في إجراء يعد الأول والفريد من نوعه في العالم، ولقرابة عام كامل تمنع السلطات في المملكة العربية السعودية، المواطنين من مغادرة البلاد، إلا بتصريح من وزارة الداخلية تحت دعوى “جائحة كورونا”.
ورغم أن المملكة أعلنت أن جميع منافذ السفر، ستفتح بشكل كامل بداية من 31 مارس/آذار 2021، لكن مخاوف عديدة باتت تساور المواطنين في أن يستمر نظام ولي العهد الأمير “محمد بن سلمان” في تقييد حرية السفر خاصة على المعارضين لحكمه.
قبضة أمنية
في 18 يونيو/حزيران 2020، كتب “ديفيد إغناطيوس”، تقريرا لصحيفة “واشنطن بوست”، تحت عنوان “منع السفر وسيلة بن سلمان المفضلة للقمع.. وآلاف السعوديين حرموا من مغادرة بلادهم”.
“إغناطيوس”، يرى أن “المنع من السفر” هو الوسيلة المفضلة لولي العهد محمد بن سلمان، لإحكام القبضة على معارضيه، وتجاوز هواجسه الأمنية، وفرض عقوبات على خصومه في الداخل أيضا.
وقال: “منع السفر يقوم على استفزاز آلاف السعوديين من خلال تقييد حركتهم، فقط لأن ولي العهد يتعامل معهم كتهديد سياسي”، واستشهد بحديث “خالد الجبري”، طبيب القلب السعودي ونجل المسؤول الأمني “سعد الجبري” المقيم في كندا، عندما أكد أن “هذه أداة اختطاف رهائن كوسيلة للحكم”.
الكاتب الأميركي أوضح أن “عدد السعوديين الذين منعوا من السفر ربما زاد على الآلاف” بحسب دوائر أميركية، مضيفا: “لا يعرف الذين مُنعوا من السفر عن وضعهم إلا عندما يذهبون إلى المطار أو يحاولون اجتياز نقاط مراقبة الحدود، حيث يتم وقفهم ويخبرون أنهم لا يستطيعون العبور بناء على أمر من أمن الدولة الذي يدار عبر البلاط الملكي مباشرة”.
وكشف تقرير “واشنطن بوست” أنه “مُنع 27 من أبناء وبنات الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، من السفر إلى الخارج منذ عام 2017، بالإضافة إلى منع ما بين 52 و57 من الأحفاد و8 من أبناء الأحفاد من السفر”.
كما أعلن أن “300 شخص أو أكثر ممن اعتقلوا في فندق (ريتز كارلتون) شكلوا الجزء الأكبر من قائمة الممنوعين من السفر، حيث تشمل المجموعة أسماء رجال أعمال بارزين في المملكة، مثل الأمير الوليد بن طلال”.
وكذلك متعب بن عبد الله، الرئيس السابق للحرس الوطني، ومشعل بن عبد الله حاكم مكة السابق، وفيصل بن عبد الله، الرئيس السابق لجمعية الهلال الأحمر السعودي، وتركي بن عبد الله محافظ الرياض السابق.
ويعتبر احتجاز أفراد العائلات كرهائن للضغط على المعارضين في الخارج، هو أسلوب معتمد في المملكة، توسع في عهد محمد بن سلمان، مع زيادة الاضطهاد وتأسيس حقبة ملك جديدة تقوم على الاستبداد والقهر.
سجن كبير
منعت أيضا السلطات السعودية أبناء “جمال خاشقجي” الصحفي المقتول يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2019، داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، من السفر، قبل اغتيال والدهم.
ففي عام 2017. منع نجل “خاشقجي” الأكبر صلاح من مغادرة السعودية، وأبلغ الصحفي السعودي حينها أنه لن يسمح لأولاده بالسفر إلا في حالة عودته إلى البلاد، وهو ما لم يحدث حتى اغتياله.
لكن وفيما يبدو أنه جاء في إطار صفقة مع “ابن سلمان” وبضغط أميركي، كشفت المنظمة الدولية لحقوق الإنسان “هيومن رايتس ووتش” في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2018، أن صلاح خاشقجي (يحمل الجنسية الأميركية) غادر السعودية مع عائلته بعدما رفعت الحكومة حظر السفر الذي كان مفروضا عليه.
وأشارت مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في هيومن رايتس ووتش، “ساره ليه ويتسون” إلى أن “رفع حظر السفر المفروض على صلاح وعائلته هو مصدر ارتياح كبير”. لكنها تابعت “علينا أن نذكر أن المئات إن لم يكن الآلاف في السعودية ممنوعون من السفر ومعتقلون بدون محاكمة”.
السعوديون الذين يحملون جنسيات أخرى، يتعرض بعضهم لا سيما الناشطين منهم للمنع من السفر، وهو ما حدث مع الطبيب السعودي “وليد فتيحي”، الذي يحمل الجنسية الأميركية، في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ثم أفرج عنه بضغوط أميركية، ومع ذلك يظل هو وأسرته رهن المنع من السفر خارج المملكة.
وفي سبتمبر/أيلول 2017، نشرت “هيومن ووتش”، قائمة مكونة من 131 من كبار الرموز السياسية والدينية، داخل المملكة، من أولئك الذين احتجزهم “محمد بن سلمان”، بالإضافة إلى ذلك قرر حظر سفر عائلاتهم.
وخصت المنظمة عائلة الداعية الإسلامي “سلمان العودة” بالذكر، مع فرض حظر السفر على 17 فردا من عائلة العودة، كان بعضهم تحت سن 10 سنوات.
مبتعثو كندا
المبتعثون السعوديون في الخارج، لم يكونوا بمعزل عن أزمات الداخل، بل استغلتهم السلطة في كثير من الأحيان، وحاولت إرجاعهم إلى البلاد، وهو ما حدث عندما اندلعت الأزمة السياسية بين السعودية وكندا، في أغسطس/آب 2018، بعد أن طالبت “أوتاوا” الرياض بالإفراج عن حقوقيين سعوديين اعتقلتهم.
سرعان ما اتخذت المملكة إجراءات صارمة، مع إعلان شركة الخطوط الجوية السعودية وقف رحلاتها الجوية من وإلى مدينة “تورنتو” الكندية، إضافة لذلك قررت وزارة التعليم السعودية، إيقاف برامج البعثات والتدريب والزمالة إلى كندا، وإعداد خطة عاجلة لعودة جميع الملتحقين بهذه البرامج البالغ عددهم قرابة 17 ألفا مع أسرهم.
كندا أيضا تشكل محور خطورة على سمعة ولي العهد السعودي في الخارج، حيث يعيش فيها حاليا واحد من أخطر المعارضين والمطاردين من قبل النظام، وهو ضابط الاستخبارات السابق “سعد الجبري”.
ربما تشكل قصة “الجبري” أحد الأسباب الرئيسة لخوف قادة المملكة والأجهزة الأمنية من سفر شخصيات مسؤولة أو ذات نشاط إلى الخارج، فـ”الجبري” المحسوب على جناح ولي العهد السابق “محمد بن نايف”، الذي أطيح به في صراع الحكم مع “ابن سلمان”، غادر المملكة عام 2017، قبل عزل “ابن نايف” وتنصيب “ابن سلمان” وليا للعهد مكانه.
“سعد الجبري” علم أنه في خطر حال عودته، فتوجه وعائلته إلى ألمانيا ومنها إلى الولايات المتحدة قبل أن يستقر في كندا، وكان اثنان فقط من أبناء الجبري، عمر وسارة، عمرهما 18 و17 عاما آنذاك، في البلاد، وحاول كلاهما الفرار، لكن أوقفهما المسؤولون في المطار وأخبروهما بأنهما ممنوعان من السفر.
وفي 26 مايو/آيار 2020، اتهم “سعد الجبري”، ابن سلمان بإرسال فريق اغتيال (الفرقة نمر) لقتله في كندا بعد أيام من اغتيال خاشقجي، وفق دعوى قضائية رفعها “الجبري” أمام محكمة أميركية.
“التجمع الوطني”
لا شك أن نواة تكوين معارضة سعودية في الخارج، من الأسباب الرئيسة التي تحدد إستراتيجية نظام “محمد بن سلمان”، في حظر السفر ووضع قيود عليه، ففي 23 سبتمبر/أيلول 2020، أعلن معارضون سعوديون، إنشاء حزب جديد تحت مسمى “التجمع الوطني”، هدفه الرئيس تحقيق العدالة، والحكم بالديمقراطية، وعدم احتكار الثروات من قبل السلطة الحاكمة.
الحزب شارك في تأسيسه مجموعة من المعارضين لسياسات “ابن سلمان”، على رأسهم الأكاديمية “مضاوي الرشيد”، والحقوقي “يحيى عسيري”، والداعية “سعيد الغامدي”، والأكاديمي “عبد الله العودة”، والناشط “عمر بن عبد العزيز”.
وحسب البيان الأول للحزب، أعلن أن الهدف منه “تحصين المملكة من الاضطرابات والديكتاتورية المطلقة وتمهيد الطريق للديموقراطية ضمن انتقال سلمي”.
الناشط الحقوقي “مصطفى عز الدين”، قال “للاستقلال” إن “فكرة المنع من السفر في حد ذاتها، تعبر عن انتهاك مطلق لأمة يعيش فيها أكثر من 30 مليون مواطن، فكيف يمكن تحجيم حركتهم، أو وضع قيود على سفرهم، خاصة وأن الشعب السعودي كثير الترحال والسفر، لكثير من الأغراض سواء للتعليم أو الترفيه أو السياحة”.
وأضاف: “منع أبناء وعائلات المعارضين السياسيين من السفر، يعد واحد من أشد إجراءات انتهاكات حقوق الإنسان، ولا يضاهيه شدة إلا الاعتقال المباشر، فما ذنب أن يتعرض نجل أو شقيق معارض رأي للمنع من السفر، وسجنه داخل وطنه، عندئذ يتحول الوطن إلى سجن كبير”.
وتابع: “لو قلنا أن المعارضين يصلون إلى 1000 على سبيل المثال، فبمنع عائلتهم وذويهم تصل العقوبات إلى 10 آلاف عقوبة، لكن العدد أكبر في المملكة، لو حسبنا أمراء البيت الملكي، ورجال الأعمال، وأقارب الناشطين، والذين تعرضوا للاحتجاز في (فندق ريتز كارلتون) كل أولئك يقدرون بالآلاف”.
وطالب الناشط الحقوقي منظمات حقوق الإنسان، لا سيما العفو الدولية، بـ”تعقب حالات الممنوعين من السفر داخل المملكة، وإصدار تقارير دورية عنها، وتحديد حالات بعينها ومحاولة إنقاذهم من قبضة النظام هناك، لأنهم بالفعل عرضة للخطر في المستقبل، في ظل عدم وجود رقابة أو مكاشفة”.