بقلم/ د. وليد عبد الحي – كاتب وأكاديمي أردني وباحث في المستقبليات

أثارت الانتقادات السياسية التي وجهها الامير السعودي تركي الفيصل في مؤتمر البحرين في الاسبوع الماضي  للسياسات الاسرائيلية تساؤلات عن دلالات ذلك، ويبدو لي ان محاولة الفهم لما وراء التصريحات يستدعي الاشارة لبعض الملاحظات:

‌يجب ان لا يغيب عن الذهن ان تركي الفيصل التقى مسؤولين اسرائيليين عديدين أثناء توليه مناصب رسمية وبعدها، فقد التقى وصافح  نائب وزير الخارجية الاسرائيلي السابق داني ايلون في مؤتمر الامن الدولي في ميونيخ عام 2010 (أي قبل موجة التطبيع الخليجي الاسرائيلي الحالية) ـ كما التقى بل وامتدح أداء  وزيرة الخارجية الاسرائيلية السابقة تسيبي ليفني في مؤتمر الامن في ميونيخ ايضا ولكن عام 2014، ذلك يعني ان الرجل ليس ضد التطبيع كإستراتيجية ولكنه ضد ” منهجية ” التطبيع.

يلاحظ ان تصريحات تركي الفيصل الناقدة لاسرائيل  تأتي بعد فترة وجيزة جدا من الانتقادات الحادة للفلسطينيين والتي اعلنها بندر بن سلطان (الذي عمل في اعلى المناصب الامنية السعودية الى جانب أكثر من 23 سنة سفيرا للسعودية في الولايات المتحدة)، ومعلوم ان هناك خلافات سياسية بين بندر بن سلطان وتركي الفيصل منذ فترة طويلة حول الموقف من ايران وحول النووي الاسرائيلي وحول فكرة الاصلاح الداخلي (حيث دعا تركي في عام 2003 الى انتخاب اعضاء مجلس الشورى السعودي) وخلافات حتى حول بعض المواقف من التيارات الاسلامية، وهو ما يعني ان انتقادات اسرائيل من قبل تركي الفيصل ليست منفصلة عن الرؤية العامة لكل من الشخصيتين للأوضاع في الشرق الاوسط.

يلاحظ ان انتقادات تركي الفيصل لمجمل السياسات الاسرائيلية تأتي ايضا بعد أيام قليلة من التقارير الصحفية (امريكية واسرائيلية) عن لقاء بين نيتنياهو وولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان في منطقة “نيوم” التي يعتبرها بن سلمان مشروعه الاستراتيجي الداخلي ولها رمزيتها في العلاقة بين الطرفين.

 

ولكن بالمقابل ثمة سؤالان يلحان على اجابتهما:

1- لو أن دونالد ترامب فاز في الانتخابات الرئاسية الامريكية  هل كان تركي الفيصل سيدلي بهذه التصريحات، لا اعتقد ذلك، لانه يدرك ان المواقف الجذرية لترامب هي معاقبة كل من يقف امام استراتيجيته الشرق اوسطية، ويدرك تركي الفيصل بخبرته الامنية ومعرفته العميقة بالمؤسسة السياسية الامريكية ان الانحياز الامريكي لاي طرف في الصراع الداخلي في أي دولة هو متغير استراتيجي لا يمكن تجاهله، لذا لو فاز ترامب لما سمعنا- في تقديري- هذه التصريحات.

2- هل لو كان المؤتمر منعقدا في مكان غير البحرين، هل كان تركي الفيصل سيدلي بهذه الأقوال؟ ربما سيقولها ولكن بالتلميح او بعبارات دبلوماسية تكون أكثر قابلية للتأويل، ولكنه يريد ان يعارض “منهج التطبيع” لانه يريد ثمنا مقابل التطبيع، ولكنه ليس ضد التطبيع كاستراتيجية بخاصة انه اكد على اولوية المبادرة العربية (وهي مبادرة سعودية في جوهرها) والتي تتضمن التطبيع الكامل مع اسرائيل.وبالتالي فهو قابل بالتطبيع ولكنه يريد ايصال رأيه من خارج الحلبة السعودية ولكن من حلبة تمثل امتدادا للحلبة السعودية وبدون مواجهة مباشرة.

 

إذن كيف نفهم التصريحات:

أولا: اعتقد ان التماسك التاريخي داخل العائلة الحاكمة في السعودية (رغم بعض المظاهر المعاكسة في مراحل تاريخية قليلة وقصيرة الامد) اصيب اصابة بالغة بعد ما جرى لرموز العائلة الحاكمة ونخبة المجتمع السعودي في معتقل “الريتز كارلتون”، وبعد سلسلة الفتوق في عباءة ولاية العهد (مقرن ومحمد بن نايف) ثم في تهميش ومواراة رموز كبيرة من العائلة (أحمد بن عبد العزيز) وانتزاع مكانة البعض (متعب بن عبدالله القائد السابق للحرس الوطني)..

ما سبق يجعلني اظن ان تصريحات تركي الفيصل هي تعبير عن تداعيات الفتوق التي اصابت نسيج عباءة  ذلك التماسك التاريخي، ويبدو ان التداعيات ستتواصل داخل العائلة داخليا وخارجيا .

ثانيا: اعتقد ان التيار الذي لا يشارك ولي العهد توجهاته الاستراتيجية بدأ يخشى على ” النظام بكامله” ، فالصراع العائلي مضافا له تفكيك الحركة والثقافة  الدينية الداخلية واعتقال كبار رموزها بل وتصنيف الحلفاء التاريخيين من الحركات الاسلامية بالارهاب ، ثم تراجع القدرة المالية بسبب انهيار اسعار النفط، ناهيك عن الانغماس في حرب اليمن بكل ما لها من تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية بل ووجدانية على داخل المملكة وعلى صورتها الدولية بخاصة بعد تهكمات ترامب وواقعة تقطيع وحرق الصحافي السعودي البارز جمال خاشقجي (والتي سبق وأن  دافع  فيها تركي الفيصل عن محمد بن سلمان)..

كل ذلك جعل التيار “المعارض لتوجهات ولي العهد” يحاول لجم هذه الاستراتيجية والتي يبدو ان ألاب سلمان غير قادر على ضبطها، وهو ما يعني ان تصريحات تركي الفيصل هي تعبير عن تزاحم على كرسي ما بعد سلمان بين تيارين احدهما “مُنْبتٌ” (قد لا يقطع أرضا ولا يُبقي ظَهرا) والأخر ” مُتريث ” يخشى ان يخسر التياران كل شيء، كما يدرك هذا التيار الثاني ان صورة  ” اليهودي ” التي استقرت في وعي ولاوعي ” المجتمع ” السعودي لا تلغى بالبساطة التي افترضها التيار الاول…ربما.