كيف تبدو صورة السعودية في الوثائق التي رفعت وزارة الخارجية الأمريكية السرية عنها، على موقعها الإلكتروني، من أرشيف رسائل البريد الإلكتروني للوزيرة السابقة “هيلاري كلينتون”؟

بات السؤال مطروحا بقوة خلال الساعات الماضية في ظل تضارب أوردته وسائل الإعلام العربية، فبينما تبدو السعودية “حائط الصد بوجه المؤامرات الأمريكية” بالقنوات والصحف الموالية لنظام المملكة، تظهر صورتها بلا حول ولا قوة لدى بعض القنوات والصحف المعارضة للنظام ذاته.

وأثار هذا التضارب تساؤلات عديدة حول مدى مصداقية أغلب وسائل الإعلام العربية من جانب، وما تنطوي عليه رسائل “كلينتون” من صورة “حقيقية” عن السعودية في كواليس صناعة القرار الأمريكي من جانب آخر، ما استدعى العودة إلى النصوص الأصلية للرسائل، والتي أوردها موقع “غرفة قراءة الخارجية الأمريكية الافتراضية”، وفق قانون حرية المعلومات بعد قضية رفعتها منظمة “أوبن سوسايتي”.

ويدور محتوى الرسائل المتعلقة بالشأن السعودي حول صورة دولة دائمة المواجهة لمخاطر استراتيجية وأمنية، ولذا فهي تبحث عن حماية، لا تجدها بشكل كاف لدى الولايات المتحدة، لكنها لا تتمكن من استبدالها أيضا.

وتبدو هذه الصورة جلية في تلك المراسلات التي تناولت محاولة مزعومة لاغتيال السفير السعودي السابق بالولايات المتحدة في فترة ولاية كلينتون “عادل الجبير”، الذي يشغل حاليا منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية، إذ تلقتها وزيرة الخارجية السابقة بتاريخ 13 فبراير/شباط 2016، من مسؤولين كبار في حكومات السعودية وتركيا إضافة إلى استخبارات غربية.

وحسب الرسائل، تحدث “هيكان” (شخص لا يعرف مهمته الرسمية)، حول مخطط إيراني لعملية الاغتيال، أشرف عليه قائد الحرس الثوري الإيراني آنذاك “محمد علي جعفري”، وقائد فيلق القدس الجنرال الراحل “قاسم سليماني”، إلى جانب عدد من كبار موظفي وزارة الاستخبارات والأمن الوطني.

وتضمنت الرسالة أيضاً معلومات تفيد بأن “هيكان” مع محللين آخرين، يعتقدون أن الأفراد المؤثرين في قيادة الحكومة الإيرانية يرون أن الوقت قد حان لتأسيس أنفسهم كقوة إقليمية مهيمنة بالنظر إلى تأثر السعودية بالحركات المؤيدة لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.

وكانت أحداث انتفاضة البحرين عام 2011 علامة فارقة في رصد السعودية لهكذا مخطط، إذ اعتبرتها الرياض خطرا محدقا على أمنها القومي، وتمددا إيرانيا قرب حدودها، غير أن حسابات الوجود العسكري الأمريكي بها دفعت السعوديين آنذاك لمحاولة الاحتماء بقوة إقليمية.

هذا ما تضمنته رسالة أخرى بتاريخ 12 أكتوبر/تشرين الأول 2011، أفادت بأن “الولايات المتحدة ستجعل من الصعب على العائلة السعودية المالكة وحلفائها إدارة الأحداث في المنطقة، خاصةً أن أفراد الحرس الثوري الإيراني ينشطون في مناطق مختارة بعناية مثل البحرين (..) حيث يمكنهم الاعتماد على عدد كبير من السكان الشيعة لدعم أهدافهم”.

من هنا جاءت فكرة أظهرتها الرسالة ذاتها، حيث بحث العاهل السعودي الراحل الملك “عبدالله بن عبدالعزيز” ومستشاروه الاعتماد على تركيا كضامن أمني لحماية المملكة من طموحات إيران، بدلاً من الولايات المتحدة.

وبدا من سياق الرسائل أن الدافع السعودي لبحث الفكرة لا يعود فقط إلى الخطر الإيراني، بل إلى طبيعة نظرة الولايات المتحدة للمملكة ومجتمعها وتعاطيها مع الرياض، وهو ما أظهرته رسالة بعث بها السفير الأمريكي الأسبق بالسعودية، “تشاس فريمان” بتاريخ 12 فبراير/شباط 2010.

هذه الرسالة بعثها السفير إلى شخص يحمل اسم “SID” والذي قام بدوره بإرسالها إلى “هيلاري كلينتون”، وجاء فيها: “أغلبنا متأكد من أن السعوديين هم مسلمون متعصبون ويتحكمون بأسعار النفط العالمية، وثراؤهم فاحش وضد المرأة وغير ديمقراطيين.. يكرهون قيمنا ويريدون تدميرنا”.

ونوه “فريمان” في رسالته إلى أن مجتمع السعودية هو “الوحيد في العالم الذي لم يتم اختراقه من قبل الاستعمار الغربي، ولم تدخل حدوده الجيوش الغربية ولا حملات تبشيرية”، مشيرا إلى أن الغربيين يأتون إلى السعودية لا كمدافعين عن تفوقهم الثقافي، بل كمساعدين مدفوعي الأجر (..) كما أن النظام الحكومي بالمملكة “مبني على الثقافات القبلية والإسلامية بدلا عن المثال الأوروبي”، حسب تعبيره.

لكن تطورات الموقف التركي من أحداث انتفاضات الربيع العربي وما تلاها ألغت فكرة “البديل الإقليمي” التي بحثها المسؤولون السعوديون، لتظل علاقة الرياض وواشنطن في إطار خضوع الأولى لابتزاز الثانية الدائم على المستوى الاقتصادي من أجل الحصول على حماية مفترضة.

في هذا الإطار، يمكن قراءة دفاع “كلينتون” في إحدى رسائلها عن صفقة أسلحة بقيمة 60 مليار دولار (الأكبر في ذلك الحين بتاريخ أمريكا) كانت تعتزم عقدها مع السعودية عام 2016، وذلك في معرض إجابتها عن تساؤلات أعضاء الكونجرس الذين ساورتهم مخاوف وشكوك حول تأثير هذه الصفقة على الأمن القومي الأمريكي، والتفوق الإسرائيلي بالمنطقة.

ولما طرح أعضاء الكونجرس سؤالا على الإدارة الأمريكية السابقة يتضمن شكوكا حول سياسة السعودية في المنطقة، وضربوا مثالا حول طبيعة المشاركة السعودية بعملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، أجابت “كلينتون”: “بشأن مخاوفكم حول الدعم السعودي للسياسيات الأمريكية على الصعيد الإقليمي، فعملية السلام في الشرق الأوسط من أبرز القضايا التي ننسق فيها عن قرب مع السعودية سرا وعلنا”.

كما أكدت وزيرة الخارجية الأمريكية حينها للكونجرس أن صفقة الأسلحة مع السعودية لن تؤثر بأي شكل على أمن إسرائيل أو تفوقها العسكري.

ومن هذه الزاوية يمكن فهم “الزيادات” التي أوردتها رواية وسائل الإعلام الموالية للنظام السعودي بشأن موقف واشنطن من تدخل قوات “درع الجزيرة” لوأد الانتفاضة في البحرين، والتي لا وجود لها في أصل الوثائق.

فبينما أورد نص رسائل “كلينتون” أنها طلبت “توضيحات” من “الجبير” حول تحرك القوات، ورد الأخير بأنها أصبحت بالفعل فوق الجسر الواصل بين السعودية والبحرين، زعمت وسائل إعلام محلية بالمملكة، وحسابات موالية للنظام عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أن الوزيرة الأمريكية السابقة طلبت من نظيرها السعودي آنذاك “سعود الفيصل” التراجع عن الخطوة العسكرية، وهو ما قابله الوزير السعودي بغلق الهاتف في وجهها.

ويشير المحلل السياسي “عباس بوصفوان”، في هذا الصدد، إلى أن موقف “البنتاجون” وقيادة الأسطول الأمريكي الخامس في البحرين من الحركة الاحتجاجية في بلدان الخليج، هو كلمة السر في تحرك “درع الجزيرة”، مؤكدا أن كلمة وزارة الدفاع الأمريكية تعلو تقدير الموقف الذي تتبنّاه وزارة الخارجية في هكذا حالات، وفقا لما أوردته صحيفة “الأخبار” اللبنانية.

واستدل “بوصفوان” على تقديره بلقاء وزير الدفاع الأمريكي الأسبق “روبرت جيتس” مع الملك البحريني “حمد بن عيسى” في الوقت الذي أفاد الملحق العسكري الأمريكي في الرياض، في 13 مارس/آذار 2011، عن “حركة غير عادية للجيش السعودي، وأن هذه الوحدات قد تكون متّجهة نحو البحرين”، وبمجرّد أن غادر “جيتس” المنامة، أعلن الملك حالة الطوارئ، وسلّم “درع الجزيرة” دفة القيادة، ليبدأ نحو ألف جندي سعودي و500 شرطي إماراتي وضع حدّ للحركة الاحتجاجية.

وعليه فإن تحرك “درع الجزيرة” لم يكن سوى “صفقة” سعودية مع البنتاجون تحديدا، أقرتها “كلينتون” ذاتها في رسالة بينها وبين وزير الخارجية الإماراتي “عبدالله بن زايد”، مفادها أن تغضّ واشنطن الطرف عن مساهمة القوات السعودية والإماراتية إلى جانب الجيش البحريني في قمع الحركة المعارضة، مقابل أن تحصل الولايات المتحدة على دعم خليجي وعربي لاستخدام القوة العسكرية لإسقاط حكومة “القذافي” بليبيا.

وإزاء ذلك فإن ما نشرته وسائل الإعلام الموالية للنظام السعودي جاءت في إطار “الترويج الاستباقي” للرواية التي تريد الرياض تسويقها، ولا علاقة له بحقيقة رسائل “كلينتون” وما كشفته من وقائع.

ويؤكد ذلك أن التسريب المزعوم بشأن مهاتفة “الفيصل – كلينتون” يعود إلى معلومة سبق أن أوردتها الكاتبة الموالية للنظام السعودي “سوسن الشاعر” في مقال نشرته عام 2017، كما أن حسابات الترويج السعودية أوردت معلومات أخرى مفبركة حول “عمالة” ضابط الاستخبارات السعودي السابق “سعد الجبري” وولي العهد السابق “محمد بن نايف” للولايات المتحدة، بما يصب في مصلحة توطيد دعائم حكم ولي العهد الحالي “محمد بن سلمان” مقال خصومه ومنافسيه.

ولذا يرى مراقبون أن حملة التضليل السعودية بحد ذاتها كانت بمثابة برهنة عملية على صورة الدولة الضعيفة الباحثة عن حماية، ولو بصورة وهمية؛ تماما كما وردت برسائل وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، دون زيادات الذباب الإلكتروني.