أثار أمر ملكي سعودي بشأن تغيير تاريخ تأسيس السعودية نقاشات واسعة، بالنظر إلى الخطوات الرمزية والحقيقية التي جرى اتخاذها في إطار صنع تحول حقيقي في المملكة خلال السنوات الأخيرة.

وأصدر العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز أمرا ملكيا في 27 يناير/كانون الثاني 2022، أعلن فيه عام 1727 تاريخا لتأسيس المملكة.

والواقع أن هذا التاريخ يوافق وصول الجد الأكبر للملك سلمان، محمد بن سعود إلى الدرعية في وسط الجزيرة العربية.

 

عصافير بحجر

وتتساءل وكالة الأناضول التركية في مقال لزكريا كورشون رئيس جمعية الباحثين بالشرق الأوسط وإفريقيا (أورداف): أي حاجة دعت إلى تلك الخطوة وما الهدف منها؟ هل هو خطاب رمزي أو يتجاوز ذلك إلى كونها حقيقة تاريخية؟

وبحسب كورشون، كان الهدف من إعلان الدولة لقرار كان يجب أن يترك للمؤرخين، ضرب عدة عصافير بحجر واحد.

أولها: تحرير الدولة من روابطها بعام 1744 بحسب السردية التاريخية التي يتبناها هيئة العلماء “الوهابيين”، وإعادة كتابة تاريخ علماني حديث للدولة القومية.

ثانيها: التحرر من الاتهامات الموجهة للسعودية بأنها “دولة مصطنعة” أو “مملكة تعتمد على النفط” من خلال رفض عام 1932، تاريخا لتأسيسها الرسمي والمرتبط باعتراف البريطانيين.

أما ثالثها، فهو كتابة تاريخ جديد وشامل للدولة القومية، وفق ما يقول الكاتب التركي.

واستدرك قائلا: كانت العائلة الحاكمة في السعودية ترى في بداية الأمر أن “التاريخ الشفوي” كاف، خاصة وأنه كان قويا جدا في شبه الجزيرة العربية.

كذلك لم يكن ليسمح العلماء الوهابيون بغير ذلك. واعتمدوا عام 1744، الذي تحالف فيها محمد بن عبد الوهاب مع محمد بن سعود، نقطة انطلاق الدولة السعودية.

وأضاف: كان الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن (ابن سعود) قد طرح مسألة الاهتمام بالتاريخ وكتابته بعد الحرب العالمية الثانية، رغبة منه في التوسع إلى جهة أبو ظبي (الإماراتية) باسمها الحالي.

وعلى الرغم من أنه فرض ذلك أمرا واقعا بإرساله وحدة عسكرية في عام 1949 إلى الحدود الجنوبية، فقد كان عليه أن يوضح ذلك للشعب بناء على أسس تاريخية، وفق الكاتب.

وبهذا، شعرت السعودية ولأول مرة، بالحاجة إلى تاريخ مكتوب لحل النزاع الحدودي مع سلطنة عمان، والمعروفة باسم أزمة البريمي.

وتعقدت الأمور بعد أن وجدت الولايات المتحدة نفسها في مواجهة بريطانيا؛ فلم يرغب أي منهما في التنازل عن هيمنته، لتبدأ الهجمات الدبلوماسية بين الدولتين، وفقا للكاتب التركي.

وأعقب بالقول: أرادت الولايات المتحدة أن توسع حدود منطقة حقول النفط التي حصلت عليها في شرق المملكة.

لذلك وقفت إلى جانب السعودية في الجنوب (منطقة البريمي) حيث كان من المتوقع أن يوجد النفط على الرغم من عدم اكتشافه بعد.

من جانبها، كانت بريطانيا تقف إلى جانب عمان لحماية حدود (عمان وأبو ظبي اللتين تقعان تحت حمايتها).

وأردف الكاتب: هكذا، تحولت الأزمة إلى قضية دولية، وانتقلت إلى الأمم المتحدة، وظهرت الحاجة إلى تأكيد مناطق سيادة المملكة العربية السعودية في التاريخ.

بيد أنه لم يكن هناك ما يكفي من الوثائق والأدلة لإثبات الأمر. ورغم ذلك، جرى إعداد كتاب يتألف من ثلاثة مجلدات.

وأعد خبراء من الولايات المتحدة هذا الكتاب لتقديمه إلى اللجنة المعنية في الأمم المتحدة، وضمنوا فيه الروايات الشفهية إضافة إلى معلومات ووثائق جمعت من المصادر الأجنبية المختلفة.

وبحسب هذه المعلومات، قيل إن المنطقة الممتدة من الدرعية إلى سلطنة عمان كانت تحت سيطرة عائلة آل سعود، يوضح الكاتب.

 

إعادة كتابة التاريخ

واستطرد كورشون: كان من الضروري ربط مفهوم “السيادة” بالدولة، مع أن التطورات في القرن الثامن عشر كانت بعيدة كل البعد عن أن ترسم صورة حقيقية للسيادة السعودية، لأنه كان هناك العديد من القوى المحلية في المنطقة ووصفت كل منها بالـ “إمارة” ولم يشر إليها بأنها “دول”.

وأضاف: كانت هناك سيادة عثمانية معترف بها دوليا في المنطقة. لذلك، جرى تقسيم تاريخ المنطقة إلى 3 فترات، بعد النظر في المصادر التاريخية.

وفقا لذلك، قيل إنه كانت هناك ثلاث دول سعودية. الأولى تأسست في الدرعية بين 1744-1891 وأسقطها إبراهيم باشا، الابن الأكبر لوالي مصر محمد علي باشا، نيابة عن الإمبراطورية العثمانية.

وتابع موضحا: أما الثانية فهي الدولة التي تأسست بين عامي 1824 و1891 ومقرها الرياض وأسقطها الرشيديون.

وبالنسبة للدولة الثالثة، حدث خلاف بين من رأوا أنها تأسست في عام 1902 (عندما عاد ابن سعود إلى الرياض)، وبين من أرجعوها إلى سنة 1932، (عندما اعترفت بريطانيا رسميا بالمملكة). فلم يكن واضحا ما إذا كان للإمارة حدود سيادية كما هو الحال في العصر الحديث.

ولفت قائلا: جرى تعيين ابن سعود واليا لنجد من قبل الدولة العثمانية برتبة باشا في بداية عام 1914. واكتسب هذا التعيين اعترافا دوليا وذكر في الاتفاقية العثمانية البريطانية لعام 1914 التي رسمت حدود اليمن.

كذلك كانت جمهورية تركيا على اتصال بآل سعود منذ عام 1925، وأطلقت عليها اسم “حكومة نجد والحجاز وملحقاتها” في اتفاقية الصداقة التي أبرمت عام 1929.

وأضاف مؤكدا: بعبارة أخرى، لم تكن السعودية دولة ذات حدود واضحة ومعترف بها دوليا.

وبما أن هذا كان يضع المؤرخين في صراع بين كونها إمارة أو دولة، فقد جرى اعتماد 1932 كتاريخ لتأسيس الدولة، خاصة أن العلاقات والاتفاقيات الدولية التي طورتها المملكة كدولة ذات سيادة بنيت بعد هذا التاريخ.

ووفقا لكورشون، بدأ ملك السعودية الحالي، سلمان يبذل جهودا كبيرة عندما كان وليا للعهد ووزيرا للدفاع، أي في أواخر التسعينيات.

غير أن هذه الجهود لم تكن متعلقة بالدفاع، فقد كانت الخليج أكثر استقرارا من يومنا هذا ولم تكن السعودية تخصص للدفاع ما تخصصه اليوم بالفعل. بل كانت جهود سلمان منصبة حول التاريخ وخاصة ما يتعلق بعائلة آل سعود.

وشرح ذلك بالقول: بدأ ولي العهد الأمير سلمان عمله بتأسيس دارة الملك (مؤسسة متخصصة في خدمة تاريخ وجغرافية وآداب وتراث المملكة) عبد العزيز في الرياض.

وأعطى فهد السماري، أمين عام دارة الملك عبد العزيز وعبقري الأرشيفات، وظيفة إجراء مسح شامل لجميع الأرشيفات حول العالم، بما فيها تركيا التي تحوي الأرشيفات العثمانية.

واستدرك قائلا: هكذا جرى تشكيل أرشيف وطني ضخم لدولة قومية غير موجودة، من خلال إحضار جميع الوثائق التي أمكن العثور عليها حول العائلة والمنطقة إلى دارة الملك عبد العزيز.

كذلك جمعت الوثائق والكتب المتعلقة من داخل المملكة وبدأت تعقد اجتماعات في جميع أنحاء البلاد حول تاريخ العائلة الحاكمة والمملكة.

وختم الكاتب التركي مقاله قائلا: بدأ كل هذا في الذكرى المئوية لاستيلاء ابن سعود على الرياض بعد أن طرده منافسوه منها، الرشيديون بين الأعوام 1891 و1902.

ومع أن ترميمه قصور العائلة في الدرعية شمال غرب الرياض، قوبل برد فعل كبير من العلماء، إلا أن سلمان لم يتراجع. حتى أنه رفض كون أصل العائلة من قبيلة عنزة وعمل على كتابة شجرة أنساب جديدة ترتبط ببني حنيفة.

واعتبر الملك سلمان كل هذا ضروريا لتأسيس وبناء دولة قومية حديثة، وأسس بذلك عائلة (آل سلمان) مع مقارباته التاريخية الجديدة.

لكن ماذا سيكون رد فعل العلماء والأهم من ذلك، المصادر التاريخية تجاه هذا التغيير والتحول؟ هذا ما سنعلمه مع مرور الوقت، يقول الكاتب.