مرَّ عام على اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده بإسطنبول، وحتى الآن لم يُعثَر على جثته بعد، أو يُدان أي شخص في مقتله. بيدَ أن الحادث الذي وقع يوم 2 أكتوبر (تشرين الأول) 2018 سلَّط أنظار العالم، ليس فقط على ملف حقوق الإنسان في المملكة، ولكن أيضًا على تسييس النظام القضائي السعودي، حسبما تقول أنييس كالامار، المُقرّرة الخاصة المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء، في المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وهي أيضًا مديرة مشروع «حريّة التعبير» بجامعة كولومبيا، التي حققت في مقتل خاشجقي، وخلص تقريرها إلى وجود «أدلة موثوقة كافية بشأن مسؤولية ولي العهد، تتطلب المزيد من التحقيق».
منذ مقتل خاشقجي العام الماضي، وثقت منظمة«Human Rights First حقوق الإنسان أولًا»، «حقائق بشأن حادث القتل، ومحاولات إدارة ترامب للتغطية على القادة السعوديين»، وطالبت أكثر من 10 منظمات حقوقية الكونجرس باتخاذ إجراء في القضية، دون نتيجة تُذكَر.
لكن جانبًا من العدالة الشعرية يتجلى في ما رصده أنوج شوبرا في «وكالة الأنباء الفرنسية»، من أن الأزمة«أضعفت السعودية»على الساحة العالمية، وسحبت الكثير من رصيد «الإصلاحات الطموحة»، التي يروِّج لها ولي العهد، الحاكم الفعلي للبلاد، و«جعلت المملكة تحت المجهر، ووضعت تحالفاتها العتيدة مع القوى الغربية تحت الاختبار». وحتى إذا كانت جثة خاشجقي قد تبخرت، فإن «روحه ما تزال تحلق في سماء المملكة العربية السعودية»، على حد قول بروس ريدل، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، ومؤلف كتاب «الملوك والرؤساء»، و«لم يطو النسيان الصحافي المقتول، كما كان يأمل ولي العهد محمد بن سلمان».
صعق بالكهرباء وجلد على الفخذين وتحرش جنسي!
صحيحٌ أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات –في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي- على 17 سعوديًّا زُعم تورّطهم في مقتل خاشقجي، بمن فيهم سعود القحطاني، الذي أدار – وفق تقارير إعلامية–حملات على الإنترنت ضد منتقدين سعوديين، وهو معروف في الدوائر الدبلوماسية باسم«أمير الظلام».لكن بعد شهرٍ واحد من مقتل خاشجقي، وتحديدًا يوم 21 نوفمبر 2018، نقلت منظمة «هيومن رايتس ووتش» عن «مصادر مطلعة أن محققين سعوديين ملثمين عذّبوا ما لا يقل عن ثلاث من الناشطات السعوديات المحتجزات منذ بداية مايو (أيار) 2018، باستخدام الصعق بالصدمات الكهربائية، والجلد على الفخذين، والعناق، والتقبيل القسري».
وأنه نتيجة للتعذيب ظهرت «علامات على أجساد النساء، شملت: صعوبة المشي، وارتعاش غير إرادي في اليدين، وعلامات حمراء وخدوش على الوجه والرقبة. فيما حاولت واحدة من النساء على الأقل الانتحار عدة مرات». ووفقًا لثلاث شهادات منفصلة حصلت عليها «منظمة العفو الدولية»، شمل التعذيب ممارسات أخرى مثل التعليق في السقف، ووثقت لجنة من النواب البريطانيين استخدام السلطات تكتيك الحرمان من النوم، والحبس الانفرادي ضد المعتقلات.
وأفاد العديد من المعتقلين بأنهم تعرضوا للتعذيب بهدف انتزاع «اعترافات» منهم، تستخدم بشكل روتيني أساسًا لتوقيع عقوبات قاسية، بما في ذلك عقوبة الإعدام، دون أن يتخذ القضاء أي خطوات للتحقيق في هذه الادعاءات حسب الأصول. وما يزال العديد من الناشطين الذين احتُجزوا تعسفًا، بمن فيهم النساء المدافعات عن حقوق الإنسان، رهن الاحتجاز دون تهمة ودون تمثيل قانوني، بمعزل عن العالم الخارجي.
تعليقًا على ذلك، قال مايكل بيج، نائب مديرة الشرق الأوسط في «هيومن رايتس ووتش»: «أي تعذيب وحشي لناشطات سعوديات لن يكون له حدود في حملة السلطات السعودية الوحشية ضد المنتقدين وناشطي حقوق الإنسان. يجب أن تواجه أي حكومة تعذب النساء بسبب مطالبتهن بحقوقهن الأساسية انتقادات دولية شديدة، لا أن تحصل على دعم غير محدود من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة».
وأضاف: «في الوقت الذي يبحث فيه العالم للحصول عن إجابات عن القتل الوحشي لجمال خاشقجي، فإنّ مصير النساء وناشطات حقوق الإنسان في السجون السعودية ما يزال عالقًا. على قادة العالم دعوة محمد بن سلمان لإنهاء الحملة ضد المنتقدين المحليين، وعلى الدول الأخرى التوقف عن تسليح السعودية، طالما أنها تواصل هجماتها غير القانونية في اليمن».
بعدما فاحت الرائحة، حاولت السلطات السعودية عبثًا مساومة الناشطة السعودية البارزة، لجين الهذلول، على إطلاق سراحها مقابل اعتراف مصور يفند التقارير التي تفيد بتعذيبها داخل المعتقل. ويقول أشقاء المعتقلة إن سعود القحطاني، الذي كان في ذلك الوقت أحد كبار مستشاري ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وتوجه إليه أصابع الاتهام في مقتل خاشقجي، كان حاضرًا أثناء بعض جلسات التعذيب، وهدد لجين بالاغتصاب والقتل.
سعودي أو يمني أو حتى أمريكي.. المُلك لابن سلمان والتعذيب للجميع!
ربما تجاوزت جرأة الكاتب الصحافي صالح الشيحي الحدود، حين قال في حوار على فضائية «روتانا»: إن الديوان الملكي في السعودية «من المؤسسات التي أصّلت للفساد في مرحلة من المراحل»، فكانت عقوبته السجن خمس سنوات، يمنع بعدها من السفر خارج المملكة لمدة خمس سنوات أخرى، بعد انقضاء مدة عقوبته. لكن الكاتب مروان المريسي كان يعرف القواعد في السعودية الجديدة تحت حكم الأمير محمد بن سلمان، إذ لا يجوز الحديث في القضايا التي تمس السياسة، أو الدين، أو العائلة المالكة.
لذلك اختار المريسي الكتابة عن العلوم والتكنولوجيا، والحاجة إلى تبني الإبداع والابتكار، وكلها يمكن أن تصب في نهر الإصلاح الذي يتبناه ولي العهد. لكن مجرد رفض الانضمام إلى الجوقة التي تمجِّد الديوان الملكي، كان أكثر من كافٍ لاستهدافه. ففي الأول من يونيو (حزيران) 2018، اعتقلت السلطات السعودية المريسي من المركز الطبي التخصصي في الرياض، في أثناء وجوده بجانب سرير ابنه البالغ من العمر خمس سنوات.
وإن كان الشيحي والمريسي يحملان الجنسية السعودية واليمنية، فالطبيب وليد فتيحي (54 عامًا)، المعتقل في سجن ذهبان أحد«أكبر سجون المملكة»، لم تشفع له جنسيته الأمريكية، لتنجيه من «الصفع وهو معصوب العينين، وتجريده من ملابسه الداخلية»، وتقييده بكرسي، وصعقه بالكهرباء في جلسة تعذيب استمرت نحو ساعة»، حسبما نقلت صحيفة «نيويورك تايمز».
ونقلت الصحيفة عن أحد أصدقائه، بعد اشتراطه عدم الكشف عن هويته خوفًا من تعرضه للانتقام، أن معذبيه جلدوا ظهره بقسوة لدرجة أنه لم يستطع النوم مستلقيًا. وذكر حساب «معتقلي الرأي»، المعني بشؤون المعتقلين في السعودية، أن طبيب السجن أرغم فتيحي «على تعاطي بعض العقاقير المهدئة القوية، التي لا يغيب عن أحد تأثيراتها السلبية في الدماغ».
خاشجقي ليس الأول.. ولن يكون الأخير!
من الواضح أن جمال خاشقجي لن يكون الأخير، مثلما لم يكن الأول، فالمملكة العربية السعودية تلاحق المعارضين في الخارج منذ عقود. وحول هذا التاريخ، يقول رامي خوري، مدير «معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية» في الجامعة الأمريكية ببيروت: «حالة جمال خاشقجي، للأسف، ليست سوى قمة جبل الجليد؛ إذا ثبت أن الحكومة (السعودية) تقف وراء اختفائه، فسيكون ذلك فقط هو المثال الأكثر دراماتيكية لاتجاهٍ استمر لمدة لا تقل عن 30 إلى 40 عامًا، لكنه تصاعد في ظل محمد بن سلمان».
بعد مقتل خاشجقي، بثت هذه الملاحقة الرعب في قلوب العديد من السعوديين الذين يعيشون في الخارج – حتى من ليس لهم نشاط سياسي- خوفًا من إمكانية استهدافهم. وقال مواطن سعودي يعيش في المنفى الذي فرضه على نفسه لموقع «إنترسبت»: «لقد سئمنا من المراقبة.. على الرغم من أن معظمنا ليس ناشطًا، لكننا نخشى من أن شيئًا نقوله، أو نفعله، أو ننشره على الإنترنت يمكن أن يؤدي بشكل ما إلى تهديد عائلاتنا في الوطن».
في السنوات الأخيرة، استخدمت المملكة العربية السعودية مجموعة واسعة من التكتيكات في التعامل مع المنشقين في الخارج. في كثير من الأحيان، تبدأ الحكومة السعودية بمحاولة إقناع المنشقين بوقف انتقاداتهم أو مطالبتهم بالعودة إلى المملكة. إذا فشلت هذه الجهود، قد تنتقل الحكومة إلى أسلوب أكثر قسوة. وأبلغ نشطاء سعوديون في الخارج أنهم تلقوا مكالمات من سفاراتهم وقنصلياتهم تحثهم على الحضور لأسباب غير محددة. لكن لا أحد مستعد للإقدام على هذه المغامرة، لمعرفته بأنه قد لا يخرج مثل خاشجقي.
محاولات المملكة العربية السعودية لإسكات الناشطين المنفيين وغيرهم في الخارج تعود إلى عقود، حسبما رد تقرير نشره موقع «إنترسبت». ومن الأمثلة المبكرة على ذلك قضية ناصر السعيد، الناشط المعارض الذي أثنى في عام 1979 على مجموعة إسلامية متشددة اقتحمت المسجد الحرام، قبل أن يختفي في وقت لاحق من ذلك العام، في أثناء وجوده في لبنان، ويعتقد على نطاق واسع أن الدولة السعودية وراء ذلك.
ومنذ عام 2015، اختفى ثلاثة أمراء في أثناء وجودهم في الخارج بعد الإعلان عن وجهات نظر معارضة للحكومة السعودية. وفي مارس (آذار) 2017، قُبض على الناشطة الحقوقية البارزة لجين الهذلول في الإمارات، حيث كانت تدرس للحصول على درجة الماجستير، وأجبرت على ركوب طائرة خاصة، ونقلت إلى السعودية، وسجنت لفترة، ونُقل زوجها، فهد البطيري، أيضًا من الأردن إلى المملكة جوًّا. وفي وقت لاحق، في مايو (أيار) 2018، اعتقل الأمن السعودي الهذلول مرة أخرى من منزلها وسط حملة قمع أوسع نطاقًا ضد الناشطين. وقد أدى هذا النهج المتصاعد إلى زيادة عدد طالبي اللجوء السعوديين في الدول الغربية، إلى جانب آلاف، مثل خاشقجي، سعوا للعيش في الخارج عبر وسائل أخرى.
يعلق رامي خوري على ذلك قائلًا: «إن أساليب بن سلمان الوحشية، التي تؤكدها الآن حالة خاشقجي الغامضة، جعلت القشعريرة تسري في أوصال الشتات السعودي، مما قد يكون له تداعيات خطيرة على المنطقة». وتابع: «لقد وصل الأمر إلى درجة أن العديد من الأشخاص العاديين – من غير الناشطين وغير الصحفيين- لا يشعرون بحرية الإعراب عن أي رأي من أي نوع. هناك شعور بأن الحكومة لن تتسامح مع أي شيء سوى الدعاية الصريحة المؤيدة للحكومة».
ومن المفارقات أنه قبل يومٍ واحد من اختفاء خاشجقي، نشر «مختبر المواطن(Citizen Lab)» في تورنتو تقريرًا عن برامج تجسس يزرعها عملاء سرًّا في هواتف النقاد المقيمين بالخارج؛ بهدف التسلل إلى الرسائل، والصور، والميكروفون، والكاميرا. ورصد المختبر استهداف المقيم الدائم في كندا، والمعارض السعودي، عمر عبد العزيز، عبر إشعار مزيف عن «تتبع شحنة بريد»، ببرنامج التجسس «بيجاسوس» الذي تبيعه مجموعة«NSO» التي تتخذ من إسرائيل مقرًّا لها.
وقال التقرير: «ربطنا هذه العدوى بالمشغل الذي نسميه(KINGDOM– المملكة)؛ والذي يعد مسؤولًا عن استهداف الناشط وباحث منظمة العفو الدولية، يحيى عسيري، في 2018. بعد أن اشتبهنا بأن الهدف الموجود في كندا فرد مرتبط بالسعودية في كيبيك، اتصلنا بأفراد من الجالية السعودية، وحاولوا التعرف إلى شخص تتناسب تحركاته مع نمط الشخص المستهدف، فوجدنا مطابقة واحدة، عمر عبد العزيز، وهو مقيم دائم في كندا، وناقد صريح للحكومة السعودية، أجبر على طلب اللجوء إلى كندا في عام 2014، بعد مواجهة ضغوط قوية من الحكومة السعودية».
ليتضح من كل ما سبق، أن ابن سلمان، وبعد عام من جريمة تصفية الصحافي السعودي جمال خاشقجي، بكل وحشية، ما زال يحكم المملكة وكأنه أمير من العصور الوسطى، دون أي تغير ملموس في سجل الحريات أو حقوق الإنسان.