تشهد سياسات الإمارات والسعودية في حربهما المستمرة منذ سنوات على اليمن، حالة من تضارب المصالح وصراع على النفوذ على الرغم من ترويجهما لتحالف إعلامي مزعوم.

ففي مقدمة المصالح والأهداف السعودية من تدخلها العسكري في اليمن يقع منع التمدد الإيراني إلى اليمن، والحيلولة دون بروز قوة عسكرية يمنية موالية لإيران على غرار حزب الله اللبناني، تستطيع تهديد الأمن القومي للمملكة، والإضرار باستقرار المنطقة.

وبحسب دراسة صدرت عن “منتدى الدراسات العربية” تلتقي الإمارات مع هذه المصالح السعودية من زوايا مختلفة.

إذ أن التمدد الإيراني في اليمن يعني بالنسبة للإمارات تهديد منطقة خليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر؛ حيث تكمن المصالح الاقتصادية والتجارية البحرية للإمارات، وتزدهر طموحاتها بتكوين نفوذ بحري واسع في المرافئ والمضايق الواقعة على امتداد هذه المنطقة البحرية الهامة.

ومن هذه الزاوية لا تقل المخاوف الإماراتية من النفوذ الإيراني في جنوب اليمن عن المخاوف السعودية من نفوذ إيراني مشابه في الشمال.

بل تبدو مخاوف الإمارات أكثر عمقًا ومدعمة بقدر هائل من الخبرة التاريخية السيئة مع النفوذ الإيراني في الخليج العربي.

فمن المعلوم أن احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث الواقعة على المدخل الشمالي للخليج العربي، حرم الإمارات من النفاذ المباشر إلى مضيق هرمز الاستراتيجي، وربما كان من بين الأسباب الجيولولوتيكية التي دفعت بها إلى البحث عن نفوذ بحري في نطاقات مائية أخرى.

وبالتالي فمن مصلحة الإمارات إبعاد إيران عن البحرين العربي والأحمر، وهذا لا يلتقي فقط مع المصالح السعودية وإنما كذلك مع السياسة الدولية لأمن هذا المجال المائي الحيوي.

علاوة على ذلك يحمل البلَدان (السعودية والإمارات) تطلعات مشتركة لبناء النفوذ في منطقة القرن الإفريقي، وهذا يقتضي منهما القيام أولًا بقطع الطريق على أي تمدد إيراني في خليج عدن والبحر الأحمر، لقد “كانت الأولوية بالنسبة إلى السعودية والإمارات إبعاد النفوذ الإيراني عن جوارهما القريب.

بيد أن القرن الإفريقي اكتسب أيضًا أهمية استراتيجية بسبب النزاع اليمني، وقد أظهر هذا الثنائي النافذ والطموح [السعودية والإمارات] اهتمامًا مطّردًا بممارسة نفوذ جيوسياسي في المنطقة.

في السياق نفسه تعارض الإمارات مساعي الهيمنة الإيرانية على المنطقة، ويعدّ الحفاظ على أمن السعودية وبقاء كيانها متماسكًا أمرًا مهمًا لجهة عدم الإخلال بالتوازن الإقليمي بين أكبر قوتين إقليميتين في منطقة الخليج العربي (السعودية وإيران).

ولعل من المهم التذكير بأن موقف الإمارات كان حازمًا بالتدخل إلى جوار السعودية في البحرين دون أي حسابات إماراتية متعلقة باكتساب نفوذ في هذه الدولة الخليجية الصغيرة التي تُعدّ جزءًا لا يتجزأ من أمن السعودية القومي.

وانخرطت الإمارات في استراتيجية “الضغوط القصوى من خلال العقوبات الاقتصادية” التي اتبعتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب منذ مايو/ أيار 2018م كوسيلة لكبح التهديدات الإيرانية في المنطقة والحد من طموحاتها النووية.

غير أن الإمارات لم تكن على ثقة بنجاعة هذه السياسة، وظل انخراطها محدودًا رغم أن حجم تجارتها مع إيران انخفض في العام 2019م إلى 3.5 مليار دولار.

وبينما يُنظر إلى الاعتبارات الاقتصادية متمثلة في المصالح والمبادلات التجارية الضخمة التي تربط الإمارات بطهران كسبب وراء الحذر الإماراتي من المشاركة النشطة في سياسة الضغوط القصوى، يذهب البعض إلى أن السبب الأهم هو الخشية من أن يؤدي الانخراط الكامل في التصعيد مع إيران إلى عواقب مباشرة على أمن الإمارات خاصة وأن الالتزام الأمريكي بحماية أمن دول الخليج كان غامضًا ولا يحظى بالمصداقية.

كما أن الهجمات الصاروخية المنفلتة تمثل خطرًا محدقًا بالإمارات فـ “الإمارات أصغر وأكثر ضعفًا من السعودية، أمام الهجمات الصاروخية تحديدًا”.

وقد تعمّق هذا الاتجاه الإماراتي في حساب العواقب الأمنية من وراء التصعيد مع إيران، عقب الهجمات التي تعرضت لها ناقلات النفط الأربع في ميناء الفجيرة مايو/أيار 2019م، والتي رفضت الإمارات اتهام إيران بالوقوف وراءها، رغم أن تقارير أمريكية أكدت ذلك.

وفي أغسطس/ آب 2019م وقّعت الإمارات الاتفاق الأمني البحري مع إيران؛ ليزور ولي عهد أبوظبي الرياض بعد ذلك بأيام لتأكيد أن الإمارات تنسّق خطواتها مع الرياض.

يخضع السلوك الإماراتي فيما يتعلق بالتعامل مع إيران لاعتبارات اقتصادية وأمنية معقدة، يُعتقد أنها تلقى تفهّمًا سعوديًا.

وعليه يمكن القول إن الدور الإماراتي في اليمن لا يتصادم مع المصالح الحيوية للسعودية رغم اختلاف النظرة لمدى التهديدات الإيرانية وطريقة التعاطي معها.

فمنع التمدد الإيراني والحفاظ على أمن المملكة والخليج يمثل مصلحة أساسية مشتركة لكلا البلدين؛ بدوافع ومستويات مختلفة بعض الشيء لكنها أساسية وأكيدة.

 

سياسات نفوذ مشتركة

عادة ما يجري تعليل ضعف الحضور السعودي في قيادة المعارك البرية خلال عمليتي “السهم الذهبي” (2015م) و”الرمح الذهبي” (2017م)، بعامل انشغال السعودية بتأمين حدودها الجنوبية مع اليمن.

ومع تأكيد أن الإمارات جنت من كلا العمليتين مكاسب جيوسياسية واقتصادية هائلة بالسيطرة على موانئ هامة على البحر العربي وخليج عدن ومضيق باب المندب، فإن من الصعب التسليم بكفاية هذا العامل في تفسير التوجه السعودي بإطلاق اليد الإماراتية في اليمن، سيما وأن الكثير من المكاسب الجغرافية آلت إلى نوع من السيطرة المشتركة بين البلدين.

ففي سقطرى وميون ثمة سيطرة مشتركة إماراتية- سعودية على الجزيرتين لا تخطئها العين، وهذا ينطبق أيضًا على محافظتي شبوة وحضرموت النفطيتين.

إن تصدّر الإمارات لقيادة العمليتين العسكريتين المشار إليهما يعود إلى خشية السعودية من أن يثير وجود قواتها وسيطرتها على أجزاء من الأراضي اليمنية حساسية لدى اليمنيين جراء النزاع الحدودي التاريخي بينها وبين اليمن، أو أن يولّد أحقادًا على السعودية بسبب استحواذها على المزيد من الأراضي اليمنية تحت غطاء الحرب ضد الحوثيين.

لقد كانت السعودية حذرة في مسألة الوجود البري لقواتها في اليمن منذ الوهلة الأولى للحرب، ففي حين شاركت قوة إماراتية في معارك تحرير عدن على النحو الذي سبقت الإشارة إليه، فإن مشاركة السعودية في قتال الحوثيين بعدن اقتصرت على إنزال فرقة خاصة في مدينة كريتر مطلع مايو 2015م مكوّنة من خمسين عنصرًا يمنيًا كانوا يخدمون في القوات المسلحة السعودية.

واكتفت السفن الحربية السعودية ومعها المصرية بدكّ مواقع الحوثيين من عرض البحر، إضافة للغارات الجوية السعودية الكثيفة بطبيعة الحال.

في الواقع لا تتوفر معلومات كافية يمكنها تعزيز ما تذهب إليه هذه الورقة من أن السيطرة الإماراتية على الموانئ والجزر اليمنية هي سيطرة سعودية بالدرجة نفسها، وأن السعودية قررت لأسباب تاريخية أن تقف في خلفية المشهد العسكري البري، مستفيدة من ولع الإمارات بلعب أدوار استثنائية وطموحاتها الجامحة لتكوين النفوذ.

مع ذلك تقدّم محافظة المهرة صورة واضحة لنهج استخدام السعودية للإمارات كـ “مخلب قط” وليس فقط شريكًا أصغر في السيطرة على الأراضي والموانئ اليمنية لمنافع مشتركة سعودية/ إماراتية، فقد شهدت نهاية العام 2015م طلائع الوجود الإماراتي في المهرة تحت ستار تدريب قوات الأمن في المحافظة.

لكن الغرض الفعلي من وصول “الممثلين الإماراتيين” إلى المهرة في ذلك الوقت المبكر كان التمهيد للسيطرة على المهرة المتاخمة لسلطنة عُمان، وربما بالآليات نفسها المتبعة إماراتيًا في محافظات جنوبية أخرى (إغداق الأموال لشراء الولاءات، وتنظيم زيارات إبهار إلى الإمارات، وإنشاء حزام أمني أو قوات نخبة وما شابه).

غير أن الوجود الإماراتي أثار حساسية عمانية شديدة؛ نظرًا للعلاقات التاريخية غير الودية بين البلدين، وترجم إلى استنهاض حملة تصعيد شعبية ورسمية في الوسط الاجتماعي الذي تمتلك فيه عمان نفوذًا تقليديًا، اضطرت معه الإمارات لتصفية وجودها في المحافظة

لتبدأ السعودية بممارسة النفوذ المباشر في المهرة بعد أن فشلت الإمارات، وذلك عبر نشر قواتها والاستيلاء على المواقع الحيوية في المحافظة كمطار الغيظة وميناء نشطون، ومعبَري صرفيت وشحن الحدوديين مع عمان في نوفمبر 2017.

إذ لم يكن بمقدور السعودية التخلي عن هدف إقامة النفوذ في هذه المحافظة التي يمكن عبر أراضيها مد أنبوب نفط سعودي إلى موانئ بحر العرب، يؤمن للسعودية وللإمارات معًا استمرار تصدير نفطهما في حال أغلقت إيران مضيق هرمز.

تضيف جزيرة سقطرى مثالًا آخر على نهج تبادل الأدوار السعودية الإماراتية في المراحل الأولى من الحرب، أي قبل الانسحاب الإماراتي من الحرب، فقد قبلت الحكومة اليمنية بعد إنزال الإمارات قواتها في الجزيرة وسيطرتها على الميناء والمطار في أبريل 2018م، بوجود قوات سعودية كنتيجة للوساطة التي قادتها الرياض بين الحكومة والإمارات.

وانتهت بتخفيف الوجود العسكري الإماراتي في الجزيرة بعد تقديم الحكومة شكوى لمجلس الأمن، ورغم ذلك استمرت الإمارات في ممارسة سياساتها الناعمة لاستقطاب السكان المحليين في الجزيرة وواصلت سياسات التجنيس، وكوّنت قوات تابعة للمجلس الانتقالي وسلّحتها بالآليات والمركبات المدرعة تحت نظر القوات السعودية.

وفي يونيو/ حزيران 2019م تمكنت قوات الانتقالي من طرد القوات الحكومية الموجودة على الجزيرة وإنهاء الوجود الرسمي للحكومة دون أن تحرك القوات السعودية المرابطة على بعد أمتار ساكنًا.

 

نهج متماثل بتعبيرات مختلفة

في يوليو/ تموز 2019م أعلنت الإمارات على لسان بعض مسؤوليها سحب قواتها من اليمن، وكان الغريب في الأمر أن تصريحات المسؤولين الإماراتيين القائلة بأن بلدهم أنشأ ودرّب الآلاف من العناصر المسلحة خارج إطار القوات النظامية لحكومة معترف بها دوليًا لم يثر استهجان أي من القوى الدولية أو الأمم المتحدة أو يستدعي دهشتها.

أما الأغرب من ذلك فهو صمت السعودية على قيام دولة أخرى بتشكيل جيش جرار من المقاتلين (نحو 90 ألف مقاتل) لا يتبع الحكومة المدعومة منها، ويوجد في نطاق مصالحها الحيوية.

فالسعودية إما أن تكون مغلوبة على أمرها إلى حدٍ لا يمكن تخيله، أو أنها ضالعة في تشكيل تلك القوات، أو موافقة على ذلك بالحد الأدنى وهذا هو المرجح، فوفق استراتيجية توزيع النفوذ بين البلدين “تولّت الإمارات تدريب وتمويل قوات عسكرية جنوبية، معظمها يطالب بالانفصال عن الشمال.

فيما عمدت السعودية إلى العمل مع بعض الوحدات العسكرية في الجيش اليمني، التي حاربت الحوثيين ورفضت سيطرتهم قُبيل وبعد سقوط صنعاء”.

في الواقع، لا يُعدّ تشكيل قوات خارج الجيش النظامي اليمني نهجًا إماراتيًا صِرفًا، فمنذ وقت مبكر عقب “عاصفة الحزم” شرعت السعودية في عملية تجنيد واسعة ليمنيين بغرض القتال في حدودها الجنوبية.

وأنشأت ألوية عسكرية غير تابعة لوزارة الدفاع اليمنية، أوكلت قيادتها لسلفيين مدنيين لا خبرة لهم بالمجال العسكري، ومن هذه الألوية لواء الفتح المتمركز في منطقة كتاف بصعدة بقيادة ردّاد الهاشمي.

وفي العام 2016م شرعت الإمارات والسعودية في خطة مشتركة لتشكيل ألوية العمالقة الجنوبية خارج قوام الجيش الوطني اليمني، وهذه الألوية تمثل قوة ضاربة يصل تعداد ألويتها إلى 12 لواءً، وشكّلت رأس حربة في عملية الرمح الذهبي التي لم يكن للجيش الوطني فيها سوى مشاركة رمزية.

ومن الواضح أن لهذه الألوية ولاءات متداخلة سعودية وإماراتية، فجزء منها خاضع من الناحية المراتبية العسكرية لقيادة طارق صالح رجل الإمارات في الساحل الغربي، بينما هناك ألوية أخرى في جبال الوازعية وموْزع غرب تعز وفي الصبيحة بلحج تبدو أقرب للسعودية.

 

خلافات متنامية

إجمالًا.. هناك الكثير من المصالح والتهديدات المشتركة التي لاتزال تحتّم على البلدين الإبقاء على علاقاتهما بعيدة عن التوتر، لكن ما هو واضح أن البلدين يفقدان باطراد قدرتهما على إدارة الخلافات وتنسيق سياساتهما المتعارضة.

لقد عملا لسنوات في اليمن من أجل تكوين نفوذ مشترك إلى حد ما، غير أن انسحاب الإمارات من الحرب في اليمن دون تفاهمات جذرية مع السعودية، عجّل بخلافات ذات علاقة بمستقبل نفوذ البلدين وتحديدًا في جنوب اليمن.

مع ذلك يمكن القول إن دور الإمارات واستقرار نفوذها في اليمن مرهون بالتفاهم على نحو خاص مع السعودية، فالأخيرة تملك ورقة الشرعية اليمنية التي ما يزال بالإمكان استخدامها في الوقت المناسب لإضعاف النفوذ الإماراتي، خاصة وأن الإمارات أوجدت لها خلال السنوات المنصرمة الكثير من الأعداء في اليمن والخليج والمنطقة العربية عمومًا، وهي بحاجة إلى المظلة السعودية لتجنب ويلات الانتقام.

كما أن الدور الإماراتي في اليمن يرتكز في الغالب على أدوات هشّة، فالفصائل المسلحة الموالية للإمارات بعضها منقسم وتخترقه ولاءات جهوية متعارضة ومحفزة للصراع الداخلي كما ثبت من مواجهات الشيخ عثمان في عدن بين فصائل الانتقالي (يونيو/ حزيران 2021م)، وبعضها الآخر يفتقر بشكل كامل إلى الحاضنة الاجتماعية في المناطق التي يسيطر عليها (قوات طارق صالح) ويسهل زعزعتها إذا ما أرادت السعودية ذلك.

إن إدراك الإمارات لحدود اللعب مع “الشقيق الأكبر” في اليمن لا يعني الامتثال للإرادة السعودية أو التكيف مع سياساتها، وإيقاف حالة الحرب بالوكالة التي يشنها من وقت لآخر أتباعها في المجلس الانتقالي ضد الحكومة وبصورة غير مباشرة ضد السعودية.

وإنما يعني المزيد من الحذر في إدارة العلاقة معها لتجنب انهيارها، بالتوازي مع محاولة استعادة زمام التأثير في السياسة السعودية التي من الواضح أنها لم تحسم بعد خياراتها بصورة نهائية في اليمن والمحيط الإقليمي.