أكثر من قرنين ونصف يفصلان الدرعية معقل العائلة السعودية في زمن الخيول والشيوخ عن زمن سباق الفورمولا وحفلات الغناء الصاخبة التي نظمتها هيئات الترفيه والرياضة في المملكة المحافظة مؤخرا.
وأقيمت منافسات سباق السيارات “السعودية” للفورمولا إي-الدرعية 2018 لأول مرة في السعودية أواسط ديسمبر/كانون الأول الجاري، وتخللت فعاليات الأيام الثلاثة أنشطة متنوعة بين الرياضة وحفلات الغناء والموسيقى والثقافة والترفيه.

وشارك في الحفلات الغنائية النجمان إنريكي إيغليسياس وجيسون ديرولو في حفلة 13 ديسمبر/كانون الأول، وتبعهما في اليوم التالي فرقة “بلاك آيد بيز” والمغني المصري عمرو دياب الذي غنى مجموعة من أغانيه المشهورة وسط تمايل وتفاعل الجمهور، في حين أحيا حفل الختام بعد انتهاء السباق كل من ديفد غيتا وفرقة “ون ريبابليك”.

أصالة.. وترفيه
كانت الدرعية رمزا للأصالة السعودية والتحالف بين شيوخ الدين والحكم، لكنها أصبحت هذا الأسبوع رمزا لمبادرة التحديث والترفيه بعد أن استضافت بطولة فورمولا إي-الدرعية التي شهدت حفلات غناء أثارت انتقادات وغضب مغردين سعوديين على مواقع التواصل الاجتماعي.

وتحكم المملكة عائلة استمدت شرعيتها من تحالف أقامه أمير الدرعية محمد بن سعود مع الإمام محمد بن عبد الوهاب عام 1745 وسمي ميثاق الدرعية، وعليه تأسست شرعية المملكة السعودية ومذهبها الديني.

وقد اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي تعليقات غاضبة ومشجعة بعد افتتاح المسابقة والحفل الصاخب الذي نظمته هيئة الترفيه بالمملكة والذي يعد الأول في هذه المدينة التي شهدت ميلاد التحالف بين آل سعود وآل الشيخ.

وغرد المعارضون للبطولة والحفل بوسوم، مثل #الدرعية_تجاهر_بالمعاصي، و#سعوديون_نرفض_الانحلال، وتصدرت هذه الوسوم موقع التواصل الاجتماعي تويتر في السعودية.

وعبر مغردون سعوديون عن استيائهم من اختيار الدرعية على وجه التحديد بما تحمله من تراث محافظ لاستضافة البطولة والحفلة الترفيهية، معتبرين أن الحفلات الصاخبة والاختلاط الذي كان فيها تعد انحلالا ومخالفة لأعراف وقواعد المملكة وأصولها الإسلامية، وحملوا هيئة الترفيه مسؤولية هذه “التجاوزات”.

ماذا تبقى؟
وبالعودة إلى الماضي فقد وقع ذلك اللقاء التاريخي بين محمد بن سعود حاكم الدرعية الطموح والشيخ محمد بن عبد الوهاب رجل الدين الأصولي، ونجح التحالف في التمدد سريعا والسيطرة على مكة.

لكن منتقدين يرون أن ذلك الاتفاق التاريخي لا يتوقع أن يصمد في العصر الراهن أمام سياسات ولي العهد السعودي الأمير الشاب محمد بن سلمان، فهو لا يشعر بالحاجة لمواصلة طريقة أعمامه وأجداده في التحالف مع الشيوخ، وإنما يرسم مساره الخاص في الحكم بعيدا عن الأعراف التاريخية التي شكلت المملكة.

وعلى الرغم من أن الدولتين السعوديتين الأولى والثانية لم تصمدا طويلا فإن تحالف الأمراء والشيوخ تجدد عندما شرع عبد العزيز بن سعود أول ملوك الدولة السعودية الثالثة (الحالية) في بناء سلطته وشرعيته بنفس الصيغة التاريخية التي تتضمن التزام آل سعود بتولي الحكم مع التزامهم بأحكام الشريعة التي يقررها المشايخ الذين تشاركوا النفوذ مع الأمراء.

ولم يكتفِ الأمراء بالتحالف مع الدعوة الوهابية والشراكة مع الشيوخ، فقد حرص مؤسس الدولة السعودية الثالثة في مطلع القرن العشرين على الحصول على الدعم الإنجليزي والأميركي لاحقا لترسيخ أركان حكمه.

كيف حدث التحول؟
استقرت الدولة السعودية على التوازن بين سلطات الأمراء المادية وسلطات رجال الدين المعنوية، وشكل ذلك الاتفاق نوعا من تقاسم السلطة أو توازنها بين الأمراء الذي يحكمون الدولة والشيوخ الذين يحددون تقاليد المجتمع وقيمه الدينية.

وامتلك رجال الدين هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي الذراع التي يمكن لها التدخل لفرض القيم التي تحددها المؤسسة الدينية.

لكن ميزان القوى بين الطرفين لم يستمر، خاصة مع اكتشاف النفط وبناء الأمراء لعلاقات دولية مع بريطانيا وأميركا، فقد أصبح للأمراء السلطة الحقيقية وظل وجود العلماء والشيوخ حاضرا للحفاظ على قيم ومبادئ المجتمع.

لكن وصول الأمير الشاب محمد بن سلمان لولاية عهد المملكة أفقد العلماء والشيوخ مزيدا من الميزات، إذ سحبت صلاحيات من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتم إنشاء هيئة الترفيه التي تقوم على رؤية لا توافق فتاوى الشيوخ والعلماء.

تاريخ الدرعية
تتبع الدرعية إداريا منطقة الرياض، لكنها كانت عاصمة الدولة السعودية الأولى في أواخر القرن الـ18 قبل أن تتحول العاصمة للرياض عام 1824.

وتأسست الدولة السعودية الأولى في الفترة بين 1157 و1233 هـ / 1744 – 1818 م بالتحالف بين الأمير والشيخ، وشن محمد بن سعود غارات لإخضاع القبائل المجاورة لدولته الناشئة.

وسيطر السعوديون الأوائل على نجد والحجاز وانتصر عبد العزيز بن محمد بن سعود على شريف مكة بعد أن نقض العهد معه، وأخضع الإحساء والبريمي، لكن السلطان العثماني ووالي مصر محمد علي باشا وضعا حدا لتوسع الدولة السعودية الأولى واقتحم جيش محمد علي الدرعية وهدم أسوارها وأسر عبد الله بن سعود.

واستمرت أهمية الدرعية في تأسيس الدولتين السعوديتين الثانية والثالثة، وشارك رجال من الدرعية الملك عبد العزيز بن سعود في دخول الرياض بعد أن بايعوه في 5 شوال 1319 هـ الموافق 14 يناير/كانون الثاني 1902.

بعد هذه المرحلة بأكثر من قرن كامل شوهد الأمير محمد بن سلمان وهو يدخل حلقة سباق الفورمولا في الدرعية في افتتاح الفعالية الرياضية والترفيهية الضخمة التي تستضيفها سعودية بن سلمان الجديدة بهيئاتها الترفيهية والرياضية غير المعهودة.

الآن تغيرت رمزية الدرعية كثيرا، فبعد أن هدم أمراء آل سعود قباب ومشاهد قبور الصحابة بالمنطقة التاريخية تنفيذا لتعليمات الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي اعتبرها بدعة في عاصمة الدعوة السلفية والسعودية الإسلامية ها هي تتحول الآن إلى مركز رياضي وترفيهي يقيم سباق سيارات الفورمولا وحفلات الغناء الصاخب التي لم تعهدها السعودية من قبل، فهل تتغير العلاقة بين الشيوخ والأمراء في الدرعية بعد أن كانت توطدت فيها بالبداية؟

الجزيرة