على وقع خبر مقتل عدد من الضباط والجنود السعوديين في ضربة نوعية لميليشيا الحوثي للقوات السعودية المتمركزة على الحدود الجنوبية منذ تولي الملك سلمان مقاليد الحكم في ٢٠١٥، بدأت احتفالات موسم الرياض لهذا العام تحت شعار ”تخيل أكثر“! وبالفعل، فقد وصف أحد السعوديين المطبلين لموسم الرياض أن ”ما يحدث لا يستوعبه عقل!“ فلا يمكن للكلمات وصف ما يحدث في العاصمة السعودية هذه الأيام من تدهور شديد وانتهاك لحقوق الإنسان والقيم والذوق العام، إضافة إلى المبالغ الفلكية الهائلة التي لم يستطع رئيس الترفيه لملمة كلماته حين سئل عنها في مؤتمره الصحفي، بل كان التعلثم والارتباك سيد الموقف. الأمر الذي يشير بلا شك إلى أرقام فلكية من الميزانية السعودية وضعت تحت تصرفه، في وقت يعاني فيه الشعب بشكل مأساوي من غلاء في الأسعار، وبطالة في ازدياد، وضرائب مستمرة.
ونتساءل في هذا التقرير عن حقيقة الدعم اللا محدود من قبل الحكومة السعودية لمثل هذه البرامج الترفيهية المستفزة للقريب والبعيد، وهل كان ”موسم الرياض“ هو الحل الأمثل للمشكلات التي يعيشها أبناء وبنات الوطن خصوصا في مثل هذا الوقت مثل البطالة؟ هل تحاول الحكومة السعودية أن تقول للعالم إن السماح للشعب بالرقص والغناء هو نجاح في تحديث وتنمية المجتمع، في وقت يتم قمع أي صوت ناقد لفعاليات الترفيه أو رئيسه، فضلا عن حقوق مشروعة أخرى مثل المحاسبة؟ هل تظن الحكومة السعودية أن تحرير المرأة من ما يسمى بالتشدد والصحوة يعني في المقابل أن يتم السماح بالتحرش اللفظي والجسدي ببنات الوطن على مرأى ومسمع من الكل دون تدخل أو حماية دون أن يتم توجيه القمع الأمني الذي يستهدف حرية التعبير إلى أولائك المتحرشين؟ هل يمكن محاسبة أو التدقيق بل حتى الإفصاح في الرقم الحقيقي للميزانيات المفتوحة التي يتحكم بها تركي آل الشيخ في موسم الرياض؟
يبدو جليا لكل مراقب للشأن السعودي أن الهدف الرئيس لفعاليات مثل ما يمسى بـ“موسم الرياض“ هي محاولة لسلخ وتغيير جلد المجتمع من القيم الإسلامية والعادات الأصيلة التي حافظ عليها المجتمع لسنين طويلة حتى من قبل الصحوة. بل إن بعضا من هذه الأخلاق هي عادات إنسانية في كثير من المجتمعات قبل أن تكون إسلامية. مع ذلك، أكد ولي العهد السعودي وتركي آل الشيخ في أكثر من محفل أن هدفهم هو تغيير عادات المجتمع والتي ينسبونها إلى الصحوة، وخلق إسلام جديد يناسب رؤية ٢٠٣٠! وهذا ما يقوم به أذيالهم من قنوات وذباب حين يشيرون إلى أن ما يحدث في موسم الرياض إنما هو خطوة جريئة نحو فتح آفاق التطور والتحرر من قيود العقليات التي تخاف التطور والحداثة، كما يقول أحد المروجين للمشروع.
ولا أدل على هذا من التساهل الواضح من قبل الحكومة وأجهزتها تجاه المخالفات والممارسات التي تخالف القانون والذوق العام، والتي لم تطبق لائحته وقوانينه المعلنة مؤخرا في الموسم. بل وحتى الإجراءات الاحترازية من جائحة كورونا أزيلت فقط قبل أيام من موسم الرياض ليتم تعبيد الطريق لمثل هذه الممارسات. لكن السمة البارزة والصادمة في هذا الموسم هو انتشار الانتهاك الصارخ لحقوق النساء وانتشار التحرش الجسدي واللفظي بشكل محزن للمجتمع المسلم المحافظ. فقد تم تداول المئات من مقاطع الفيديو من حفل افتتاح موسم الرياض والتي تضمنت العديد من حالات التحرش التي تعرضت لها الفتيات السعوديات بعد الاختلاط الكبير والفاجر الذي تم في الحفل دون تدخل من الشرطة السعودية. إن التطور المزعوم الذي لا يقوم على حماية حقوق جميع فئات المجتمع وخصوصا النساء والفتيات ليس إلا تخلف لعصور الانحطاط المظلمة. كما أن حصر مفهوم تحرير المرأة السعودية بالسماح لها بالرقص على أكتاف الرجال دون غيره لهي عبودية ورجعية.
ففي مفارقة من نوعها لم تحسب لها الحكومة السعودية، تناقلت وكالات الأنباء العالمية خبر مقتل ٦ ضباط سعوديين و١٢ جنديا سعوديا في قصف لميليشيا الحوثي في الوقت الذي تكتمت السعودية على الخبر، باستثناء أخبار من هنا وهناك من قبل أفراد سعوديين يعلنون عن استشهاد أقاربهم على الحد الجنوبي للبلاد. يأتي هذا في نفس اليوم الذي تنطلق به فعاليات موسم الرياض. ففي الوقت الذي يعاني فيه الجنود السعوديين في حرب عبثية منذ قرابة ٧ سنوات على الحدود الجنوبية للبلاد، وفي الوقت الذي يعانون فيه من الناحية المادية وحتى المعنوية، فإن الحكومة تختار أن تهمل ذكر خبر استشهاد هؤلاء الجنود في القنوات الحكومية الرسمية وتأبينهم بشكل محترم. بدلاً من ذلك، يتم الترويج عن الحفل الافتتاحي لموسم الرياض في موقف يستهين بشكل فج بتضحيات وحقوق هؤلاء القتلى وذويهم، ولم يمكن حتى إلغاء أو حتى تأجيل هذا الموسم لأيام حدادا على هؤلاء الجنود، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن هذا الموسم والاحتفالات ليست لهدف الترفيه المجرد، أو لشركات بهدف الربح المادي فحسب، بل هو مشروع حكومي بأهداف واضحة، ولابد أن يتم حتى ولو كان على حساب الشعب واحترام حقوقه. إنه لو قُتِل هذا العدد أو أقل لأي دولة ذات سيادة محترمة في العالم ترعى أي مظهر من مظاهر الاحتفالات فإنها تلغيها أو تؤجلها، احتراما وتقديرا لأرواح جنود البلد المدافعين عنه. لكن الرسالة التي تحاول الحكومة إيصالها، هي أن هذا مشروع الرقص والغناء مستمر، ولن يعطله آي حدث كان ولو كان مقتل هؤلاء الذين يحمون البلد! وكأن هؤلاء المتراقصين شعب، وهؤلاء شعب آخر لا يستحق حتى أن يذكر في وسائل الإعلام الرسمية.
إن الحكومة التي تخطط وتنفذ وتدافع بشراسة عن مشروع ترفيهي تافه مثل موسم الرياض، ثم تعجز عن حماية آبسط حقوق المواطنين والمواطنات فيه ولا تحتمل أي نقد أو معارضة له، لهي حكومة هشة. وفي حين تتسابق دول العالم إلى خلق ودعم وترويج مشروعات في العلم والمعرفة والتكنولوجيا والقوة العسكرية، تتسابق الحكومة السعودية مع نفسها في أكبر المسارح والألعاب والمصارعة! إن ما يحدث من مهزلة فيما يتعلق بالترفيه يستلزم وقفة جادة من جميع أبناء وبنات الوطن تجاه ما يحدث من انتهاكات وفجور، وذلك من خلال ثلاثة جوانب: أولاً، ينبتغي نشر الوعي بين أفراد المجتمع بحقيقة هذا المشروع وأن هدف الترفيه الخفي لهذه الحكومة هو خلق جيل لاعبٍ لاهٍ، غير مهتم بما يحدث في محيطه من مشكلات خطيرة كالبطالة وانتهاكات جسيمة كالاعتقالات والاغتيالات. ثانياً، إن أقل واجب ينبغي لأبناء وبنات الوطن فعله هو عدم المشاركة في مثل هذه المواسم والبرامج، وذلك حماية لأنفسهم.
إن حضور أي فرد لمثل هذه المشروعات، فضلا عن المشاركة فيها، لهو أكبر هدية تُقدم للحكومة في هذا الوقت التي تشعر فيه بالعزلة الدولية والداخلية. وأخيراً، إن أكبر ما تخشاه الحكومة الحالية هو استغلال منابرها الإعلامية، التي تستخدمها للترويج لمشاريعها، في نشر الوعي بحالة حقوق الإنسان المتردية في البلاد وكشف جرائمها المستمرة في حق المعتقلين والمهجّرين وأهاليهم. إن من لا يحترم جنوده وشهداؤه المرابطين على ثغور البلاد لا يمكن التعويل عليها في حماية بقية الشعب. كما إن حكومة لا توفر الحقوق الأساسية للمواطنين والمواطنات لا يمكن أن تنجح حتى في ترفيههم.