بقلم: إلياس خوري/ كاتب صحفي وروائي لبناني
لماذا اختار محمد بن سلمان استقبال نتنياهو وبومبيو في مدينة نيوم، في السعودية؟ وليس في جدة أو الرياض أو الظهران؟
كان يفترض باللقاء أن يكون سراً معلناً، وهذا المستتر المكشوف كان يمكن تأمينه من دون اللجوء إلى مدينة قيد الإنشاء.
لكن هناك منطقاً جديداً في مشروع التطبيع التتبيعي الزاحف، وهو منطق أشار إليه عبد الرحمن منيف في خماسية «مدن الملح»، ونفذته إسرائيل بوحشية التطهير العرقي لحظة إنشائها ولا تزال تمعن في ممارسته في فلسطين، ووجد تطبيقه العملي في مشيخات الخليج على رمال صحراء العرب.
يقوم هذا المنطق على معادلة بسيطة، وهي أن التطبيع التتبيعي لا يستقيم إلا في الأماكن الفارغة أو شبه الفارغة من سكانها العرب.
النموذج التطبيعي المثير الذي تقدمه الإمارات، يجب أن يُدرس بعناية. فهذا الانبطاح وهذه الدبدبة التي تشهدها دبي وأبوظبي لم تكن ممكنة لولا الوضع الديموغرافي في دولة الإمارات!
والذي يشير إلى أن أكثر من سبعين بالمئة من سكانها ليسوا مواطنين. والوافدون، كما نعلم، لا يتمتعون بأية حقوق، ويمكن طردهم من البلاد في أي لحظة ومن دون سبب مُعلن.
أي أن الاندفاعة التطبيعية التي لم تكن ممكنة في مصر، وهي أول دولة عربية أبرمت معاهدة سلام مع إسرائيل، لكنها وجدت مكانها الطبيعي في دولة لا يشكل فيها مواطنوها سوى ربع السكان المقيمين.
هذا الحل السحري لا يملكه محمد بن سلمان إلا في مكان واحد، هو مشروع نيوم على البحر الأحمر. أمير المنشار قرر أن يقتطع منطقة نائية في السعودية ليقيم عليها مدينة الحلم التطبيعي، ويؤسس دبي جديدة، مصنوعة من الرمل الزجاجي والتكنولوجيا المتقدمة والخواء.
واللافت أن اسم هذه المدينة مركّب من كلمتي «نيو» الإنجليزية و«الميم» العربية، التي هي الحرف الأول من كلمة مستقبل.
مسكينة شركة «سوليدير»، التي أرادت أن تجعل من بيروت «مدينة عريقة للمستقبل»، حسب شعارها. نيوم هي مدينة المستقبل، أما العراقـــة فلا مكان لها في قاموس محمد بن سلمان.
طموح شركة إعادة إعمار بيروت بعد الحرب كان تقليد دبي، أي تقليد من قلّد بيروت، وبلغت السذاجة بمهندسي المشروع أنهم بنوه على افتراضين: السلام العربي الإسرائيلي من جهة، والاقتناع بأن ممالك النفط والرمل لن تطبّع مع العدو الإسرائيلي لأسباب مبدئية ودينية، وستلجأ إلى بيروت لتأمين علاقتها بإسرائيل في زمن السلام، من جهة ثانية.
السلام لم يحصل إلا على شكل استسلام كامل، كما أن ممالك السراب ومشيخاته صارت رأس حربة التطبيع، وجسر التبعية والدبدبة بحثاً عن الحماية والرضى الإسرائيليين، ولم تعد في حاجة لبيروت.
وكي يكون التتبيع ممكناً وشاملاً، كان لا بد من تحطيم حواضر العرب وتهميشها، بيروت اغتالها اللصوص وحطمتها قبائل لبنان الهمجية، بغداد سحقها الغزو الأمريكي ولصوص الطوائف والتبعية، الشام أُحرقت كي يبقى الحكم الأبدي، والقاهرة تحت قبضة العسكر والتهميش الكامل.
يحتاج التطبيع التتبيعي إلى مدن شبه خالية من السكان، وإذا لم توجد هذه المدن اخترعوها، وهنا يكمن تذاكي أمير المنشار السعودي على واقع بلاده التي يسعى إلى السيطرة عليها بالوراثة والغلبة.
ولدت نيوم، التي خُطط لها أن تكون جنة خالية تقريباً من السعوديين، من رحم التطبيع. اشترى السعوديون تيران وصنافير من مصر في صفقة لا سابق لها إلا في ألاسكا، التي اشترتها الولايات المتحدة من روسيا القيصرية سنة 1867، وضمنوا أن يكون المكان في حماية إسرائيل. وفي نيوم يعتقد ولي العهد السعودي أنه يبني جسراً آمناً للتطبيع.
إذا كان هذا التطبيع لا يمكن أن يتم إلا في مدن السراب شبه الخالية، فلماذا نشعر بخطره، ويستفزنا لمواجهته؟
الخطر يكمن في مكانين حيويين:
الاقتصاد ورأس المال المالي، الذي يسيطر عليه مشايخ الغاز والكاز. فهناك أعداد هائلة من المواطنين العرب الذين يعملون في هذه الدول، والذين سيجدون أنفسهم مُكرهين على التعامل مع الغزو الاقتصادي والتكنولوجي الإسرائيلي.
والثقافة، وهنا يتشكل الخطر الكبير. فلقد نجحت الدول الخليجية في الاستيلاء التدريجي والمنظم على الثقافة العربية في مختلف فروعها: معارض الكتب، الجوائز الأدبية السخية، النشر، مهرجانات السينما وجوائزها، بيانالات الفن التشكيلي مروراً بمتاحف الفن من غوغنهايم الأمريكي إلى اللوفر الفرنسي إلى الفنون الإسلامية والفنون الحديثة، وصولاً إلى الرياضة.
ما أوحى بفقاعة نهضة ثقافية عمادها الوحيد هو التمويل. وليس عبثاً أن تكون السينما إحدى العلامات الأولى للتطبيع مع دولة الاحتلال.
وربما كان خبر نهاية الأسبوع الماضي هو سعي حمد بن خليفة آل نهيان، ابن عم رئيس دولة الإمارات، لشراء خمسين بالمئة من نادي «بيتار القدس» لكرة القدم، وهو نادٍ ليكودي، عُرف بمواقفه العنصرية ضد العرب.
التطبيع الخليجي الإسرائيلي هو بمثابة تطبيع التفافي مع كل العالم العربي، على المستويين الاقتصادي والثقافي.
المطلوب هو أن يبتلع الرمل فلسطين ويمحو أثرها، ويسيطر التطبيع الالتفافي عبر رشوة العرب الآخرين بفيضان مال نفط العرب، الذي سيقوم بإغراق المنطقة في عتمة الانحطاط الشامل.
واللافت أن هذا التطبيع لن يردع إسرائيل، بل سيزيد من شراستها العدوانية، وكان اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة، في طهران برصاص «الموساد»، آخر تجل لهذه العدوانية الدموية. وبذا تؤكد دولة الاحتلال أنها ستتابع احتكار القوة والسلاح النووي والاغتيالات.
مقاومة هذا التطبيع الزاحف يجب ألا تقتصر على الخليجيات والخليجيين المحاصرين بالقمع والترهيب، بل يجب أن تكون معركة عربية شاملة. اليوم تتأكد الحاجة إلى المقاطعة عربياً، وتصير الساحات العربية أرضاً لمعركة سياسية واقتصادية وثقافية وأخلاقية كبرى.
علينا خوض هذه المعركة والانتصار فيها، لأن هزيمتنا أمام هذا الغول التطبيعي سوف تعني نهاية المعنى واندثار العرب.