د. وليد شرارة
كاتب وباحث لبناني في العلاقات الدولية
محمد بن سلمان حليف «مزعج» و«محرج» لإدارة جو بايدن، من دون أدنى شكّ. لم يذهب الرئيس الأميركي الحالي إلى شخصنة الهجوم على وليّ عهد السعودية، وحاكمها الفعلي، كما فعل مع نظيره الروسي عندما وصفه بـ«القاتل»، لكنه اتّهم المملكة، خلال حملته الانتخابية، بالتصرّف كـ«دولة مارقة».
آنذاك، ارتفع سقف الآمال بإمكانية «معاقبة» الولايات المتحدة للأمير الدموي، وتدخّلها بوسائل وسبل مختلفة لعزله وتحجيمه، وربّما استبداله بوليّ عهد آخر متى حان وقت ذلك. وما زال البعض يَعتبر أن تلك المهمّة مدرَجة على جدول أعمال صانع القرار الأميركي، حتى ولو جرى تأجيلها إلى الآن.
لكن خيبة الأمل الأولى أتت عندما لم يؤدّ اتّهام الاستخبارات الأميركية، بن سلمان، بالمسؤولية المباشرة عن عملية القتل الوحشية لجمال خاشقجي، إلى أيّ إجراءات من قِبَل إدارة بايدن بحقّ ولي العهد.
وتعاظمت الخيبة مع توارد المعطيات عن تورّط أميركي كبير في إدارة الحرب على اليمن في الأسابيع الأخيرة، وتشدّد مفاجىء في الموقف حيال «أنصار الله»، رغم رفع الإدارة الجديدة اسم الحركة من قائمة المنظّمات الإرهابية.
يتعارض هذا الواقع مع التوقّعات التي سادت سابقاً حول دفْع أميركي لإنهاء حرب اليمن بسرعة، والتجاوب مع المطالب الإنسانية لليمنيين. تجاهَلت التحليلات «المتفائلة» المشار إليها جملة اعتبارات بنيوية وظرفية تَحكم العلاقات السعودية الأميركية والتحالف الثابت بين الطرفين، أبرزها الوزن الحاسم لكارتيل السلاح في عملية صناعة السياسة الخارجية لواشنطن حيال حكّام الرياض..
والخوف من العبث بتوازنات داخلية لحليف خاضع لسيطرة مجموعة انقلابية، في سياق دولي تتسارع فيه تحوّلات موازين القوى ويتسلّل خلاله التأثير الصيني والروسي إلى مناطق النفوذ الأميركي «الحصري».
كارتيل السلاح العابر للانقسام الحزبي
بحسب التقرير الأخير لـ«معهد استوكهولم الدولي لدراسات السلم»، الصادر في 15 آذار من هذا العام، فإن الولايات المتحدة ما زالت تتصدّر قائمة الدول المُصدّرة للسلاح، مع 37% من مجمل الصادرات الدولية، بينما تسهم روسيا بـ20%، وفرنسا بـ8,2%، والصين بـ5,2%.
السعودية منذ عقود بين أبرز مستوردي السلاح الأميركي، وهي، وفقاً للتقرير نفسه، كانت وجهته الأولى بين 2016 و2020، مع 24% من مجمل الصادرات الأميركية خلال هذه الفترة.
قد يعزو البعض «القفزة النوعية» في المشتريات السعودية، إلى الرغبة، خلال عهد دونالد ترامب، في تعزيز أواصر «الصداقة» معه، لكن الشركات الأميركية المنتِجة لهذه الأسلحة ليست مُلكاً لترامب.
هي أهمّ مكوّنات كارتيل السلاح، الذي يشكّل مع المؤسسة العسكرية الأميركية ما يُسمّى بـ«المجمّع الصناعي – العسكري»، أحد الأنوية المركزية للدولة العميقة. يمتلك الكارتيل صلات عضوية بالحزبين الديموقراطي والجمهوري، وبأقطاب في إدارة بايدن.
ففي مقال بعنوان «تأثير قوي للمجمّع الصناعي العسكري على سياسة بايدن الخارجية» على موقع «تروث أوت»، يشير جوناثان كينغ وريتشارد كروشنيك إلى الروابط «الحميمة» بين فريق بايدن والمجمّع المذكور:
«وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، الذي أيّد الحرب على العراق والمتشدّد حيال الصين، رأَس شركة استشارية عملت مع الشركات الكبرى المتعاقدة مع الجيش، جنباً إلى جنب مع ميشيل فلورنوا، نائبة وزير الدفاع في عهد أوباما، وأفريل هاينز، المديرة الحالية للاستخبارات الوطنية».
ينفق كارتيل السلاح مبالغ طائلة لتمويل جماعات الضغط في الكونغرس، ويساهم في تمويل الحملات الانتخابية لمرشّحين في الانتخابات التشريعية والرئاسية في مقابل الحصول على دعمهم لزيادة الميزانية العسكرية الأميركية.
فقد خصّصت شركات كـ«رايثيون» و«يونايتد تكنولوجي» و«لوكهيد مارتن» ما يوازي 127 مليون دولار سنوياً، خلال السنوات الـ12 الأخيرة، لتمويل اللوبيات العاملة لمصلحتها في الكونغرس، بحسب تقرير لجنة الانتخابات الفدرالية.
ويضيف كينغ وكروشنيك أن «أعضاء الكونغرس يعلمون أن مواقع عالية مع مرتّبات مرتفعة ستكون متوفّرة بالنسبة إليهم في قطاع صناعات الدفاع بعد تقاعدهم كمشرّعين. ووفقاً لبرنامج الرقابة الحكومية، فإن 645 من كبار الموظّفين الحكوميين، أساساً من البنتاغون ومن ضباط الجيش ومن أعضاء الكونغرس، انتقلوا في 2018، بعد تقاعدهم، إلى العمل في واحدة من كبار شركات السلاح الـ20».
صناعات السلاح هي من أهمّ قطاعات الاقتصاد الأميركي، وتداخل مصالح أقطاب وأعضاء المؤسّسات الرسمية مع شركات المجمّع الصناعي – العسكري، والروابط التاريخية المتينة بين هذا الأخير وحكّام السعودية، أحد أفضل زبائنه، هي جميعها عوامل بنيوية حاسمة تدخل في حسابات أيّ إدارة أميركية، فكيف إذا كانت لبعض رموزها صلات وطيدة مع هذا المجمّع.
حلفاء تقليديون للولايات المتحدة، كتركيا، لم يتردّدوا في شراء منظومة «S400» من روسيا، وآخرون جدد، كالهند، في صدد القيام بالأمر عينه.
صحيح أن الحُكم السعودي أضعف تجاه واشنطن من هذين البلدين، لكن الضغط عليه ومحاولة تهميش رأس المجموعة الانقلابية التي تتحكّم به اليوم، قد تدفع الأمير الجامح إلى توثيق الشراكات مع منافسيها الدوليين في موسكو وبكين، والذين يتمنّون ذلك.
صعوبة الانقلاب على انقلابيين
محمد بن سلمان قام بانقلاب ناجح، تمكّن من خلاله من إزاحة جميع منافسيه من أمراء آل سعود، وتغيير طبيعة حُكمهم، من نظام «متعدّد الأقطاب» ومراكز القوى، إلى نظام مركزي هرمي يُحكم قبضته الحديدية عليه.
جميع سياسات ابن سلمان العدوانية الهوجاء، كالحرب على اليمن، والتصعيد ضدّ دول الجوار في الإقليم، هدفت أوّلاً إلى اكتساب شرعية وطنية في الداخل تمهيداً للانقضاض على السلطة كما فعل، ومن ثمّ الاستئثار بها تماماً.
سياساته «الانفتاحية» في الداخل، ومشاريعه «الفرعونية» كمشروع «نيوم» مثلاً، تندرج في الإطار نفسه أيضاً، أي توسيع قاعدته الموالية داخلياً.
وترى الخبيرة في الشؤون الخليجية، أنيل شيلاين، في مقال على موقع «ريسبونسيبل ستايت كرافت»، أن الطموحات الاقتصادية لابن سلمان باتت تُحفّزه على السعي إلى منافسة الإمارات على موقعها كقطب اقتصادي في الترانزيت والسياحة، والحلول في مكانها، ما يفسّر جزئياً التباعد المتزايد بين الرياض وأبو ظبي.
وحتى ما بدأ يُظهره من استعداد لتطبيع العلاقات مع إيران، أو من بحث، ببطء شديد، عن مخرج من حرب اليمن، لا يمكن فصلهما عن عمله لدعم موقعه في السلطة. كسْب التأييد والودّ، وحتى التماهي مع «مشروعه التحديثي» في الداخل، جميعها عوامل مساعدة للاحتفاظ بالسلطة.
لكن العامل المركزي الحاسم بالنسبة إلى صاحب عقلية تآمرية انقلابية هو في تثبيت سيطرة لا تتزعزع على الأجهزة الأمنية والعسكرية أوّلاً، وكشف وتصفية المتآمرين أو من يظنّ أنهم كذلك. محاولات تهميش أو إزاحة ابن سلمان ليست بالمهمّة السهلة، خاصة مع اتجاه الولايات المتحدة التدريجي إلى التركيز على المواجهة مع الصين.
وهذه الأخيرة، وكذلك روسيا، لن تتردّدا في استغلال أيّ تأزّم في العلاقات السعودية الأميركية لتطوير شراكات في مجالات مختلفة مع الرياض.
لذا، من المرجّح أن تستمرّ واشنطن في التعامل مع ابن سلمان «المزعج»، طبقاً لقاعدتها التاريخية المعروفة في علاقاتها مع حلفائها في بلدان الجنوب: «هؤلاء أوغاد! لكنهم أوغادنا».