عبير كايد
لقد ضاق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذرعا بوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA)؛ التي ضربت بعرض الحائط التصريحات الضبابية المتكررة التي أطلقها بشأن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول، حيث اعتبرت “سي آي إيه” بطريقة غيرة مباشرة؛ تلك التصريحات بأنها تستر على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ومراوغة غير مقبولة من قبل البيت الأبيض في وجه الضغوطات العالمية والمحلية الإعلامية والكونجرس، مقابل تركيا التي ألمحت أكثر من مرة أن قرار مقتل خاشقجي لا يمكن أن يكون أُخذ إلا بإيعاز من مسؤول كبير في أعلى هرم في السلطات السعودية. وأطلعت تركيا منذ بداية القضية الجانب الأمريكي على تلك المعلومات مسبقا، والتي ورد فيها تواصل هاتفي بين خاشقجي وسفير المملكة لدى واشنطن خالد بن سلمان، شقيق ولي العهد.
وبدورها، صرحت وكالة الاستخبارات الأمريكية منذ البداية بأنها رصدت مكالمات هاتفية لدبلوماسيين سعوديين يخططون لاستدراج واغتيال جمال خاشقجي. أما اليوم، فقد نشرت الـسي آي إيه هذه المعلومات عشية جلسة خاصة لمجلس الشيوخ الأمريكي، حيث أجمع المشرعون على ضرورة محاسبة ليس فقط القتلة الذين ارتكبوا الجريمة، بل ورئيسهم الذي أمر بها، وقد أشارت إليه تقارير المخابرات، حيث قال “ماهر مطرب”: “قل لرئيسك إن المهمة أنجزت!”، وهنا الإشارة إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان؛ كونه يسيطر على كل أركان الدولة، وسرح منذ عام تقريبا الحرس الوطني عند الحدود اليمنية، واستبدله بشركات خاصة أمريكية مرتزقة لتحميه.
انعدام استقلالية القضاء السعودي
إن انعدام نظام قضائي مستقل في السعودية يستبعد تلقائيا تصديق الشفافية في استصدار التقارير، أيضا في تشريع وانتزاع قرار قضائي شفاف دون تدخل لولاة الأمر، على رأسهم الملك نفسه. أضف إلى ذلك أن المدعي العام للنيابة السعودية يعين من قبل الملك ومتصل به مباشرة، مما يعيق عمله باستقلالية، وبالتالي يشكك في مصداقية قراراته القضائية كمدع عام مستقل.
وبما أن الملك سلمان ليس بكامل قواه الجسدية والعقلية اليوم، وابنه يتحكم بمقاليد السلطة، فإن الحاكم الفعلي بالمملكة هو ولي العهد محمد بن سلمان ولا أحد سواه، وما قام به من تصفيات لخصومه من الأمراء، على رأسهم محمد بن نايف بن عبد العزيز، وواقعة الريتز كارلتون، إضافة إلى حصار قطر، يقلل من نزاهة النيابة العامة أصلا وأهليتها على عمل وفعالية القضاء والقرارات الصادر عنه. فهي مؤسسة قضائية غير مستقلة وتأسست منذ 31 عاما أيّام الراحل الملك فهد، وكانت تُسمى هيئة التحقيق والادعاء العام بالمرسوم الملكي رقم (م/56) عام 1987، لكنها اعتمدت اسمها الجديد كنيابة عامة فقط منذ عام 2017 بصدور أمر ملكي رقم (أ /240). وهي تعاني من خلل في استقلاليتها، ونزاهة قراراتها، واستفحال استخدام الواسطة المتعارف عليها تقليدا في المجتمع السعودي بصورة عامة، وخصوصا أنها تنتهك الشريعة الإسلامية التي هي مصدر يُعمل بها كدستور إلى جانب قرارات المحكمة الجزائية، وذلك بسبب الضغوط التي تُمارس عليها من قبل أبناء الأسرة الحاكمة لاستصدار قرارات قضائية لصالح مجموعات محسوبة عليهم، مما يعزز تقرير المخابرات الأمريكية التي خلصت إليه أن كل ما يحصل في السعودية مستحيل أن يكون بدون علم مسبق من ولي العهد الذي بيده زمام الأمور والكلمة الأخيرة.
لذا، تأتي تسريبات السي آي إيه، خصوصا بعد نشر الجانب السعودي رواية تناقض الرواية التركية، وخصوصا تلك التي تشير فيها إلى أن نية قتل خاشقجي لم تكن “مبيتة”، بل عادت السعودية إلى الروايات المضللة والمتناقضة، والتي بات الجميع يحفظها عن ظهر قلب!
كما أن تركيا أشارت إلى ضلوع ولي العهد بهذا القرار، لكنها لم تشر إليه بالاسم. وتبادلت مخابرات كلا البلدين (أمريكا وتركيا) ما بحوزتهما من أدلة لتعزيز شفافية الادعاءات، منذ بداية القضية.
ومحاولة السعودية تمييع القضية وعدم التعاون مع الجانب التركي أوصلها إلى المهلكة، لذا قرار المخابرات الأمريكية جاء لوضع حد للكذب من الجانب السعودي، ووقف المهاترات التي تخرج كل يوم على الرأي العام العالمي برواية لا تشبه سابقتها، بل تضعفها أمام المجتمع الدولي، وتضر بها أيضا أمام الرأي العام السعودي الذي بدا أخيرا يصدق الغرب والإعلام، مقابل أكاذيب وروايات خيالية ينسجها ابن سلمان وينطق بها وزير الخارجية عادل الجبير، والذي هو أيضا وجبت محاسبته قضائيا كونه يعلم بأن الفريق الذي سافر إلى تركيا بحجة التعاون معها؛ لم يكن فريقا نزيها، بل كانت له مهمة أيضا نيتها “مبيتة”، وهي طمس آثار الجريمة الأولى التي قُتل فيها خاشقجي، ليُقدم هو الآخر على جريمة أخرى، وهي طمس الحقائق بغطاء من وزارة الخارجية السعودية والديوان الملكي.
انعدام المحسوبيات
وصحيح أن مديرة وكالة الاستخبارات المركزية جينا هاسبل عيّنها ترامب، لكنها تعمل لصالح أكبر مؤسسة استخباراتية أمريكية حكومية، وهي وكالة الاستخبارات الأمريكية، وليس البيت الأبيض أو ترامب بموجب قواعد وضعها الدستور الأمريكي، إنما مهمتها جمع المعلومات لحماية الأمن القومي الأمريكي ومصالحها خارج وداخل الولايات المتحدة.
لذا، من غير المنطقي أن تتهرب “هاسبل” من مسؤوليتها الأخلاقية والمهنية أمام الكونجرس خلال الإدلاء بشهادتها، كي ترضي ترامب الذي عيّنها كونها من حزبه الجمهوري وتخدم مصالحه الاقتصادية على حساب سمعة المخابرات الأمريكية ونزاهتها.. هذا لن يحصل!
ارتباك ترامب
تصريح ترامب الأخير بتشبثه بهذا الحليف، وإقراره بأن لديه أشرطة وأدلة ويرفض حتى سماعها لبشاعتها – حسب ما صرّح – ما هو ربما إلا تواطؤ للرئيس ترامب مع ولي العهد، وربما إشارة سلبية أو مؤشر خطير يدفعنا إلى التساؤل علنا: هل كان ترامب على علم بالجريمة من قبل حدوثها؟ وبالتالي يحمل دلائل ربما أن ترامب نفسه كان على علم مسبق بالاغتيال ويعرضه للشكوك، وهو بذلك لا يريد أن يتورط شخصيا الآن!
الكونجرس له بالمرصاد!
والرد جاء سريعا وبقوة من السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام؛ بأن السعودية حليف مهم، وليس ابن سلمان! وأن ابن سلمان قوة مدمرة في الشرق الأوسط، حيث أنه فرض حصارا على قطر دون إعلام أحد، وشن حربا مدمرة على اليمن. إذن، التصعيد الأمريكي من قبل مجلسي الشيوخ والنواب معا. كما أن تصريح غراهام ما هو إلا رسالة لترامب وللشعب الأمريكي والعالم بأن ولي العهد شخصية غير مرغوب فيها، ووجبت الإطاحة به، فهو سرطان وخطر على الأمن الخليجي العربي، وعلى المصالح الأمريكية والعلاقات الأمريكية – السعودية! كما أن بقاءه يهدد القيم والمعايير الأمريكية التي تُنادي بها عالميا، والتي يعمل بموجبها الدستور الأمريكي! نعم دخلت أمريكا بمؤسستها الاستخباراتية والتشريعية حيزا واضحا لا مكان للالتباس فيه، وهو “ما بعد ابن سلمان”! عليكم بأن تبايعوا وليا جديدا للعهد قبل فوات الأوان، ولن يمر مقتل خاشقجي مرور الكرام دون خلع ولي العهد الحالي ومحاسبته الفورية قضائيا.
أما تركيا بدورها، فهي الأخرى على ضفاف مجلس الأمن، ويدفع الأتراك إلى محاسبة ابن سلمان والقتلة أمام مجلس الأمن، لتصبح بذلك إدانة دولية ضده. كمان أن اللاعب الأبرز الآن في تقرير مصير أو رحيل ابن سلمان ليس فقط تركيا، إنما أيضا الإعلام الأمريكي الذي سلب، وبجدارة، السلطة القضائية والتشريعية من أصحابها، وأصبح يضغط باستمرار على السلطة التنفيذية لانتزاع قرار حاسم لا لَبْس فيه، فله الدور الأكبر في نزاهة القرار التشريعي، وإليه يعود الفضل بهذا التحرك التشريعي.
فهل سينتصر الإعلام الأمريكي والكونجرس على الرئيس، ويتم تغيير البوصلة لصالح القيم الإنسانية والعدالة الأمريكية التي ينعم بها المواطن الأمريكي وترجمت خلال الانتخابات الأخيرة عبر التصويت لصالح الديمقراطيين الذين حصلوا على أغلبية بمجلس النواب لمعاقبة ترامب على أدائه؟ وهل بالفعل هناك علاقات متشعبة وسرية وشخصية للغاية بين ترامب وابن سلمان لا أحد يدري بها؟ ولماذا تصريح ترامب الذي قال فيه حرفيا “أنا متشبث به”؟ وهل السعودية فقط ابن سلمان؟ أم أن ترامب بطريقة غير مباشرة يقلل من الأمراء الآخرين في آل سعود لقيادة السعودية؟ لكن علاقة ترامب المشبوهة التي باتت محط سؤال صريح لدى الجميع وإدانة مستمرة داخليا وخارجيا؛ ستزيد من الضغوطات الأمريكية الداخلية ضده وحليفه المتهم بإعطاء الأوامر لقتل خاشقجي.. لكن لماذا إصرار ترامب على أن ابن سلمان حليف على عدة أصعدة؟ وماذا سيدفع ترامب ثمنا لهذه الدفاع والتستر المفضوح؟
وأخيرا، لو استمر ترامب برفضه سماع الأشرطة التي تدين ولي العهد مباشرة، فهذا ربما يعني علم ترامب مسبقا بمخطط الاغتيال ومحاولته التستر عليه، وهو ما قد يستوجب الآن مساءلة ترامب في الكونجرس.. فهل سيتحرك الكونغرس لمساءلة ترامب نفسه؟