يشهد إقليم كشمير المتنازع عليه بين الهند وباكستان تطورات دراماتيكية، وكما يحدُث في كل مرة بدأ التصعيد من نيودلهي، ولم تجد إسلام آباد مفراً من رد قاس، ليُفتح الباب على مصراعيه أمام سيناريوهات خطيرة تُهدد بجرِّ تلك المنطقة إلى حرب ليست الأولى من نوعها.
إلى السعودية كانت وُجهة رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، باحثاً فيما يبدو عن دعم من المملكة الغارقة في الأزمات.
وكانت الحكومة الهندية قد ألغت في 5 أغسطس/آب الماضي بنود المادة 370 من الدستور، التي تمنح الحكم الذاتي لولاية جامو وكشمير، الشطر الخاضع لسيطرتها من الإقليم.
كما قطعت السلطات الهندية الاتصالات الهاتفية والإنترنت والبث التلفزيوني في المنطقة، وفرضت قيوداً على التنقل والتجمع، تمهيداً للسماح للهنود من ولايات أخرى بالتملُّك في الإقليم، وبالتالي إحداث تغيير في التركيبة السكانية للمنطقة، لجعلها ذات أغلبية غير مسلمة.
إقليم كشمير أغلب سكانه من المسلمين، ومقسم بين الهند وباكستان منذ عام 1947 إثر انتهاء الاحتلال البريطاني لشبه الجزيرة الهندية، وكان القسم الخاضع للسيطرة الهندية يتمتع بالحكم الذاتي حتى قامت الحكومة بإلغائه.
تطورات دراماتيكية
كالعادة، وبعد أقل من شهر على هدوء حذر أعقب عاصفة قرارها الأخير إلغاء الوضع الخاص للجزء الذي تُسيطر عليه من الإقليم، أشعلت الهند الأوضاع في كشمير من جديد بتصريحات عدائية غير مسبوقة، وصفت الجزء الخاضع لباكستان من الإقليم بالمحتل.
وزير الخارجية الهندي “سوبرامانيام جايشانكار”، قال: إن الشطر الخاضع لسيطرة باكستان من إقليم كشمير، يخص الهند، وإن بلاده تتوقع السيطرة عليه يوماً ما، وتابع في مؤتمر صحفي، في 17 سبتمبر/أيلول الجاري: “موقفنا بشأن الجزء الذي تحتله باكستان من كشمير واضح دائماً، وهو أنه جزء من الهند، ونتوقع يوماً ما أن نفرض سيطرتنا عليه”.
جاءت تصريحات جايشانكار تعقيباً على ما قاله وزير الدفاع الهندي راجناث سينغ في وقت سابق، إنه إذا كانت الهند ستعقد محادثات مع باكستان فإنها ستكون بشأن كشمير المحتلة.
وأضاف وزير الخارجية أنه ينبغي على باكستان أن تتخذ أولاً إجراء ضد الإرهاب من أجل بدء حوار مع الهند، معتبراً أن إسلام آباد “لا تفعل شيئاً فيما يتعلق بالقضاء على شبكة الإرهاب”.
الرد الباكستاني كان سريعاً في اليوم نفسه، فقالت وزارة الخارجية في بيان: “إن مثل هذه التصريحات غير المسؤولة والتي تأتي من قبل دولة محتلة تنطوي على إمكانية لتصعيد التوترات في المنطقة”.
البيان أكد أن “هذه التصريحات هي دليل واضح على الإحباط التام الذي تتعرض له الهند لاستمرار تعرضها لِلَوْم دولي بشأن الانتهاكات الشنيعة التي ترتكبها في مجال حقوق الإنسان في إقليم كشمير”.
إلا أن الخطوة الأكثر جرأة، كانت في إعلان وزير الخارجية الباكستاني “شاه محمود قرشي”، 18 سبتمبر/أيلول، أن بلاده رفضت طلباً من رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي باستخدام مجالها الجوي خلال رحلة إلى ألمانيا ثم العودة الأسبوع المقبل.
وقال قرشي: “مع وضع الموقف في كشمير المحتلة في الاعتبار وسلوك نيودلهي، قررنا عدم السماح لرئيس الوزراء الهندي باستخدام المجال الجوي الباكستاني، وتم إبلاغ الجانب الهندي بهذا القرار”.
وكشف المتحدث باسم الخارجية الهندية رافيش كومار، أن القرار الباكستاني يُعد الثاني خلال أسبوعين، وذلك في إشارة إلى رفض إسلام آباد فتح المجال الجوي أمام الرئيس الهندي رام ناث كوفيند، ليقوم بزيارة خارجية أيضاً.
الحرب الرابعة
“رسالتي إليك هي أننا سنرد على كل خطوة بما هو أكبر منها، سنرد على كل ما تفعله وسنذهب إلى النهاية”، بتلك الكلمات خاطب رئيس الوزراء الباكستاني نظيره الهندي في خضم الأزمة.
تلك التصريحات تخطّت الحناجر بالفعل، وانعكست على اشتباكات دموية محدودة، حيث قتل منتصف أغسطس/آب الماضي 5 جنود هنود، و3 من الجيش الباكستاني فضلاً عن مدنيين اثنين جرّاء اشتباكات اندلعت في خط السيطرة الفاصل بين منطقتي البلدين.
ولا يفوتنا أن التصعيد الحالي في إقليم كشمير يأتي بعد نحو 6 أشهر على معركة جوية دارت بين الطيران الحربي الباكستاني والمقاتلات الهندية، أسفرت عن إسقاط طائرتين هنديتين داخل المجال الجوي الباكستاني، ومقتل طيار هندي وأسر آخر.
المعركة أعقبت تفجيراً استهدف عسكريين هنود اتهمت بلادهم باكستان بالضلوع فيه، وهو ما نفته الأخيرة، واعتقلت السلطات الهندية، حينها، عشرات القادة المسلمين بالتزامن مع إرسال آلاف التعزيزات العسكرية إلى الإقليم.
الأمر إذن مرشّح للتصعيد ولا يوجد ما يمنع ذلك، في ظل إصرار كل طرف على موقفه والانتقال من مجرد إحكام السيطرة والتحكم في الجزء الخاضع له، إلى الحديث عن محاولات إخضاع الجزء الآخر الموصوف في كلا البلدين بالمحتل.
فالحرب غير مستبعدة على الإطلاق ليس بسبب اتساع حدة التوتر، بل لأنها لن تكون الأولى. فمنذ استقلال البلدين عن بريطانيا عام 1947، واقتسامهما الإقليم ذي الغالبية المسلمة، وفي إطار الصراع على كشمير، خاضت باكستان والهند 3 حروب في أعوام 1948 و1965 و1971؛ ما أسفر عن مقتل نحو 70 ألف شخص من الطرفين.
بين التصعيد والتهدئة
لكن يبقى الحديث عن مستوى تلك الحرب، فهل تصل إلى حد المواجهات العسكرية المفتوحة كما حدث قبل ذلك 3 مرات، أم تظل الأمور مقتصرة على اشتباكات محدودة ومناوشات من هنا وهناك.
استمرار سيناريو المواجهات العسكرية سواء كانت مفتوحة أو محدودة، يعززه ما يتمتع به الإقليم من أهمية إستراتيجية كبرى للقوتين النوويتين. بالنسبة للهند فإن تلك الأهمية جعلتها شديدة التمسك بها على مدى أكثر من خمسين عاماً رغم الأغلبية المسلمة بها ورغم الحروب التي خاضتها واستنزفت من مواردها البشرية والاقتصادية الكثير.
تعتبرها الهند عمقاً أمنياً إستراتيجياً لها أمام الصين وباكستان، كما تنظر إليها على أنها امتداد جغرافي وحاجز طبيعي مهم أمام فلسفة الحكم الباكستاني التي تعتبرها قائمة على أسس دينية مما يُهدد الأوضاع الداخلية في الهند ذات الأقلية المسلمة الكبيرة العدد.
وتخشى الهند من أنها إذا سمحت لكشمير بالاستقلال على أسس دينية أو عرقية أن تفتح باباً لا تستطيع أن تغلقه أمام الكثير من الولايات الهندية التي تغلب فيها عرقية معينة أو يكثر فيها معتنقو ديانة معينة.
أما أهمية إقليم كشمير بالنسبة لباكستان التي تعتبرها خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه أو التفريط فيه، فهي تعتبرها منطقة حيوية لأمنها وذلك لوجود طريقين رئيسيين وشبكة للسكة الحديد في سرحد وشمالي شرقي البنجاب تجري بمحاذاة كشمير.
ينبع من الأراضي الكشميرية ثلاثة أنهار رئيسية للزراعة في باكستان مما يجعل سيطرة الهند عليها تهديداً مباشراً للأمن المائي الباكستاني.
سيناريوهات مختلفة
ومن السيناريوهات الأخرى المطروحة على الساحة، أن تهدأ لأمور وتصل إلى حد إجراء مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة برعاية دولية، أو من قبل القوى الكبرى.
ولعل لهذا السيناريو ما يرجحه، ففي سبتمبر الجاري طالب وزير الخارجية الباكستاني الأمم المتحدة بفتح تحقيق بشأن الوضع في كشمير الهندية، محذراً من احتمال أن تحصل “إبادة”.
وقال الوزير أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، إن “سكان (ولاية) جامو وكشمير المحتلة من الهند يستعدون للأسوأ”، مضيفاً: “أتخوّف من فكرة ذكر كلمة إبادة هنا، لكن عليّ ذلك”.
وأضاف: “يتردد اليوم صدى رواندا وسربرنيتسا والروهينجا ومذبحة غوجارات في بلدات جامو وكشمير المحتلة من الهند وجبالها وسهولها المهجورة والتي تعيش حالة من الصدمة”، في إشارة إلى مذابح وممارسات عنصرية تعرّض لها المسلمون في بقاع عدة على مدار عقود.
إلى ذلك أعلن رئيس الوزراء الباكستاني نيَّته اتهام نظيره الهندي من منبر الجمعية العامة الأسبوع المقبل بالتورُّط في حالات تعذيب واعتقالات تعسفية واسعة النطاق، تُنفذها السلطات الهندية في الإقليم.
وتابع في تصريحات صحفية: “أقول بصراحة إن هناك إرهاب، لكن الجانب الهندي هو من يُمارسه. 900 ألف جندي يعاملون سكان جامو وكشمير بطريقة وحشية. أسمي ذلك إرهاباً تُمارسه الأجهزة الحكومية للدولة الهندية”.
ورغم الحرب الكلامية والاتهامات المتبادلة بين أعلى المستويات الحاكمة في البلدين، فإن مسألة الاستعداد للسلام وفتح حوار، بدت رغبة مشتركة لديهما، ربما تحتاج إلى دعم إقليمي ودولي لتعزيزها وتنفيذها على أرض الواقع.
وبين الحرب والتهدئة، فإن سيناريو بقاء الوضع كما هو عليه يبدو مرشحاً أيضاً، في ظل تمسك هندي بقرار إلغاء الوضع الخاص للإقليم، وهذا السيناريو ربما يتوقف على طول النفس الباكستاني ومدى عزم إسلام آباد على المضي قُدماً في سبيل العودة إلى ما قبل القرار الهندي.
دعم سعودي
ارتباطا بملف كشمير، أجرى رئيس الوزراء الباكستاني زيارة إلى السعودية، الخميس 19 سبتمبر/ إيلول الجاري، فيما يبدو أنها مساع لحشد إقليمي من أجل دعم موقف بلاده المتأزم مع الهند، وفي الوقت ذاته تكتسب الزيارة أهمية مضاعفة بينما تسعى الرياض لحشد إقليمي ودولي ضد إيران.
واستنكر عمران خان، خلال لقائه بولي العهد محمد بن سلمان، الهجمات التي تعرضت لها “أرامكو”، معرباً عن مساندة بلاده للرياض، بمواجهة هذه الأعمال التخريبية، فيما لم تُعْلَن مواقف جديدة من الدولتين بخصوص قضية كشمير.
وخلال الفترة الماضية، مرَّ الموقف السعودي من الأزمة بمراحل عديدة، بدأت في أعقاب القرار الهندي أوائل أغسطس/ آب الماضي، ببيان لمصدر مسؤول في وزارة الخارجية أعرب عن قلق المملكة من تطورات الأوضاع في الإقليم.
الرياض أكدت أن حلَّ النزاع يتم من خلال التسوية السلمية، وفقاً للقرارات الدولية ذات الصلة، داعية “الأطراف المعنية إلى المحافظة على السلام والاستقرار في المنطقة، ومراعاة مصالح سكان الإقليم”.
لكن بعدها بنحو أسبوع، اضطرب الموقف السعودي حين أعلنت شركة ريلاينس الهندية عن إبرامها خطاب نوايا مع شركة أرامكو السعودية، يقضي بصفقة شراء محتمل تستحوذ بموجبها الشركة السعودية على 20% من أنشطة النفط والكيماويات للشركة الهندية.
وقال رئيس الشركة إن الصفقة المحتملة مع أرامكو -وقيمتها 15 مليار دولار- ستكون أكبر استثمار أجنبي في تاريخ الهند.
ومع هذا لم تفقد باكستان الأمل في موقف سعودي مساند، فأجرى بعدها بأيام أيضاً رئيس الوزراء الباكستاني اتصالاً هاتفياً بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أطلعه خلاله على آخر المستجدات في إقليم كشمير.
دور الوسيط
وعليه، فقد يتأرجح الدور السعودي المفترض في أزمة كشمير بين تقديم الدعم المطلوب لباكستان على المستويات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، وصولاً إلى إمكانية لعب دور الوسيط بينها وبين الهند، نظراً لما تتمع به الرياض من علاقات قوية بنيودلهي، حيث تستقبل على أراضيها جالية هندية ربما تُعد الأكبر خارج حدود البلاد.
إلا أن طبيعة الدور الذي يمكن أن تلعبه السعودية في هذا السياق، يتوقف على المقابل الذي ستقدمه باكستان في خضم التوتر بين السعودية وإيران، لتكتمل بنود الصفقة التي يسعى إليها الطرفان.
فكما تحتاج إسلام آباد دعم الرياض في مواجهة الهند، فإن المملكة لن تستغني عن دور باكستاني قوي في مواجهة إيران، خاصة بعد التوترات العنيفة التي خلّفها الهجوم على منشأتي النفط التابعتين لشركة أرامكو السعودية شرقي المملكة، واتهام الرياض لطهران بالتورُّط.
وكان لافتاً في أعقاب الهجوم حالة التنديد الرسمية والشعبية في باكستان على مستويات عدة، حيث أعربت الخارجية الباكستانية عن تضامنها الكامل مع السعودية، ونددت قيادات وجمعيات دينية أبرزها “مجلس علماء باكستان” بالهجوم.
وربما يظهر هنا البعد الديني المذهبي الذي يُغلِّف خصوصية كبيرة تتمتع بها علاقات البلدين، باعتبارهما أقوى دولتين تعتنقان المذهب السنّي، خاصة عندما يتعلق الأمر بمواجهة إيران الشيعية.
والسعودية هي المصدر الرئيسي لتحويلات الباكستانيين في الخارج من العملة الصعبة والتي تُقدّر بنحو 4.5 مليار دولار سنوياً، كما تحتفظ باكستان، وهي صاحبة أحد أقوى الجيوش في العالم والدولة النووية المسلمة الوحيدة، بعلاقات تعاون وثيقة مع الرياض.
ربما تقود المعطيات إذن إلى استعداد البلدين لتنفيذ الصفقة التي يُقدّم بموجبها كل طرف الدعم الذي يحتاجه الطرف الآخر، وعلى نطاق أوسع فإن الحديث عن متانة العلاقات الإستراتيجية بين السعودية وباكستان يعود بالأذهان إلى أنباء تنتشر بين الحين والآخر عن سعي الرياض إلى شراء السلاح النووي من باكستان.
في مارس 2018 حذّر ولي العهد السعودي من أن بلاده ستطوُّر وتمتلك سلاحاً نووياً إذا امتلكت منافستها الإقليمية إيران قنبلة نووية، وقال في حوار مع برنامج 60 دقيقة على شبكة سي بي إس الأمريكية، إن السعودية “لا تريد الحصول على الأسلحة النووية”، لكنه استطرد موضحاً: “لكن دون شك إذا طوّرت إيران قنبلة نووية، فسوف نتبعها في أسرع وقت ممكن”.
ومن غير المعروف حتى الآن ما إذا كانت السعودية قد حاولت تطوير أسلحة نووية من تلقاء نفسها، ولكن تقارير تحدثت عن استثمارها في البرنامج النووي الباكستاني.
وحذّر عاموس يادلين، الرئيس السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، أمام مؤتمر في السويد عام 2013، من أن حال حصول إيران على القنبلة النووية، “فإن السعوديين لن ينتظروا شهراً واحداً. لقد دفعوا ثمن القنبلة بالفعل، سيتوجهون إلى باكستان للحصول على ما يريدونه”.
ورغم عدم وجود أدلة دامغة على نيَّة التوجّه السعودي، إلا أن تلك الخطوة غير مستبعدة من جانب السعودية التي موّلت جانباً كبيراً من البرنامج النووي لإسلام آباد على مدار العقود الثلاثة الماضية.