بعد افتضاح أمر الرياض على المستوى الدولي في المجال الحقوقي، الذي بلغ ذروته مع اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2018، في قنصلية بلاده بإسطنبول، لجأت المملكة مؤخرا إلى حيلة أخرى حاولت خلالها إجبار إحدى المعتقلات على تسجيل مقطع فيديو تنفي فيه تعرضها للتعذيب.

كلما حاولت الرياض إخفاء انتهاك حقوقي أو جرم وتنكيل ارتكبته بحق المعارضين السعوديين تورطت في انتهاك وجرم أكبر منه، حقيقة أثبتتها الأحداث المتتابعة التي فضحت انزلاق سلطات المملكة داخل دوامة استبداد لا تنتهي.

تعذيب المعتقلات داخل سجون آل سعود، آخر فضائح آل سعود الحقوقية التي تتابعت أصداؤها يوما بعد يوم، ومع ثبوت تورط السلطات في ارتكاب الانتهاكات تحاول الرياض بائسة لتركيع هؤلاء الناشطات من خلال هذه الاعترافات.

 

لجين الهذلول

أسرة المعتقلة السعودية لجين الهذلول، الناشطة في مجال حقوق المرأة، قالت في 13 أغسطس/آب الجاري: “لجين رفضت عرضا بالإفراج عنها مقابل بيان مصوّر بالفيديو تنفي فيه تقارير عن تعرضها للتعذيب أثناء احتجازها”.

وقال وليد الهذلول شقيق لجين (30 عاما) على صفحته على تويتر: “لجين وافقت في البداية على توقيع وثيقة تنفي فيها تعرضها للتعذيب والتحرش. والتزمت أسرتها الصمت في الآونة الأخيرة، على أمل حل القضية في سرية”.

لكن وليد أضاف أن “أمن الدولة طلب منها في مقابلة مؤخرا تسجيل النفي بفيديو في إطار اتفاق الإفراج عنها، لكنها رفضت هذا العرض. الظهور في فيديو أن لجين لم تتعرض لأي تعذيب مطلب غير واقعي”.

“الهذلول” احتجزتها السلطات السعودية ضمن حملة اعتقالات طالتها هي وما لا يقل عن 12 من الناشطات في الدفاع عن حقوق المرأة، قبل ما يزيد عن عام، ووجهت لها اتهامات متعلقة بالعمل في الدفاع عن حقوق الإنسان والاتصال بصحفيين ودبلوماسيين أجانب.

لكن جلسات محاكمتها لم تعقد منذ أشهر، ولازال احتجازها مستمرا رغم إنهاء السعودية حظر قيادة النساء للسيارات الذي دعت إليه كثير من الناشطات المحتجزات لفترة طويلة.

 

حملات تشويه

النظام السعودي الذي يلجأ حاليا لمعتقلة لتحسين سمعته، هو ذاته من قاد حملة لتشويه سمعة هذه الناشطة وغيرها من المعتقلات، حيث سبق أن وصفتهم وسائل إعلام محلية بـ”الخائنات”، فيما حرصت مواقع التواصل على إظهارهن في صورة الخارجات عن أعراف وتقاليد المجتمع السعودي المحافظ، وذلك بنشر صور قديمة أو مفبركة لهن، تظهرن وكأنهن لا يحترمن قيم ودين وتقاليد المملكة.

صحيفة الجزيرة السعودية نشرت على صدر صفحتها الأولى تحت عنوان “خبتم وخابت خيانتكم” صورة لجين الهذلول والناشطة الأكاديمية عزيزة اليوسف المدافعة عن حقوق الإنسان وإحدى المطالبات بتمكين المرأة من قيادة السيارة.

وجاء في نص الخبر تصريح للمتحدث الأمني لرئاسة أمن الدولة، بأن الجهة المختصة “رصدت نشاطا منسقا لمجموعة من الأشخاص قاموا من خلاله بعمل منظم للتجاوز على الثوابت الدينية والوطنية”.

وزاد المسؤول الأمني بكيل الاتهامات بأن المقبوض عليهم “تواصلوا تواصلا مشبوها مع جهات خارجية فيما يدعم أنشطتهم، وتجنيد أشخاص يعملون بمواقع حكومية حساسة وتقديم الدعم المالي للعناصر المعادية في الخارج بهدف النيل من أمن واستقرار المملكة وسلمها الاجتماعي والمساس باللحمة الوطنية”.

ونقل خبر الصحيفة المحلية عن مصادر مطلعة قولها إن المقبوض عليهم هم: “إبراهيم محمد النفجان – إبراهيم عبدالرحمن المديميغ – محمد فهد الربيعة – عبدالعزيز محمد المشعل – لجين الهذلول – عزيزة محمد اليوسف – إيمان النفجان”.

ونشرت صفحة أخبار السعودية إنفوغرافيك بأسماء المقبوض عليهم، وكتبت على صورة كلا منهم كلمة “خائن” أو “خائنة”.

تلك الحملات على وسائل إعلام السعودية ومواقع التواصل، أدارها سعود القحطاني المستشار الإعلامي السابق في الديوان الملكي، والذي وصفته وسائل الإعلام الغربية وأخرى معنية بالشأن العربي والخليجي بأنه أداة “بن سلمان” في ترهيب الإعلام وترغيب المغردين، وذراع “بن سلمان” الإعلامية الأخطر، و”وزير الذباب الإلكتروني” وغيرها من التوصيفات الأخرى التي تفضح دوره.

 

تعذيب المعتقلات

“القحطاني” له تاريخ “مثير للجدل” في الوسط الصحفي السعودي، وبصفة خاصة في استخدام الإعلام ضد خصومه، لكن دوره لم يقف عند حد إدارة الإعلام، بل وصل التمادي إلى ضلوعه في تعذيب الناشطات المعتقلات، الذي كشفته تقارير منظمتي “العفو الدولية” و “هيومن رايتس ووتش” العام الماضي.

فيما أيّد 3 مشرعين بريطانيين، تلك التقارير، قائلين إن المسؤولية عما يرجح أنه انتهاك للقانون الدولي يمكن أن تقع على عاتق “سلطات سعودية على أعلى مستوى”، كما أدلى شقيق لجين الهذلول بشهادة أمام الكونغرس بشأن اتهام السلطات السعودية بممارسة “التعذيب والتحرش الجنسي” بحق المعتقلات.

“العفو الدولية” ومقرها لندن، قالت في بيان لها إن شهادات 3 أفراد جمعتها المنظمة تشير إلى أن بعض النشطاء المعتقلين “تعرضوا للتعذيب مرارا بالصعق الكهربائي والجلد مما ترك بعضهم، غير قادر على السير أو الوقوف بشكل سليم”، مؤكدة أن بعضهم تعرض “للتحرش الجنسي”.

وفي بيان مماثل، نقلت منظمة هيومن رايتس ووتش عن “مصادر مطلعة” قولها إن المحققين السعوديين عذبوا ما لا يقل عن 3 ناشطات سعوديات منذ بداية مايو/ أيار 2018. شمل التعذيب الصعق بالصدمات الكهربائية، والجلد على الفخذين، إضافة إلى “العناق والتقبيل القسريين”.

وبعد أقل من شهر من تقارير المنظمات الحقوقية، كشفت وكالة رويترز، أن “القحطاني” أشرف على عملية التنكيل بناشطات سعوديات محتجزات، بما يتضمن التحرش الجنسي والصعق بالكهرباء والجلد في منشأة احتجاز غير رسمية في جدة عبر مجموعة من الرجال.

ووصفت المصادر، المجموعة المؤلفة من نحو 6 رجال، بأنها مختلفة عن المحققين المعتادين الذين رأتهم الناشطات من قبل، وقالت إنهم ينتمون للاتحاد السعودي للأمن السيبراني والبرمجة والدرونز (طائرات بدون طيار)، الذي كان القحطاني رئيسه في ذلك الوقت أو إلى جهاز أمن الدولة. وقال مصدران إن القحطاني كان حاضرا عند تعذيب إحدى الناشطات على الأقل.

 

قمع المعارضين

ذلك الغضب يتواصل في ظل حملات متتابعة تشنها السلطات السعودية لإسكات المعارضين، إلا أن تلك الحملات ينفضح أمرها، فهي تقمع المعارضين بالداخل بزجهم في السجون، لكن المعارضين بالخارج مازالوا يشكّلون صداعا في رأس السلطة، مما دفعها لملاحقة ذويهم في الداخل بشتى الطرق.

بداية من مداهمة منازلهم، ومنعهم من السفر واعتقال بعضهم وتهديد الآخرين بالاعتقال وإجبارهم على التبرء من أبنائهم، وغيرها من أدوات التنكيل المختلفة التي يبتكرها النظام السعودي، ويدخله في دوامة لا متناهية من العنف، حتى أصبحت جرائمه تسحب بعضها البعض.

دراسة جديدة أجرتها المملكة كشفت أن عدد طالبي اللجوء السياسي السعوديين سيصل إلى 50 ألف شخص بحلول 2030، ونصحت سلطات الرياض بتبني سياسة أقل تشددا مع المعارضين من خلال منحهم إغراءات لضمان عودتهم إلى البلاد.

فيما تشير بيانات وكالة اللاجئين الأممية إلى أن 815 سعوديا على الأقل تقدموا بطلب للجوء عام 2017، مقارنة بـ 195 عام 2012. وتعد المملكة المتحدة وكندا وألمانيا من بين الوجهات الرئيسية لطالبي اللجوء السعوديين.

صحيفة فانيتي فير الأمريكية، خلصت في تحقيق مطول لها في يوليو/تموز الماضي، إلى أن السعودية تتعامل مع معارضيها كـ”عصابة إجرامية وليس كدولة”.

وأكدت أن عمليات اختطاف المعارضين السعوديين تزايدت مع وصول “بن سلمان” إلى السلطة، ومن خلال المقابلات التي أجرتها المجلة في 3 قارات مع أكثر من 30 شخصا، ناشطون وخبراء أمنيون وأقارب لمخفيين قسراً ومسؤولون حكوميون أميركيون وأوروبيون وشرق أوسطيون، ظهرت صورة أكثر وضوحا حول سجن السلطات السعودية أو استعادة أو حتى قتل من يجرؤ على معارضة سياسات المملكة أو يشوّه صورة الدولة بطريقة أو بأخرى.

ويضم التحقيق قصص 8 أشخاص اختُطفوا مؤخرا وقصص 4 آخرين تمكنوا من الهرب كجزء من برنامج منظم يتجاوز جريمة قتل جمال خاشقجي، كما توصّل التحقيق إلى أن الحملة السعودية لتعقب معارضيها لا رحمة ولا هوادة فيها، وتشبه إلى حد كبير تصرفات عصابة إجرامية، أكثر من كونها حليفاً تقليدياً وعصرياً للولايات المتحدة.

كما حصلت صحيفة واشنطن بوست على تسجيلات سرّبها المعارض السعودي في كندا عمر عبد العزيز، تكشف محاولات السلطات السعودية ملاحقة المعارضين في الخارج وإغراءهم للعودة بالمال والأمن، وهي محاولات تصاعدت منذ أصبح محمد بن سلمان وليا للعهد العام الماضي، وفق منظمات حقوقية.

 

كبر وغرور

سعيد بن ناصر الغامدي الأكاديمي السعودي والمعارض المقيم بالخارج، أكد أن السلطات السعودية تحاول إجبار الناشطات السعوديات على التصريح بعدم تعرضهم للتعذيب لأكثر من سبب أولهما تلافي الضغوط الدولية التي تتعرض لها المملكة، وثانيهما تكذيب المعارضة، أما الهدف الأبرز هو تضليل الشعب السعودي.

ورأى في حديثه مع “الاستقلال”، أن انزلاق المملكة في دوامة العنف المستمر هو نتاج الظلم وثمراته، ونتاج الكبر والغرور في شخصية المسؤول المتمثلة في “بن سلمان” والتي تجعله أكثر تهورا، إذ يعمى الظالم عن رؤية ما فيه النفع العام وحتى منفعته الخاصة.

وأشار المعارض السعودي إلى أن “بن سلمان” مستند على من يعتقد أن مقاليد الكون بأيديهم، وهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر، ورئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والكنيسة الإنجيلية واللوبي الصهيوني، ولذلك يتصرف “بعناد طفل وغباء معتوه وإصرار جاهل”.

“الغامدي” توفيت ابنته 4 أغسطس/آب الماضي، دون أن يتمكن من رؤيتها كونه مطلوبا لدى السلطات السعودية، ويقيم خارج البلاد، كما مُنعت عائلته من السفر إلى خارج البلاد، ومورست بحقها تجاوزات إنسانية.

وفي عيد الفطر الماضي، عبَّرت ابنته لبنى، البالغة من العمر 6 سنوات، عن اشتياقها إلى والدها، وهو ما أثار تفاعلا كبيرا معها على مواقع التواصل.

وقالت لبنى، في فيديو نُشر على حساب والدها بـ “تويتر”: “متى نشوفك (نراك) يا بابا؟ وليش (لماذا) منعونا نسافر عندك؟ ويش (ماذا) سوّينا (فعلنا)؟ لما رجّعونا من المطار جلست أبكي، وأنا وأبان ورفيف نبغى (نريد) أنت اللي (الذي) تعيّدنا، وترانا دائما ندعي لك”.

المعارض السعودي ماجد الأسمري، قال إن التحرش بالنساء المعتقلات، والوفيات بالسجون جراء التعذيب أو الإهمال الصحي أصبح أمرا معتادا، بسبب التواطؤ الأمريكي مع الحكومة السعودية بالصمت عن جرائمها، خاصة في عهد ترمب.

وأضاف لـ “الاستقلال”: “ترامب رفض إدانة الحكومة السعودية في جريمة اغتيال خاشقجي وحاول إعاقة أي تحقيقات تخص هذه الجريمة الدولية العابرة للقارات مع سبق إصرار وترصد، وبمشاركة أغلبية الجمهوريين في مجلسي الكونغرس”.

وأكد “الأسمري” أن وجود ترمب في البيت الأبيض يغطي على تصرفات النظام السعودي الحمقاء أكثر من كونه تغطية من قبل النظام على جريمة بجرائم أخرى متعاقبة.

ولفت إلى أن الحكومة السعودية بقيادة ولي العهد بن سلمان أصبحت تتصرف كما تشاء في حق مواطنيها فتسجن الآلاف منهم ولم تعد تحترم أي اعتبارات سابقة كانت الدولة السعودية تتخذها في الحسبان من خشية التلاعب بدين أو ثقافة أو ضوابط المجتمع السعودي”.