بقلم/ قصي بن ظاهر

أتت وفاة الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا في وقت تشهد بلادها وأوروبا تقلبات عديدة في ديناميكيتها السياسية، فمن جانب هناك الأزمات الإقتصادية والعسكرية التي أنتجتها الحرب الروسية في أوكرانيا ومن جانب آخر إستمرار الأزمات الداخلية في بعض الدول، ما بين نهوض تيارات أكثر يمينية وتفاقم التأثيرات التي ولدتها الهجرات على البناء الاجتماعي، كل هذا في وقت يستمر عدم الوضوح في عدة ملفات دولية شائكة من قبيل الإتفاق النووي الإيراني في أحد أوجهها والمنافسة على الهيمنة الدولية بين الصين وأمريكا في وجهها الآخر.

ما يهمنا هنا هو شكل رد الفعل الذي أحدثته وفاة الملكة اليزابيث على الذهنية السعودية خصوصا مع التغطية الإعلامية الواسعة للحدث، في وقت تنتهج السردية المحلية والرسمية خطاب يتحدث عن الروح الشبابية المطلوبة في بناء الأوطان والتقدم بهدف تحقيق أحلام من يحكم البلاد، هذه السردية التي ترى بأن البلاد يجب أن تكون قيادتها تكمن في أيدي جيل الشباب الطامح المنفتح المتطلع للمستقبل والذي يمثله شخص ولي العهد السعودي الذي يصور باعتباره المخلص الذي تقترب أوصافه إن لم تكن تتطابق مع اسماء أعظم السياسيين عبر التاريخ من الإسكندر المقدوني إلى أسماء قديسين وربما أنبياء أعادوا الأديان والأخلاق للفهم السليم.

السردية التي كان من المتوقع وهو بالفعل ما حدث من خلال الأصوات والأقلام المؤدية والمروجة للنظام هي أن النظام الملكي هو الأقدر على الصمود والبناء بالمقارنة مع أي نظام سياسي آخر، فشواهد التاريخ توضح كيف بقيت بريطانيا عظيمة بفضل ديمومة الحكم الملكي فيها وقدرته على التأقلم وضمان الإستقرار والنمو، وهي سردية تحاول أن تقول دون أن تقول بشكل مباشر بأن النظام الملكي السعودي هو الخلاص والمسار الذي من خلاله يمكن للسعودية أن تكون كبريطانيا “عظيمة”، فالولاء لشخص الزعيم يجب أن لا يتزحزح وأن الوطن هو النظام وأن ولي العهد الشاب الزعيم الذي سيصبح ملكاً هو النظام والضمانة لمستقبل الوطن والمواطن.

هذه السردية تغفل أو ربما الأدق القول انها تستغفل حقيقة الملكية في بريطانيا، فهي على خلاف نظيرتها في السعودية تسود ولكنها لا تحكم، فالملكة اليزابيث مع من سبقوها و الملك تشارلز الثالث اليوم يتبؤون عروشهم الوثيرة كرموز وأيقونات تمثل هوية الإمبراطورية بوجهها التاريخي و بواقع نظامها الدستوري السياسي، فبخلاف عدد محدود من الأدوار الفعلية التي يتمتع بها الملك والتي تمنح له بالأساس من خيارات الشعب، ليس للملك إلا أدور تشريفية وبروتوكولية إحتفالية، فالملك مثل غيره من المواطنين يدفع الضرائب وغير محمي من نقد وحتى سخرية الشعب، فلا شئ إسمه الذات الملكية أو الخطوط الحمراء، وكما أن هناك من يؤيد الملكية كجزء من النظام الدستوري فإن هناك من يدعو لإلغائها وتحويل البلاد إلى جمهورية بلا ملك ويجاهر بذلك علناً دون خوف من سجن أو تعذيب او تغييب أبدي.

لن تسمع هذا السردية المواجهة عندما يتحدث هؤلاء عن عظمة النظام الملكي البريطاني، فهم يراهنون على ثقافة (التيك اواي) التي تُبث عبر حروف يروج لها مؤثر موجه ليلتقطها متلقي سلبي لا يهتم إلا بالوجبة المعلبة ليرددها كالببغاء ويؤمن بها كما لقنت له، فالفرق بين ملكية دستورية وملكية مطلقة هو الفرق بين نظام يحكمه ويديره الشعب لصالح الشعب ونظام يحكم ويدار من فرد من أجل إستمرار نظام وبقاءه وإن كان ذلك على حساب مصالح الشعب وبقاءه، فتهجير المواطنين الحويطات على سبيل المثال لن تجد له شبيه في تاريخ الملكية البريطانية التي تمتد لألف عام، وفرض الضرائب والاتاوات على التجار واعتقال الشخصيات المؤثرة سياسياً وإقتصادياً ودينياً وثقافياً لن تجد لها مثيل في نظام ملكية تخضع لقوانين وضعها الشعب ويراقبها كعين الصقر ويحاسب بإسمه أي تجاوز أو تعدي، فعندما قام الملك تشارلز الثالث حينما كان ولي للعهد بإرسال رسائل فيها أراء سياسية لعدد من وزراء الحكومة، تم التعامل مع ذلك التصرف الذي وصف بـ الأرعن والمخالف للنظام باعتباره فضيحة سياسية لا يحق لأي ولي عهد أو ملك التصرف بموجبها، وهو ما دعى الأمير تشارلز في وقته بالقول عندما تم مواجهته إعلامياً بشكل علني من أجل تحديد موقفه حيال ذلك إن كان سيكرر ذات التصرف إن هو أصبح ملكاً “بالطبع لن أقوم بذلك، فأنا لست بذلك الغباء”.

قارن بين ولي عهد يلتزم بعدم التدخل في الشأن السياسي وولي عهد يُسبّح الوطن كله مجبراً وخائفاً لأوامره ونواهيه ورؤاه التي وصلت لحد إعادة تفسير الدين لخدمة رؤيته الحالمة، وقارن بين ولي عهد يتجول مصافحاً عامة الناس من جميع الخلفات والجنسيات والألوان في كل مدينة وموقع زاره خلال الأيام التي تلت موت الملكة وبين ولي عهد يصلي في بيت من بيوت الله وبينه وبين أقرب أبناء عمومته خلفه خمسة صفوف من الحراسات المسلحة، ولي عهد لا يصافح إلا من مر بعملية فرز وتمحيص وتدقيق وفحص طبي وولائي في سبيل التقاط صورة لأغراض الترويج في تويتر وسنابتشات.

السردية التي إنطلقت بين المروجين كان يمكن لي أن أقبلها و أحيّيها لو كانت أضافت في عبارات تمجيد الملكية كلمة “الدستورية” فالملك الذي لا يخضع لدستور وضعه الشعب ويعمل بحياد وعدم تدخل في شؤون إدارة الوطن ويتصرف وكأن الوطن مزرعة شخصية يملكها لا يشبه اليزابيث أو تشارلز بل هو شقيق لويس السادس عشر وقرين ماري أنطوانيت.