمة على مصالح الشعوب.

ومن القضايا التي يستدل بها على ذلك، بحسب تحقيق تجريه لجنة مجلس النواب الخاصة بالرقابة والإصلاح، ذلك الجهد السري الذي تقوم به إدارة ترامب لتزويد المملكة العربية السعودية بمفاعلات طاقة نووية على الرغم من معارضة المحامين والمخططين الاستراتيجيين الذين يعملون لدى لإدارة ذاتها. وكانت التقارير حول الخطة السعودية لتطوير الطاقة النووية قد راجت على مدى عدة أعوام، وهي في ظاهرها غير مثيرة للجدل. حيث أنه من الأفضل للنفط السعودي أن يباع في أسواق العملة الصعبة، بينما يفضل أن تلبى احتياجات الطاقة المحلية، وخاصة فيما يتعلق بالكهرباء وتحلية المياه، باستخدام الطاقة النووية (وإن كان من الأفضل أن يكون ذلك باستخدام الطاقة الشمسية). والآن، ثمة تنافس محموم بين روسيا والصين وكوريا الجنوبية على الفوزبعقود سخية لتنفيذ إنشاءات ذات علاقة بالطاقة النووية داخل المملكة. كما تسعى شركة ويستنغهاوس– والتي كانت قد أعلنت إفلاسها في عام 2017 نظراً لارتفاع تكاليف تصميم مفاعلها النووي ولكن عادت وطفت إلى السطح من جديد – للفوز بعقد لإنشاء مفاعلات نووية في المملكة العربية السعودية، ولكن الشركات الأمريكية تخضع لقيود تصدير صارمة صممت لمنع الأقطار الأجنبية من استخدام المفاعلات المصنعة أمريكياً لإنتاج الوقود النووي، والذي يمكن استخدامه لتصنيع الأسلحة. إلا أن السعوديين طالما أصروا على أنهم يرغبون في إنتاج وقودهم النووي الخاص بهم، وتوجهوا نحو جماعات الضغط في واشنطن لمساعدتهم في الدفاع عن قضيتهم. وما أن أصبح ترامب رئيساً حتى صعدوا من جهودهم في هذا المجال.

تتداخل المصالح السعودية مع التعاملات المالية لعائلة ترامب، ففي عام 2007، اشترت شركة كوشنر المبني الكائن في رقم 666 فيفث أفينيو بمدينة نيويورك، وكانت تلك صفقة سيئة التوقيت وكارثية لدرجة أنها تركته في موقف مالي شديد الخطورة. وفي عام 2018، أقدمت شركة اسمها بروكفيلد أسيت مانيجمينت على إنقاذ كوشنر عبر إبرام عقد استئجار في العقار بمبلغ 1.1 مليار دولار، ويذكر أن هذه الشركة تملك ما قيمته 330 مليار دولار من الممتلكات، بما في ذلك عقارات ومشاريع طاقة متجددة وبنى تحتية وأسهم خاصة. كما تملك بروكفيلد أيضاً شركة ويستنغهاوسإليكتريك. ومما يزيد الأمر غموضاًوالطين بلة أن مايكل فلين، مستشار الأمن القومي السابق المخزي، كان أثناء عمله مستشاراً لحملة ترامب الانتخابية – وفيما يبدو أثناء الفترة القصيرة التي عمل فيها داخل البيت الأبيض وبعد مغادرته له – ضالعاً بشدة في جهود اللوبي التي كانت تبذل لضمان بيع المفاعلات النووية إلى السعودية، رغم أن مدى مشاركته الرسمية مازال مبهماً. إلا أنه من المؤكد أنه كان سيجني مبلغاً ضخماً من المال فيما لو جرى تمرير الصفقة.

لو حصل ذلك لكانت تلك حركة بالغة الخطورة. وكان محمد بن سلمان قد تعهد في مقابلة تلفزيونية العام الماضي بضمان تزويد بلاده بالقدرة على امتلاك السلاح النووي فيما لو فعلت إيران ذلك. إلا أن توفر تلك القدرة لدى السعودية من شأنه على وجه التأكيد أن يحرض إيران على الحصول عليها أيضاً. إن وجود قوتين نوويتين متخاصمتين تفصل بينهما مياه الخليج الفارسي على مسافة لا تزيد عن مائة ميل لأمر يثير الفزع. في نفس الوقت أثار إنشاء مرفق لإنتاج الصواريخ البالستية في المملكة شكوكاً بوجود مخططات نووية سعودية. إلا أن إدارة ترامب صرحت إنها ستلتزم بفرض القيود التي تحكم نقل التكنولوجيا النووية، ولكنها حذرت في نفس الوقت من أنه إذا ما اعتبر ذلك غير مقبول من قبل المملكة فسوف يبني الروس أو الصينيون المفاعلات السعودية بدلاً من أمريكا.

مازالت مشاعر السخط في أمريكا قوية إزاء جريمة قتل جمال خاشقجي. في شهادة له أمام مجلس الشيوخ في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، سخر وزير الخارجية مايك بومبيو من الشيوخ الذين “يماءون” حول حقوق الإنسان بينما الذئب الإيراني واقف بالباب. أما وزير الدفاع جيمس ماتيس فقد نفى وجود ما يثبت بشكل قطعي أن ولي العهد هو الذي أمر بقتل خاشقجي، إلا أن القرائن كانت مقنعة للكونغرس لدرجة أنهرفض قبول تقييمه معتبراً أن ذلك كان محاولة منه للتستر، ثم ما لبث مجلس الشيوخ أن اتخذ قراراً بتحميل محمد بن سلمان شخصياً المسؤولية عن الجريمة.

لا يوجد جواب سهل على سؤال كيف يمكن معاقبة المملكة والنأي بالولايات المتحدة عنها. لقد فرضت واشنطن عقوبات على معظم الأفراد الذي ورد ذكرهم من قبل السعوديين أو من قبل غيرهم على أنهم ضالعون في مخطط جريمة قتل خاشقجي، وتمثلت العقوبات في تجميد ممتلكاتهم ومنع الأمريكيين من الدخول في أي تعاملات تجارية معهم، وإن كانت قد تقاعست عن استهداف محمد بن سلمان نفسه، رغم أن نفيه أن يكون ضالعاً في الجريمة غير مقنع على الإطلاق. كما أن وزارة المالية لم تعاقب الجنرال العسيري، أحد ندماء محمد بن سلمان والنائب السابق لرئيس المخابرات السعودية. في هذه الأثناء لم ينجم عن الامتعاض في واشنطن بث الحذر في نفس محمد بن سلمان. ومؤخراً قامت الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية “بأداء واجبها بتحذير” ثلاثة من معارضي النظام بأن حياتهم في خطر.

مازال وقف الدعم الأمريكي للحرب الدائرة في اليمن هدفاً يسعى إلى تحقيقه ائتلاف يتشكل من أعضاء من الحزبين داخل الكونغرس، ونظراً لأن الحملة السعودية لا تحظى بتأييد كبير فقد عمد ماتيس إلى اجتزاء عناصر مهمة من برنامج المساعدات الأمريكية في 2018، بما في ذلك تزويد الطائرات السعودية المقاتلة في الجو بالوقود. ويبدو أن الرئيس ترامب، الذي خرج بمزاعم مبالغ فيها، بل وباطلة، حول رغبة الرياض في شراء ما قيمته مائة مليار دولار من السلاح، قد عقد العزم على إجهاض أي إجراء تشريعي يستهدف تقليص المساعدات العسكرية للسعوديين. وكان الكونغرس في وقت مبكر من هذا العام قد أجاز تشريعاً يطالب بوقف كل أشكال المساعدات بما في ذلك مبيعات السلاح والعون اللوجستي والدعم الاستخباراتي، إلا أنه لم يتمكن من إبطال اعتراض ترامب على هذا التشريع.

ومؤخراً أعلن البيت الأبيض عن نيته المضي قدماً ببيع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن ما قيمته 8 مليار دولار من الأسلحة، وذلك من خلال اللجوء إلى مادة في قانون التحكم بصادرات السلاح نادراً ما يتم اللجوء إليها تسمح للسلطة التنفيذية بتجاوز الكونغرس في الظروف الطارئة. أغضب ذلك المشرعين الذين تعهدوا بالحيلولة دون إتمام عملية البيع، وإن كانت قدرتهم على الوفاء بتعهدهم موضع شك. وبينما يمضي البيت الأبيض قدماً في نشر القوات في الخليج الفارسي ويعد لمواجهة محتملة مع إيران، فإنه عازم على تجنب إنزال أي عقوبة بحق أصدقائه في المملكة.

ونتيجة لذلك، لا إدارة ترامب ولا الكونغرس يملكان كثيراً من النفوذ الذي يمكنهما من التأثير على ولي العهد. فثمانية ملايين برميل في اليوم تولد ما يكفي من المال لدفع تكاليف حملة علاقات عامة تصور خاشقجي على أنه إسلامي خطير وتصور المملكة العربية السعودية على أنها شريك للولايات المتحدة لا يمكن الاستغناء عنه. بل لقد وصف الرئيس ترامب مراراً محمد بن سلمان بأنه “حليف عظيم”. وإذا ما نظرنا إلى الصورة الأكبر، لا يوجد موقف دولي موحد إزاء قضية فرض العقوبات عليه أو على نظامه. بل يحظى محمد بن سلمان بتأييد قوي جداً من قبل فلاديمير بوتين، بينما لا يرغب الفرنسيون ولا البريطانيون بالتخلي عن بيع المملكة من الأسلحة ما يعود عليهما بأرباح طائلة. ويذكر أن ألمانيا هي الاستثناء الوحيد في هذا الصدد، حيث أوقفت جميع صادرات السلاح إلى الرياض منذ وقوع جريمة قتل خاشقجي.

لن يتوقف الكونغرس عن الاحتجاج، وخاصة في ظل الجدل الذي يحيط بالمحادثات السرية حول صفقة المفاعلات النووية وفي ظل الإعدامات التي نفذت في شهر نيسان/ أبريل بحق سبعة وثلاثين سعودياً، معظمهم من الشيعة، بتهم تتعلق بالإرهاب. ورغم ما تحقق من توافق نادر بين الحزبين بشأن هذه القضية – وخلاف السيناتور ليندزي غراهام مع ترامب بشأن تجدد مبيعات السلاح إلى المملكة – لا يتوقع أن يكون لذلك أي تأثير حقيقي. من الواضح أنه لن يتخذ أي إجراء مهم – هذا إذا حصل – إلا عندما يتغير ساكن البيت الأبيض.

إلى أي مدى يمكن أن تمضي إدارة ديمقراطية باتجاه إعادة تعريف العلاقات الأمريكية مع المملكة العربية السعودية؟ يمكن أن يواجه ذلك بمقاومة بيروقراطية كبيرة من داخل وزارة الدفاع وأجهزة المخابرات، ناهيك عن أن شركات النفط والمؤسسات المالية كانت واضحة بشأن دعمها لتلك العلاقة على المدى البعيد. إلا أن محمد بن سلمان تحيز كثيراً نحو الحزب الجمهوري لدرجة أن بعض الديمقراطيين لن يروا سبباً يحول بينهم وبين أن يدفعوا باتجاه إحداث تغيير كبير. وقد تتعزز حجتهم بما طرأ نوعاً ما من تراجع في اعتماد الولايات المتحدة على النفط السعودي – نتيجة لارتفاع الإنتاج المحلي – وكذلك الضجر الأمريكي الحاصل إزاء ارتفاع كلفة التورط في المنطقة. ولسوف يفاقم من مشاعر العداء المتنامية في أوساط الديمقراطيين ما يمارسه السعوديون من تحريض للولايات المتحدة حتى تشارك في العمل العسكري ضد إيران، علماً بأن أبرز مرشحي الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة القادمة يريدون للولايات المتحدة أن تعود إلى اتفاق النووي الذي ألغاه ترامب.

لقد تبنت إدارة ترامب الموقف السعودي المتشدد ضد إيران، إلا أن الديمقراطيين مازالوا ينتقدون بشكل مبرر سياسة تبدو مصممة لدفع إيران نحو التخلي عن الاتفاق النووي الذي ما لبثت تلتزم به. إذا ما انتخب رئيس ديمقراطي في عام 2020 وقرر رفع العقوبات عن إيران وتجديد التزام الولايات المتحدة بالاتفاق النووي، فسيكون لذلك أثر عميق على الرياض. ما من شك في أن رد فعل الرياض، وكذلك الحذر الذي ستمارسه الإدارة الجديدة، سيكون لهما تأثير كبير على الجهود المبذولة لإعادة تشكيل العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.