لا تفتأ المملكة العربية السعودية تستهدف في خطابها الإعلامي الجمهورية التركية، محاولة إشعال توتر بين الجانبين زاد مع صعود محمد بن سلمان إلى ولاية العهد، وحدوث جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في 2 أكتوبر 2018 في قنصلية بلاده بإسطنبول.

وكانت آخر محاولات الرياض في وقوفها ضد تركيا، مهاجمتها الحملة العسكرية التي تشنها أنقرة في مناطق شرق الفرات شمالي سوريا ضد الفصائل الكردية الانفصالية التي كانت مدعومة من قبل الولايات المتحدة.

ومنذ الإعلان عن عملية “نبع السلام”، في 7 أكتوبر الماضي، بشكل رسمي من أجل إنشاء منطقة آمنة تضمن عودة اللاجئين، وإنهاء التهديد الأمني الذي تشكله الوحدات الكردية على مستقبل سوريا والأمن القومي التركي؛ بدأت وسائل الإعلام السعودية تهاجم الحكومة التركية بوسائل شتى وتحرض ضدها، حتى وصلت لاستخدام ورقة الأرمن.

 

استجلاب مجازر الأرمن

وفي إطار ذلك نشرت قناة “الإخبارية” الرسمية السعودية، يوم الجمعة (11 أكتوبر الجاري)، تقريراً حمل عنوان “بين مذابح الأرمن وإبادة الأكراد.. التاريخ يعيد نفسه”، في إشارة إلى عملية “نبع السلام” التي تستهدف الوحدات الكردية الساعية للانفصال شمالي سوريا.

وبدأ التقرير بعبارات تحريضية وبلغة عدائية تجاه أنقرة، زاعماً أن هناك إبادات تركية بحق العرب، ثم حملة منظمة للقوات العثمانية ضد الأرمن، معتبراً أنها أول الإبادات الجماعية في القرن العشرين.

وكل التقرير مبني على الرواية الأرمنية دون التطرق للوثائق التركية التي تعتبر الحادثة أليمة جداً ولكن مبالغاً فيها، خصوصاً مع وقوع قتلى بالآلاف من الطرف العثماني على يد العصابات الأرمنية.

صحيفة “إندبندنت عربية” التي تملكها الرياض، ذكرت في تقرير لها أيضاً يوم الأربعاء (9 أكتوبر الحالي)، حمل عنوان “بعد إعلانها الاستعداد للعملية، هل تكرر تركيا مذبحة الأرمن ضد أكراد سوريا؟”، وهو يحمل ذات اللغة العدائية التي مرت في الفيديو.

التقرير حمل الكثير من المبالغات في أعداد الضحايا دون إثباته بدلائل، وربطه مع عملية “نبع السلام” موجهاً اتهامات للجيش التركي بأنه سيقوم بمجازر بحق “الأكراد”، دون الانتباه إلى أنّ بين الجنود الأتراك من هم أكراد العرق، ولم يذهبوا ليقاتلوا الأكراد المدنيين إنما المنظمات والمليشيات التي تتبع لحزب العمال الكردستاني المصنف على لوائح الإرهاب أصلاً.

وهذه ليست أول مرة تتناول فيها السعودية ملف الأرمن، ففي مايو الماضي شاع على وسائل التواصل الاجتماعي وفي عدد من وسائل الإعلام، أن سفيرة المملكة في واشنطن، ريما بنت بندر بن سلطان آل سعود، أعربت عن دعم الرياض لأحد مشاريع القوانين في الكونغرس الأمريكي، والذي يتعلق بالاعتراف بـ “الإبادة ضد الأرمن” في عهد الدولة العثمانية.

لكن بعد فترة نفت سفارة المملكة في أذربيجان الحادثة في سلسلة تغريدات على موقع تويتر قائلة: إن “هذا الحديث عارٍ عن الصحة وأن سمو السفيرة لم تقم بلقاء أي من أعضاء الكونغرس حتى الآن، ولم يصدر من سموها أي تصريح في هذا الشأن، وتبين السفارة أن تلك المواقع والصحف دائماً ما تقوم بإثارة مواضيع غير صحيحة عن المملكة ومواقفها..”.

في الوقت نفسه، تناولت وسائل إعلام المملكة عكس ما ورد في بيان السفارة السعودية، محاولة إلقاء اللوم على الحكومة التركية في أحداث حصلت قبل 100 عام، ولا توجد أدلة كافية للإدانة حتى الآن، ولا علاقة للعملية الجارية في شمال سوريا بذلك إطلاقاً.

 

ماذا حدث عام 1915؟

تعاون القوميون الأرمن مع القوات الروسية؛ بغية إنشاء دولة أرمنية مستقلة في منطقة الأناضول، وحاربوا الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى التي انطلقت عام 1914.

وعندما احتل الجيش الروسي شرقي الأناضول لقي دعماً كبيراً من المتطوعين الأرمن العثمانيين والروس، كما انشق بعض الأرمن الذين كانوا يخدمون في صفوف القوات العثمانية، وانضموا إلى الجيش الروسي.

وبينما كانت الوحدات العسكرية الأرمنية تعطل طرق إمدادات الجيش العثماني اللوجستية، وتعيق تقدمه، عمدت العصابات الأرمنية إلى ارتكاب مجازر ضد المدنيين في المناطق التي احتلوها، ومارست مختلف أنواع الظلم بحق الأهالي.

وسعياً منها لوضع حد لتلك التطورات حاولت الحكومة العثمانية إقناع ممثلي الأرمن وقادة الرأي لديهم، إلا أنها لم تنجح في ذلك، ومع استمرار هجمات المتطرفين الأرمن، قررت الحكومة، في 24 أبريل من عام 1915، إغلاق ما يعرف باللجان الثورية الأرمنية، واعتقال ونفي بعض الشخصيات البارزة منهم. واتخذ الأرمن من ذلك التاريخ ذكرى لإحياء “الإبادة العرقية” المزعومة، في كل عام.

وفي ظل تواصل الاعتداءات الأرمنية رغم التدابير المتخذة، قررت السلطات العثمانية، في 27 مايو من عام 1915، تهجير الأرمن القاطنين في مناطق الحرب، المتواطئين مع جيش الاحتلال الروسي، ونقلهم إلى مناطق أخرى داخل أراضي الدولة العثمانية.

ومع أن الحكومة العثمانية خططت لتوفير الاحتياجات الإنسانية للمهجّرين، فإن عدداً كبيراً من الأرمن فقد حياته خلال رحلة التهجير بسبب ظروف الحرب، والقتال الداخلي، والمجموعات المحلية الساعية للانتقام، وقطاع الطرق، والجوع، والأوبئة.

وتؤكد الوثائق التاريخية عدم تعمد الحكومة وقوع تلك الأحداث المأساوية، بل على العكس، لجأت إلى معاقبة المتورطين في انتهاكات ضد الأرمن في أثناء تهجيرهم، وأُعدم المدانون بالضلوع في تلك المأساة الإنسانية، رغم عدم وضع الحرب أوزارها.

وعقب انسحاب روسيا من الحرب جراء الثورة البلشفية عام 1917، تركت المنطقة للعصابات الأرمنية، التي حصلت على الأسلحة والعتاد الذي خلفه الجيش الروسي وراءه، واستخدمتها في احتلال العديد من التجمعات السكنية العثمانية.

وبموجب معاهدة “سيفر”، التي اضطرت الدولة العثمانية إلى توقيعها، فُرض تأسيس دولة أرمنية شرقي الأناضول، إلا أن المعاهدة لم تدخل حيز التنفيذ، ما دفع الوحدات الأرمنية إلى إعادة احتلال شرقي الأناضول، وفي ديسمبر 1920 جرى دحر تلك الوحدات، ورسم الحدود الحالية بين تركيا وأرمينيا لاحقاً، بموجب معاهدة “غومرو”.

لكن تطبيق المعاهدة تعذر بسبب كون أرمينيا جزءاً من روسيا في تلك الفترة، ومن ثم جرى قبول المواد الواردة في المعاهدة عبر معاهدة موسكو الموقعة 1921، واتفاقية قارص الموقعة مع أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، لكن أرمينيا أعلنت عدم اعترافها باتفاقية قارص، عقب استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، عام 1991.

 

“نبع السلام” في الإعلام السعودي

وتناولت القنوات الممولة من السعودية والإمارات الأخبار المتعلقة بعملية “نبع السلام” التركية في سوريا بلغة بعيدة عن الموضوعية وبدا التخبط ملحوظاً.

وكتب الأكاديمي أحمد بن راشد بن سعيّد على حسابه بموقع “تويتر” (9 أكتوبر الجاري) أن “هذه الليلة صعبة على قناة العربية ومواليها، فقد استضافت الناطق باسم تنظيم قسد (قوات سوريا الديمقراطية)، فتحدّث بصوت متهدّج عن الصدمة من قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التخلي عنهم، كانت المذيعة حزينة هي الأخرى، العناوين تقول كل شيء، والوجوه أيضاً”.

عرض الصورة على تويترعرض الصورة على تويترعرض الصورة على تويترعرض الصورة على تويتر

أما “بوابة العين” الإماراتية فاعتبرت أن العملية العسكرية التركية ستكون بمنزلة “الغزو” لشمال سوريا، في الوقت الذي عنونت صحيفة “الوطن” السعودية أحد أخبارها عن العملية المرتقبة بـ: “تركيا تتأهب لاجتياح شمال سوريا”.

وتعد العملية العسكرية التركية بمنزلة الضربة الكبرى التي سيتلقاها حلف “الثورات المضادة” بقيادة الرياض وأبوظبي في المنطقة العربية، حيث سعتا خلال السنوات الماضية لتمويل الجماعات الكردية الانفصالية في الشمال السوري لمقارعة تركيا، وضرب وحدة سوريا وتقسيمها لدويلات عرقية.

وبينما كانت الرياض تتشبث بوجود القوات الأمريكية في شمال سوريا لمنع أي تحركات لتركيا، وجدت نفسها هذه المرة عاجزة في وجه أنقرة، بعد أن تركتها واشنطن التي أعلنت، مطلع أكتوبر الجاري، سحب جميع قواتها التي كانت تقف حاجزاً أمام تقدم الجيش التركي.

وسبق للرياض أن أرسلت وفداً رسمياً إلى المناطق المتاخمة للحدود السورية التركية، برئاسة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، ثامر السبهان، في يونيو 2019.

ومع بدء العملية يوم الخميس 10 أكتوبر الحالي قالت المملكة، في بيان صادر عن وزارة خارجيتها إنها تعبر عن إدانتها لـ “العدوان الذي يشنه الجيش التركي على مناطق شمال شرق سوريا، في تعدٍّ سافر على وحدة واستقلال وسيادة الأراضي السورية”.

لكن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان رد على ذلك في ذات اليوم قائلاً: إن “على السعودية أن تحاسب من يقتل آلاف المدنيين في اليمن”.

وسبق أردوغان، وزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو، معلقاً على إدانة السعودية، ومذكراً المملكة بنتائج عملياتها في اليمن ضمن التحالف الذي تقوده ضد جماعة الحوثي.

ونقلت وكالة “الأناضول” التركية الرسمية على لسان الوزير قوله: “لقد قتلتم الكثير من الناس في اليمن، وتركتم أشخاصاً جياعاً، والآن بأي وجه تعارضون عملية نبع السلام؟”، مشيراً إلى أنه ومن خلال العملية “سيتم تطهير المنطقة من الإرهابيين، وضمان وحدة حدود وتراب سوريا، وعودة المهجرين إلى أراضيهم، وتأسيس السلام والاستقرار في المنطقة”.

ويرى مراقبون أن الدعم الإماراتي السعودي للوحدات الكردية كان لعدة أسباب؛ فهي تشكل خطراً على وحدة التراب السوري، وتشكل تهديداً أمنياً لاستقرار المناطق الحدودية التركية، وذراع مليشياتية انفصالية شبيهة بالتي تدعمها الإمارات في عدن اليمنية، كما أن دعمها يصب في مصلحة نظام الأسد الذي أعادت أبوظبي العلاقات السياسية كاملة معه أواخر 2018.

جدير بالذكر أن الحكومة التركية تسعى إلى إنشاء منطقة آمنة شرق الفرات شمالي سوريا، من أجل القضاء على التهديدات المباشرة وغير المباشرة التي تطول المدن التركية القريبة من الحدود، وتوفير البيئة الملائمة لعودة السوريين إلى ديارهم، وتشكيل فرصة جديدة لإحلال وحدة الأراضي السورية، على طول 422 كيلومتراً من حدود تركيا مع سوريا، وبعمق يصل إلى 30 كيلومتراً.