مع تراجع العلاقات التركية السعودية بشكل غير مسبوق في ظل خلافات عميقة حول الكثير من ملفات المنطقة، وفي ظل فشل الحملات غير الرسمية لمقاطعة تركيا، يبدو أن السلطات السعودية بدأت بالعمل على تنفيذ التوجه الرسمي بمقاطعة تركيا سواء بالتجارة أو السياحة أو غيرها من خلال إجراءات حكومية مباشرة، ولكن من دون تبني ذلك رسميا بقرار حكومي علني.

وقالت الشركات التركية إن السعودية تعرقل دخول البضائع القادمة من تركيا، ما يشير إلى أن التوترات السياسية بين القوى الإقليمية تنتقل بشكل متزايد إلى التجارة، لكن حجم التبادل التجاري بين البلدين ما زال حتى اليوم يحافظ على مستوياته الطبيعية التي كانت قبل تفجر الخلافات، إذ لم تنجح الحملات السابقة حتى الآن في تقليص حجم التجارة -مع وجود تراجع في العلاقات الاقتصادية في جوانب أخرى- لكنها نجحت في تقليص الأرقام في مجال السياحة.

ومنذ عام 2015، تراجعت واردات السعودية من تركيا تدريجيا مع تصاعد التوترات السياسية بين البلدين، وتحتل السعودية المركز الخامس عشر من بين أكبر أسواق التصدير في تركيا، حيث بلغت مبيعات السجاد والمنسوجات والمواد الكيميائية والحبوب والأثاث والصلب 1.91 مليار دولار في الأشهر الثمانية الأولى من العام.

ويمثل هذا انخفاضا بنسبة 17% عن عام 2019، ويُعزى بعضها إلى فيروس “كورونا” الذي أضر بالتجارة العالمية، لكن الإحصاءات السعودية تظهر أن قيمة الواردات التركية كانت تتراجع بالفعل كل عام منذ 2015.

 

تراجع بالأرقام

وخلال السنوات الماضية، بقي حجم التبادل التجاري بين تركيا والسعودية في حدود متقاربة حيث شهد ارتفاعا طفيفا في بعض السنوات وانخفاضا طفيفا في سنوات أخرى، دون أي تغيرات كبيرة رغم تصاعد الخلافات بين البلدين.

وبحسب بيانات الموقع الرسمي لوزارة الخارجية التركية، فإن حجم التبادل التجاري وصل عام 2015 إلى 5.59 مليار دولار، وعام 2016 إلى 5 مليارات، وعام 2017 إلى 4.84 مليار، وعام 2018 إلى 4.95 مليار، وعام 2019 إلى 5.1 مليار دولار.

وكان الميزان التجاري طوال تلك السنوات يميل لصالح تركيا، فبينما كانت الصادرات التركية بين عامي 2015 و2017 تتفوق على الواردات السعودية بحدود 1.3 مليار دولار، تقلص الفارق إلى 300 مليون دولار فقط عام 2018 في مؤشر على تراجع الصادرات التركية في ذروة الخلافات السياسية بين البلدين، قبل أن يعاود الارتفاع إلى مستواه الطبيعي عند 1.3 عام 2019.

وتشير الأرقام السابقة إلى أن حجم التبادل التجاري وبحسب الأرقام الرسمية حتى نهاية عام 2019 لم يشهد أي تغير استثنائي واستمر على ما كان عليه قبل تفجر الخلافات بشكل كبير بين البلدين عام 2018، كما أن الأرقام توضح أنه وعلى الرغم من ميل الميزان التجاري لصالح تركيا لكن التبادل التجاري يصب في صالح البلدين وأن أي قرار بقطع العلاقات التجارية من أي بلد يعني تلقي نفس حجم الضرر الذي سيترتب على الطرف الآخر.

وبينما تستورد تركيا بدرجة أساسية من السعودية مشتقات البترول والكيماويات المختلفة، تستورد السعودية من تركيا السيارات والمحركات وقطع الغيار والحديد والألومنيوم إلى جانب الأطعمة المختلفة والأجهزة الكهربائية والمجوهرات والمفروشات والملابس، وذلك بحسب بيانات نشرتها السفارة التركية في الرياض.

وفي أحدث أرقام، تشير بيانات الموقع الرسمي لوزارة التجارة التركية إلى أن الصادرات التركية إلى السعودية ما بين شهري يناير/كانون الثاني وأغسطس/آب من العام الجاري بلغت 1.9 مليار دولار، في انخفاض بلغ 400 مليون دولار عن نفس الفترة من العام الماضي والتي بلغت فيها الصادرات التركية إلى السعودية 2.3 مليار دولار.

وفيما يتعلق بأرقام الصادر السعودية إلى تركيا في نفس الفترة الواقعة ما بين شهري يناير/كانون الثاني وأغسطس/آب من العام الجاري، حيث بلغت 1.1 مليار دولار بعد أن كانت 1.44 مليار دولار في نفس الفترة العام الماضي، في انخفاض أيضا 350 مليون دولار، لكن وفي حال الأخذ بعين الاعتبار أن الفترة المذكورة تشمل فترة الاغلاق العام حول العالم بسبب انتشار فيروس “كورونا” وتوقف التجارة الدولية وتراجع الاستهلاك، فلا يعتبر ذلك مؤشرا على وجود تراجع في حجم التبادل التجاري بين البلدين رغم كل الازمات التي مرت بها العلاقات السياسية بينهما.

 

السياحة والعقارات

ووفق بيانات الموقع الرسمي لوزارة الثقافة والسياحة التركية، فقد وصل عدد السياح القادمين من السعودية إلى تركيا عام 2018 إلى 747 ألف سائح بزيادة وصلت إلى 15% عن عام 2017 الذي وصل فيه عدد السائحين إلى أكثر من 650 ألفا، بعد أن كان لا يتجاوز الـ530 ألفا في عام 2016، والـ450 ألفا في 2015، والـ341 ألفا في عام 2014، كما أن هذه الأرقام لم تكن تتجاوز الـ20 ألفا حتى عام 2008.

لكن وبعد أن وصل عدد السياح عام 2018 إلى 747 ألف سائح، تراجع بشكل لافت عام 2019 إلى 564 ألف سائح بحسب البيانات الرسمية لوزارة السياحة التركية، وهو تراجع واضح بنسبة وصلت إلى 25% وجاء عقب الحملات الرسمية وغير الرسمية التي استهدفت التضييق على السياحة السعودية إلى تركيا.

وفي السنوات الأخيرة، يتدفق السياح السعوديون إلى الأماكن والمدن السياحية في تركيا بنسب غير مسبوقة وذلك على الرغم من الخلافات السياسية الكبيرة بين البلدين وحملات الترهيب والتخويف والمقاطعة التي احتدمت في الأشهر الأخيرة، ويشير التراجع في أرقام السياح إلى نجاح الحملات والتضييق الرسمي في التقليص من حجم السياحة.

وإلى جانب السياحة، يتجه السعوديون إلى شراء العقارات بشكل أكبر من السابق في تركيا، وباتت الكثير من المجمعات السكانية في إسطنبول يقطنها أعداد كبيرة من السعوديين، بينما يكتفي آخرون بشراء الشقق للاستثمار أو تركها مغلقة لاستخدامها لأيام معدودة في العام فقط.

كما بات مئات السعوديين يمتلكون بيوتا مستقلة وفيللا راقية في مناطق ساحل البحر الأسود ومنطقة بحيرة سابنجا وبولو وغيرها من المناطق السياحية الجميلة، حيث يُعتبرون حاليا ثاني أكثر الأجانب والعرب بشكل عام تملكا للعقارات في تركيا.

 

صراعات سياسية

وخلال الأيام الماضية، جدد سعوديون دعواتهم لمقاطعة تركيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على خلفية الصراعات السياسية بين إسطنبول وعدد من دول مجلس التعاون الخليجي.

وتتمحور العديد من خلافاتهم حول المواقف المتضاربة تجاه الإسلام السياسي، الذي يتبناه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، لكن المسؤولين السعوديين ينظرون إليه على أنه تهديد أمني.

ومنذ 2018، تدهورت العلاقات بين البلدين، ووصلت إلى نقطة منخفضة بعد مقتل الصحفي “جمال خاشقجي”، كاتب الرأي في صحيفة “واشنطن بوست”، في قنصلية المملكة في إسطنبول.

وفي يوليو/تموز الماضي، قررت محكمة تركية عقد الجلسة الثانية لمحاكمة قتلة “خاشقجي” في 24 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بعد الموافقة على لائحة اتهام قدمت شكواها “خديجة جنكيز” خطيبة “خاشقجي”، تطال 20 سعوديا، بتهم بينها التعذيب الوحشي والقتل والتحريض.

ومطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أعلن وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” أن بلاده لا تتخذ موقفا ضد إدارة المملكة العربية السعودية وشعبها بل ضد قتلة “خاشقجي”.

وقال “جاويش أوغلو”، ردا على أنباء حظر السعودية للمنتجات التركية، إنه “سمع عن أنباء كهذه لكنها ليست مؤكدة”، مضيفا أن “المسؤولين السعوديين فندوا تلك الادعاءات، لكننا ننتظر لنرى إن كان الحظر سيفرض خلال الشهر الجاري”.

وأكد وزير الخارجية التركي أن “حظرا كهذا في حال إقراره لا يتفق مع قوانين منظمة التجارة العالمية، والقانون التجاري الدولي”، موضحا أن بلاده تسعى لحل الخلاف على المستوى الثنائي، وأنها “ستضطر لاتخاذ خطوات في حال عدم التوصل لاتفاق وفرض الحظر”.

واعتبر “جاويش أوغلو” أن تركيا “لم تظهر أي عداء للسعودية خلال الفترة الماضية”، وأن موقف بلاده “كان واضحا للغاية” عقب مقتل “خاشقجي”، قالا: “موقفنا هذا ليس ضد الإدارة والشعب السعودي، إنما بسبب قاتلي خاشقجي وعدم تسليمهم للعدالة، وليس هناك أي موضوع آخر”.

ورأى وزير الخارجية التركي أنه “يجب على السعودية وتركيا التعاون لمقابلة تطلعات الأمة الإسلامية بصفتهما من أقوى دول العالم الإسلامي”، على حد تعبيره.