د. أحمد ذكرالله – كاتب وباحث اقتصادي وأكاديمي

الأسوأ لم يأتِ بعد، هكذا أفصح يوسف البنيان الرئيس التنفيذي لشركة “سابك”، أكبر منتج للبتروكيميائيات والأسمدة والصلب في المنطقة، في معرض حديثه عن خسائر شركته والتي بلغت 950 مليون ريال (252.66 مليون دولار) بنهاية الربع الأول من 2020، مقارنة بأرباح 4.3 مليارات ريال تم تحقيقها خلال نفس الفترة من عام 2019.

عبارة البنيان “الأسوأ لم يأتِ بعد”، أثارت فضول المتابعين للاقتصاد السعودي، وطرحت أسئلة: هل كان الرجل يقصد شركته فقط، أم كان يشير إلى المأزق الكبير الذي يواجه مجمل الاقتصاد السعودي بعد الضربة المزدوجة الناتجة من تداعيات فيروس كورونا والانخفاض الحاد في أسعار النفط المصدر الرئيس لإيرادات المملكة؟

زاد من ترجيح المتابعين أن تصريحات رئيس سابك، ترمي إلى مجمل الاقتصاد السعودي، فالتصريحات جاءت بعد يوم واحد فقط من إعلان وزير المالية محمد الجدعان، أن المملكة ستتخذ إجراءات “مؤلمة” لخفض النفقات العامة، وأن الرياض تتأهب لاقتراض مبلغ قياسي يقدّر بنحو 220 مليار ريال (59 مليار دولار) في العام الجاري بزيادة 100 مليار ريال (26.7 مليار دولار) عما كان مخططا له قبل كورونا.

الأمر الذي سيؤدي إلى قفزة تاريخية في الديون البالغة حالياً نحو 180.8 مليار دولار، لتبلغ ما يقارب ربع تريليون دولار تقريبا بنهاية العام.

وكانت بيانات الميزانية السعودية قد أظهرت ارتفاع حجم الدين العام مع نهاية عام 2019 إلى 678 مليار ريال (180.8 مليار دولار)، وهو ما يمثل نحو 24% من الناتج الإجمالي المحلي، مقابل 560 مليار ريال خلال العام السابق له.

وحسب التقديرات الرسمية لوزارة المالية كان من المفترض وقبل تفشي كورونا أن تصل نسبة إجمالي الدين العام في نهاية 2020 إلى 26% من الناتج المحلي الإجمالي بزيادة 2% عن العام السابق، بما يعني أن الزيادة الكبيرة المعلنة في معدلات الاقتراض ستضاعف هذه النسبة.

كما توقعت الموازنة ارتفاع العجز للعام الجاري إلى ما بين 7 إلى 9% بعد تفشي الفيروس، مقارنة بـ6.4% في توقعات سابقة، بينما توقعت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، ارتفاع عجز موازنة السعودية إلى 12% من الناتج المحلي الإجمالي، بقيمة 80 مليار دولار، خلال العام الجاري، مقارنة بنحو 4.5% في العام 2019.

كما توقعت فيتش تراجع إيرادات النفط السعودي بنسبة 41%، بافتراض أن متوسط سعر النفط 35 دولارا للبرميل، وأن تنخفض الإيرادات غير النفطية بنسبة 15% نتيجة لوباء كورونا.

وبالإضافة إلى توقعات فيتش يمكن القول إن الاقتصاد السعودي يعاني بالفعل من عملية ركود ممتدة منذ فترة، نتجت من تأخر الدولة في سداد مستحقات شركات المقاولات، وفرض المزيد من الضرائب على الشركات، وزيادة رسوم الإقامة على العاملين الأجانب وأسرهم.

بالإضافة إلى رفع أسعار معظم الخدمات الحكومية، ويعني ذلك أن الإجراءات التقشفية التي ستطبقها المملكة ستزيد من الأضرار والخسائر لشركات القطاع الخاص خلال الفترة المقبلة.

ما يوضح عمق الأزمة الاقتصادية في السعودية كذلك أن الحكومة بدأت تطبيق مادة جديدة من قانون العمل، تقضي بخفض رواتب العاملين في القطاع الخاص بنسبة تصل إلى 40% بسبب كورونا.

وتزداد حدة الأزمة السعودية بعد توقف القطاع السياحي، والذي يساهم بنسبة 10% من الناتج المحلي الإجمالي. وطبقا لتقديرات الهيئة العليا للحج والعمرة، فإن إيرادات السياحة الدينية في المملكة تقدر بنحو 5.3 – 6.9 مليارات دولار، وباتت كلها مهددة بالفقدان.

وتوضح الأرقام الرسمية السعودية وتقديرات وكالات التصنيف العالمية عمق وقوة الأزمة التي يمر بها الاقتصاد السعودي، والتي هي من صنيعة السياسات الحكومية غير الرشيدة، والتي دعمت وعمقت ريعية الاقتصاد، وفشلت في مخططها لتنويعه، والذي لم ير حيز التنفيذ الجدي رغم الاحتفاء والترويج المستمر له منذ عدة سنوات.

ويرى البعض أن الاقتصاد السعودي واجه من قبل أزمات مشابهة، ومنها أزمة أسعار النفط في نهاية عام 2014، وهي التي راكمت الخبرة لدى صناع القرار بما يمكنهم من مواجهة الأزمة الحالية بنجاح، لكن من المؤكد أن الأزمة الحالية ذات الطبيعة المزدوجة تختلف جذريا عن الأزمات السابقة.

وربما خير دليل على ذلك هو ما أشارت إليه التقارير المحلية بانخفاض صافي الأصول الخارجية للمملكة من 497 مليار دولار بنهاية فبراير الماضي إلى 473.3 مليار دولار بنهاية مارس، بانخفاض 23.7 مليار دولار (4.8%) كاملة في شهر واحد فقط.

ويمكن القول إجمالا بوجود خطأ في تشخيص مشكلة الاقتصاد السعودي على أساس تراجع أسعار النفط أو تداعيات فيروس كورونا والتي تعتبر أعراضاً للمرض الاقتصادي الرئيس.

فالمشكلة الرئيسة من وجهة نظري تكمن في الخلل الهيكلي للاقتصاد الكلي، والذي تولد عن النمط الريعي السائد في المملكة خلال العقود الخمسة الماضية والذي شكل العلاقة الاقتصادية الأبوية بين الدولة والمواطنين.

فالدخل الريعي في السعودية لم يستخدم في التكوين الاقتصادي المنتج والمعتمد على الكفاءات والمهارات والمعرفة، وإنما استخدم لتكوين طبقة موالية للسلطة تغضُّ الطرف عن الاستبداد، في مقابل الاستمرار في الحصول على الحصة الريعية، فالدولة السعودية الريعية شيدت علاقاتها مع المواطنين على أساس توزيع الريع مقابل الولاء.

وقد أضعفت سياسات الولاء للدولة، آليات المساءلة المتبادلة، التي تحكم العلاقات الحرجة بين الدولة والمواطن، كما أفقدت آليات المحاسبة والضبط اللازمة لتنظيم العلاقة بين دوائر الاقتصاد والسياسة قوّتها، وأسهم ذلك في بناء ثقب أسود عملاق من الاستبداد والفساد، يبتلع أي بادرة إصلاحية جادة إن وجدت.

وخير دليل على ذلك أنه عندما طرحت المملكة رؤية 2030 تجاهلت الرؤية تماما الإصلاح السياسي كرافعة أساسية للبناء الاقتصادي، رغم أن السياسة والاجتماع ضلعان أساسيان إلى جانب الضلع الاقتصادي لإقامة مثلث التنمية الشاملة، ومن المنطقي أن يفضي التطور الاقتصادي إلى دعم حرية الإنسان وكرامته وحقوقه.

وبما يعني أن نجاح تنفيذ الرؤية يتوقف على شموليتها لكل الجوانب الأساسية في حياة الفرد والجماعة الاقتصادية والسياسية، لكي تحقق أهدافها في بناء مجتمع متطور متحضر متوازن ومستقر.

ومن هنا يمكن القول إن نجاح الاقتصاد السعودي في عبور الأزمة الحالية، ثم الشروع في تنفيذ أي رؤية تنموية مستقبلية، لا يعتمد على تعافي أسعار النفط، أو إيجاد سريع للقاح فيروس كورونا، وإنما يتوقف على طبيعة التعاطي السياسي مع الأزمات والرؤى التنموية.

وفي حال استمرار سياسات الاستبداد الحالية، والتي من المرجح أن تزداد عنفا خلال الفترة القادمة، فربما تصبح عبارة “الأسوأ لم يأتِ بعد” حقيقة.