بقلم/ نصير عبد الله

في أواخر 2019 أثيرت ضجة على “تويتر” حول شبهة غش في الدخان الجديد المتوفر في السوق السعودية، وشغلت حملة المدخنين الحوار العام لمدة شهر على الأقل، والمثير في الأمر أن هذه القضية وهي قضية “كماليات” لا تمس مباشرةً إلّا قرابة 12% من سكّان البلاد إلا أنها كانت من أولى القضايا التي عبأت السخط الشعبي من بعد اغتيال خاشقجي في 2018.

عند أول نظرة، قد يقول الواحد إنها قضية مُترَفين إن دلّت على شيء فهو انشغال الناس بتوافه الأمور وعدم اكتراثهم/ن للقضايا المهمة، فمن ذا الذي يترك القمع المستشري والاعتقالات السياسية والاغتيالات وسنوات الحرب الدموية والإفقار والتهجير والتعذيب، ويثور غضبه على كمالياتٍ كلنا نعلم أنها ضارة بالصحة أساسًا وعلى الناس الإقلاع عنها؟

لكن استشعارًا فاحصًا لما حرّك سخط الناس لن يغفل ما تلخص فيها من سخطٍ اجتماعيٍّ أكبر حول وعودٍ قدمتها السلطات بمدنٍ روبوتيّة وأحلام تصل للنجوم، وسط معيشة متردّية وغلاءٍ مرتفع لم يعد للواحد فيها أنْ يضمن فيها حتى جودة سيجارته، بل وللقضية جاذبية أخرى، فهي أفسحت المجال للناس للتعبير عن الامتعاض العام بنحوٍ آمن ما يساهم في بناء أواصر التضامن فيما بينهم/ن دونما خوفٍ من استهداف السلطات.

يسهل أن يقع النشطاء في النظرة الأولى السطحية، فعندما يعمل الواحد/ة على قضية معينة لسنوات طويلة ويخاطر بالكثير للتصدي لها ويطلع على جسامتها وضخامتها من كافة الزوايا، ويلاقي صعوباتٍ كبيرة في أن يجد شخصًا واحدًا آخر يشاركه عبئها، ومن ثم يرى طاقاتٍ ضخمة تتفجر في مجرىً آخر تمامًا لا “يبدو” وكأنه يصب في اتجاه الإصلاح الاجتماعي العام، قد يحجب عنه إحباطه وعزلته الطويلان أن مجرى هذا السخط قد يمر بقضيته.

هاتان النقطتان لوحدهما، نقطة أن عددًا من القضايا الكبرى، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، قد تتلخص في قضية صغيرةٍ كهذه (بل الحال غالبًا كذلك)، ونقطة عجزنا كنشطاء عن تحديد أولويات الناس بشكلٍ مسبق أو حتى توقع أيّ القضايا ستكون محور المعاناة الاجتماعية، يعري خطاب “الأولويات” من غطاء العقلانية والبرغماتية السياسية.

لو انتهت مشكلة خطاب الأولويات هنا لَهَانت، فمعالجتها لن تستلزم إلا مشاركة المجتمع همومه وعدم الانطواء على شواغلنا الخاصة، والنشطاء يعمدون حقًّا على ذلك، لكن تعريف “هموم المجتمع” و”المجتمع” بحد ذاته هو الأساس الذي تصنف بموجبه الأولويات والثانويات، القضايا “الحقيقية” وقضايا “المترفين”.

لنا هنا أن نتساءل عن الأولوية المولّاة إلى قضية البطالة، وهذا الاهتمام الكبير بها والاندفاع نحو حلّها وتوفير الوظائف للمُعطَّلين (من الرجال تحديدًا) ليس بديهيًّا كما نتصور، بل هو يعود إلى تصوّرٍ معينٍ عن المجتمع وواجباته تجاه أبنائه تبعث فينا شعورًا بضرورة العمل لكي يكون لكل (رجل) باحثٍ عن العمل وظيفة تُكرِمه، فنرى مقابل ذلك مجتمعاتٍ أخرى (كالمجتمع الأمريكي) يشيع فيها خطابٌ يحمّل العاطل اللوم على عطالته، بل واعتبار ذلك دليلًا على فسادٍ أخلاقيٍّ متأصلٍ فيه، وفي مجتمعنا من يروج لهذا الخطاب فيما يتعلق بالفقر والعطالة وإن كان – لحسن الحظ – ما زال هامشيًّا بعض الشيء.

هكذا هو حال أغلب القضايا الاجتماعية السياسية، فالمجتمع لا يجتمع ليحدد من فينا الأكثر عرضةً للحرمان والاضطهاد ومن ثم يولي قضية هذا الشخص الأولوية (فالأولوية تعطى أحيانًا للظالم على حساب المظلوم)، وليست القضايا الجامعة اليوم هي بالضرورة ما سيجمع الناس غدًا.

بل وقد يعتمد نجاح الحراك السياسي المعارِض (ثوريًّا كان أم إصلاحيًّا) على قضية عُدَّت يومًا “ثانوية”، فلهذه القضايا أن تصبح قضايًا كبرى لمختلف الأسباب، مثل أن تستغلها السلطات وتجعلها محك الانتماء والولاء، فيغدو من يقف بصفّها في هذه القضية واحدًا من أبناء الأمة ومن يقف ضدّها فهو عدوّ الأمة ويستحق القمع والقتل، وأما الحراك المعارِض الذي تكاسل عن تقديم معالجةٍ للقضية في بداياتها فسيعجز لاحقًا عن إقناع أيّ طرفٍ بأي حلٍّ بديل أو حتى بأن يضع الأمور في نصابها ويوضح لجمهوره تعقيدات القضية، لأنه أسس لارتباطه مع الناس – كما أشرنا في مقالنا السابق “من الشعب؟” – على أساس يتضمن تهميش جزءٍ منهم ومنهن.

لا بد لأساسيات عمل الأحزاب السياسية أن تكون جامعةً لمختلف الناس بمختلف أولويّاتهم وأولوياتهن، ولا يكون هدفها تقديم أولويةٍ على أخرى، بل استكشاف طرق الربط للقضايا والتنسيق بين الناس بأطيافهم وأطيافهن لتضحي أولوياتُ كلٍّ منهم ومنهن أولويّات الجميع.