– حسين إبراهيم/ كاتب صحفي لبناني

بمجرّد أن بدأ التداول بتأجيل زيارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى السعودية لمدّة شهر، وبمعزل عن أسباب هذا التأجيل، والتي قد تكون تقنية فقط ربطاً بضبط المواعيد، أو ذات دلالات عميقة على الأزمة التي ألمّت بالعلاقة بين البلدَين، ولا سيما بين بايدن ووليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، توقّفت احتفالات الذُباب الإلكتروني السعودي بانتصار الثاني على الأوّل.

وأخَذ المعارضون السعوديون نفَساً عميقاً، كما خفّفت الصحافة الأميركية التي كانت قد هلّلت لقرار الرئيس عدم التعامل مع بن سلمان وإعادة ضبط العلاقات بالمملكة، من حملتها العنيفة ضدّه، والتي بدأت بعد تسرّب أخبار اللقاء المحتمل!

ما يؤشّر إليه التذبذب في صناعة القرار داخل البيت الأبيض، هو وجود ارتباك صارت تشكو منه عائلة الرئيس، وخصوصاً زوجته جيل وابنته فاليري، اللتان تقولان إن مساعديه في الجناح الغربي يعاملونه بعناية خاصة، ولا يسمحون له بإظهار عبقريّته، ولو كانت معرّضة لزلات الكِبَر، بحسب ما رأت صحيفة «بوليتيكو».

ومسألة العلاقات مع السعودية واحدة من أبرز مظاهر الارتباك تلك، حيث كان رأي الصحافة الأميركية، ولا سيما «واشنطن بوست» التي تقود الحملة ضدّ اللقاء مع محمد بن سلمان باعتبارها معنيّة مباشرة بقضية جمال خاشقجي الذي كان كاتب عمود فيها، موحَّداً على أن هذا اللقاء يقدّم نصراً مجانياً لوليّ العهد السعودي، مقابل مكاسب مشكوك فيها لجو بايدن، إلى درجة أن صحيفة «نيويورك بوست» دعت الأخير إلى التنقيب عن النفط داخل أميركا بدل «التذلّل» في الخارج، أي لابن سلمان.

الكثير من الكلام غير الواقعي قيل في أسباب التأجيل، حتى في وسائل إعلام رصينة، مِن مِثل أن الزيارة إلى السعودية قد تَحصل من دون لقاء لبايدن مع ابن سلمان، لكن الثابت أن الملفّات التي جرى الحديث عنها، أكثر تعقيداً وأقلّ نضوجاً وأكبر تأثيراً وتأثّراً بقضايا كبرى، من أن يجري الاحتفال بإنجازها في لقاء يُرتّب على عجل بين رئيس طاعن في السن يلقّبه خصومه بـ«النعسان»، وبين وليّ عهد غير ناضج سياسياً ومتعطّش للسلطة ومندفع إلى حدّ ارتكاب جميع أنواع الأخطاء الجسيمة في خمس سنوات من الهيمنة على الحُكم تحت ظلّ أبيه الهرِم.

الملفّ الأضخم هو مستقبل العلاقات السعودية الأميركية؛ فالمواكبة الأميركية المطلوبة لتسليم ابن سلمان السلطة، مع منْحه نصراً معنوياً، ستترك آثارها على العلاقة ربّما لعشرات السنين القادمة، خاصة وأن الأخير من النوع الذي يريد سحق أيّ معارضة داخلية حتى لو كانت من الأسرة المالكة.

وهذا يُفقد الولايات المتحدة المرونة التي كانت تتمتّع بها، حين كانت ترعى، مع ضمانتها للحُكم، التوازنات داخل الأسرة نفسها، ما يجعلها أكثر قدرة على التأثير في القرار السعودي، سواءً تَعلّق الأمر بالنفط أو بخدمات لا تريد واشنطن التورّط فيها مباشرة، فتحيلها إلى المملكة، تمويلاً وتنفيذاً، أو بتحالفات من النوع الذي خدم واشنطن ضدّ السوفيات في فترة الحرب الباردة.

وإذا اعتُبر أن حرب أوكرانيا تؤذن بعودة الصراع مع الروس، فإن بن سلمان يقف حتى هذه اللحظة في المعسكر الروسي، لا الأميركي.

الملفّ الثاني الكبير، هو ملفّ تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وإذا كان ابن سلمان قد خطا خطوات أكبر في هذا المجال، فإن السعودية منذ أيام عبد العزيز آل سعود كانت دائماً تقيم نوعاً من العلاقة السرّية مع العدو.

ورغم الاندفاع الإسرائيلي الضاغط على واشنطن للتنازل لابن سلمان مقابل بدء شكل من أشكال التطبيع الرسمي التدريجي عبر نقل اتفاقية جزيرتَي تيران وصنافير مع العدو من العُهدة المصرية إلى السعودية، إلا أن الجميع يقرّ، بِمَن في ذلك الإسرائيليون، بأن التطبيع مع المملكة المحافظة سيستغرق وقتاً طويلاً، الأمر الذي يعفي وليّ العهد السعودي من التسديد الفوري لأحد الأثمان الكبرى لتسهيل انتقال العرش إليه، وإلا فلا الأميركيون ولا الإسرائيليون يعملون عنده بالمجّان.

ومن بين تبريرات التأجيل ارتباطاً بهذا الملفّ، هو المزيد من التحضير لاجتماع سيشارك فيه بايدن مع قادة دول «مجلس التعاون الخليجي»، يُفترض أن يحصل خلاله اتفاق على ضمانات أمنية أميركية جديدة لدول الخليج، الخائفة جميعها من الفراغ الأمني الذي يتركه الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط.

أيضاً، ما تَسرّب عن هذه الترتيبات يوحي بأن إسرائيل ومنظوماتها الصاروخية ستكون محورها، وهذا ما لا تستطيع دول خليجية كالكويت وسلطنة عمان القبول به.

كما أن لقطر توجّهات مختلفة عن تلك التي للسعودية والإمارات؛ فهي بخلاف الأُخريَين ما زالت وستظلّ في المستقبل المنظور تحظى بالحماية الأميركية المباشرة عبر قاعدة العُديد، فلماذا تستبدلها بحماية إسرائيلية في الوقت الذي تتمتّع فيه بمرونة في التعامل مع الأطراف الإقليمية الأخرى، بِمَن فيها إيران، التي ستكون مستهدفة بالترتيبات الجديدة؟

ولذا، طالب رئيس الوزراء القطري السابق، حمد بن جاسم، الدول المشاركة في الاجتماع بالتفاهم في ما بينها على جدول الأعمال قبل القمّة.

أمّا الملفّ الأكثر إلحاحاً بالنسبة للأميركيين، أي النفط، لارتباطه بحرب أوكرانيا، فهو أيضاً شديد التعقيد، لا بسبب نوايا المتحكّمين في سياسة «أوبك»، وفي هذه الحالة ابن سلمان، وإنّما بسبب طبيعة السوق النفطية العالمية التي لا يمكن التنبّؤ بحركتها، وتتأثّر بعوامل كثيرة ليس في وُسع أحد التحكّم فيها. لكن في هذا السياق، يمكن إيراد مؤثّرَين أساسيَين:

– الأوّل أن قدرة السعودية ودول «أوبك» على زيادة إنتاجها محدودة، لأنها تنتج بالفعل قريباً من طاقتها القصوى؛

– الثاني أن روسيا قادرة على إيجاد زبائن بدلاء للزبائن الأوروبيين، ولو بخصم في الأسعار، بينما أوروبا هي مَن يحتاج إلى مصادر بديلة للطاقة ليست متوفّرة فوراً، وستحتاج إلى سنوات حتى تصبح متاحة، إن توفّرت.

بعد تسريب أخبار تأجيل اللقاء من جانب مسؤولي البيت الأبيض، انقلبت حملة الانتقادات التي تعرّض لها بايدن، سواءً في الولايات المتحدة أو من قِبَل المعارضين السعوديين الذين اتّهموه بـ«الخيانة»، إلى رجاء بأن يتراجع عن فكرة اللقاء من أساسها.

وما حصل، نغّص بالفعل فرحة بن سلمان الذي كان على بُعد خطوات قليلة من تحقيق حلمه بالعرش، الذي كلّف العالم الكثير حتى الآن.