خاص: جاء حديث خطيب الحرم المكي، عبد الرحمن السديس، على منبر الحرم الشريف عن أن الخلاف شر منهي عنه رغم كونه من السنن الكونية، وذلك في خطبة الجمعة الأخيرة، بالتزامن مع ترقب العواصم الخليجية المختلفة لإعلان انتهاء الأزمة الخليجية وتحقيق المصالحة بين الدولة المتخاصمة، كتذكير بدوام استخدام النظام السعودي منابر الحرم لتحقيق مآرب سياسية خاصة به، في استهانة بقدسية تلك الأماكن، واستخدام من يعتلون تلك المنابر من المشايخ في الترويج لسياسة النظام وإن لم تكن موافقة للشرع الحنيف.

بالطبع ليس من الغريب استخدام النظام السعودي للرموز الدينية لمصالحه، فهو نظام قائم على أساس ثيوقراطي، ويستمد قوته من قوة رجال الدين، ولكن مع التغيرات التي أدخلها “ابن سلمان” على طريقة الحكم في المملكة منذ توليه ولاية العهد، توقع الكثير من المراقبين انتهاء الارتباط بين مؤسسات الحكم والرموز الدينية.

ولكن يبدو أن النظام السعودي فشل في إتمام ذلك الانفصال، وذلك لعدم قدرته على مواجهة المشاكل التي تسبب بها “ابن سلمان” منفردًا، فاضطر -حتى ابن سلمان نفسه- لاستغلال منابر الحرم للترويج أو التبرير لأفعاله.

ويعد “السديس”، ومنبر الحرم، من الرموز الواضحة التي استخدمها “ابن سلمان” لتنفيذ ذلك المخطط لحمايته، فقد أسهم “السديس” بخطبه في تدعيم رأي “ابن سلمان” في مواقف متعددة.

السديس وحادثة مقتل “خاشقجي”:

بعد تكشف ظروف اختفاء الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” وقتله على يد فريق سعودي استخباراتي، اتهم العديد من زعماء العالم ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بشكل علني بإصدار الأمر بقتل الصحفي.

وفيما بدا أنه رد على هذه الاتهامات، ألقى إمام الحرم المكي في مكة خطبة الجمعة، في 19 أكتوبر/تشرين الأول، قام فيها بتبجيل “ابن سلمان”، الحاكم الفعلي للمملكة، في محاولة للرد على الحملات الإعلامية العالمية التي نالت منه.

وأشاد “السديس” في خطبته “بإصلاحات” ابن سلمان، منددًا بالهجمات ضد “هذه الأراضي المباركة”! في خطبته التي وافقت عليها السلطات السعودية. وخلص فيها أن “من واجب المسلمين كافة أن يدعموا ويطيعوا الملك وولي العهد الأمين، وحماة وأوصياء الأماكن المقدسة والإسلام”!

من جانبه علق خالد محمد أبو الفضل، الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة كاليفورنيا، في مقال رأي لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، قائلاً: إن الخطبة “دنست وأهانت” المنبر باستخدام المسجد الحرام لمحو أعمال الاستبداد والقمع”، مضيفًا: “وضع الأمير محمد الشرعية ذاتها للسيطرة السعودية والوصاية على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة المعنية”.

السديس والتطبيع مع الكيان الصهيوني:

في سبتمبر/ أيلول 2020، اعتلى “السديس” المنبر المكي، وألقى خطبة أثارت عاصفة من الجدل، ورأى فيها الكثير أنها دعوة للتطبيع مع الكيان الصهيوني من خلال منبر الحرم المكي.

ودعا “السديس” في خطبته إلى حسن الحوار والمعاملة مع اليهود، لاستمالة قلوبهم للدين، قائلاً: “من التنبيهات المفيدة في مسائل العقيدة عدم الفهم الصحيح في باب الولاء والبراء ووجود اللبس فيه بين الاعتقاد القلبي وحسن التعامل في العلاقات الفردية والدولية كما هو مقرر في المقاصد المرعية والسياسة الشرعية والمصالح الإنسانية؛ إذ لا يتنافى مع عدم موالاة غير المسلم معاملته معاملة حسنة تأليفا لقلبه واستمالة لنفسه للدخول في هذا الدين، فيكون المسلم محسنا إليه ليستميل قلبه إلى الدين القويم”.

وأضاف “السديس” في خطبته: “وقد توضأ صلى الله عليه وسلم من مزادة مشركة ومات ودرعه مرهونة عند يهودي وعامل يهود خيبر على الشطر مما يخرج من زروعهم وثمارهم وأحسن إلى جاره اليهودي مما كان سببا في إسلامه”.

وتابع إمام الحرم المكي: “وهكذا في وقائع كثير متعددة تؤكد أن حقائق الدين تستقى من الأدلة الصحيحة والبراهين الصريحة فأين هذا المنهج الأبلج من الركون للعواطف المشبوبة والحماسات الملهوبة؟ بل علم وعقل وحكمة وبصيرة ونظر في العواقب واعتبار للمآلات وحين يغفل منهج الحوار الإنساني تذكى جوانب صدام الحضاري وتسود لغة العنف والإقصاء والكراهية”.

وأضاف “السديس” قائلا: “أمة الإسلام… ومن أبرز معالم العقيدة الصحية المهمة وأسسها لزوم الجماعة وحسن السمع للإمام والطاعة، خلافا لمنهج الخوارج المارقين والبغاة المقيتين والأحزاب الضالة وجماعات العنف المسلحة والطائفية البغيضة الذين يكفرون الولاة ويخرجون على الأئمة ويسفكون الدماء”، حسبما جاء في المقطع المتداول الذي لم يشمل الكلمة كاملة.

وأكد “السديس” في الخطبة نفسها أن “قضية فلسطين” والمسجد الأقصى “القضية الإسلامية الأولى التي يجب ألا تُنسى في جديد الصراعات والتحولات والمتغيرات دون مزايدات إعلامية أو مبالغات صحفية أو معارك إلكترونية”، على حد تعبيره.

وتوالت ردود الفعل من المفكرين والكتاب حول تلك الخطبة المستفزة، حيث قالت الكاتبة إحسان الفقيه، في صحيفة “القدس العربي” اللندنية، إن خطبة السديس “كانت بمثابة إعلان مضلل، ظاهره التسامح، وباطنه الترويج لجريمة التطبيع، تلك هي زبدة الحكاية، غير أن الإجمال هنا لن يغني عن التفصيل… الإرهاصات والدلائل والإشارات على قرب إعلان السعودية التطبيع مع الصهاينة تزيد يومًا تلو يوم، فلم تعقّب الحكومة السعودية على إعلان التطبيع الإماراتي بما يعتبر مباركة، بل إنها فتحت مجالها الجوي لعبور الطائرات الإسرائيلية إلى الإمارات، وهو ما أشاد به نتنياهو”.

كما قال الكاتب بشير عمري في صحيفة “رأي اليوم” اللندنية، إن “السديس الذي ظل يبكي الناس في رمضان من خشية الله وعذابه، داعيًا إياه لسحق ومحق الكيان الصهيوني الغاصب انقلب يدعو إلى التصالح والتطبيع مع هذا الكيان”.

بينما قال المفكر أحمد زكي، في مقال له بموقع “عربي21”: “بينما يحاول العرب والمسلمون التعافي من الطعنة الإماراتية في ظهر فلسطين وأهلها، طعنوا طعنة جديدة لكنها أشد إيلاماً بكثير من الأولى فهي لم تأت من مكان عادي بل من مكان له قدسيته وأهميته الروحية لخُمس سكان المعمورة: إنه بيت الله الحرام في مكة المكرمة، في خطبة السديس”.

ويضيف “زكي” أن “ما حدث من خطبة السديس وما سيحدث ممن على شاكلته هو محاولة محكوم عليها بالفشل لتمييع شعائر الدين بما يخدم بقاء الحاكم ومصالح حاشيته بصورة تجعل كل من يرفض هذا الخنوع خائناً للبلاد وربما مرتداً عن الإسلام والعياذ بالله، لكن لا يدرك هؤلاء أنهم وأرباب نعمتهم يسيرون في طريق نهايتهم، فتعاليم الدين واضحة وأولها ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”.

السديس والأزمة الخليجية:

ويظهر تناقض “السديس” جليًا واضحًا في الأزمة الخليجية، حيث روج “السديس” في خطبة الجمعة الماضية لنبذ الخلاف والتوحد، تمهيدًا لحل الأزمة وسط إرهاصات سياسية تؤكد ذلك الأمر، ومنها دعوة الملك “سلمان”، السبت، لقادة الخليج لحضور القمة الخليجية في الرياض كلهم بلا استثناءات أو غياب متوقع.

وقال “السديس”، في خطبة الجمعة: “الاختلاف سنة من سنن الله الكونية، يقول سبحانه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ** إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾”.

وأضاف مفسرًا: “قال الحسن البصري رحمه الله: ولذلك خلقهم: أي خلقهم للاختلاف”، “لكن الخلاف هو الشر الذي يؤدي إلى النزاعات والخصومات، والفساد والإفساد”.

وتابع خطيب الحرم المكي، قائلاً إن “الاختلاف أمر فطري أما الخِلاف والشِّقاق، والتخاصم والفِراق، فهو المنهي عنه بنصوص الشريعة الغرَّاء”.

وشدد “السديس” على أن الفجور في الخصومة “سلوك رث هدام، وخلق أهل الفسق اللئام، محاد لشرع الله تعالى وهدْي رسوله صلى الله عليه وسلم”.

ولتوضيح ذلك التباين، فلنرجع إلى منتصف عام 2018، حين تعرض “السديس” لموقف محرج بسبب سؤال لأحد الحاضرين لمحاضرة له في جنيف، حول حصار قطر.

وتداول ناشطون على موقع التواصل الاجتماعي، مقطع فيديو، خلال مهاجمة الجزائري «يخلف صلاح الدين»، للشيخ السعودي، خلال إحدى دروسه في مسجد بالعاصمة السويسرية جنيف.

وظهر في الفيديو، «صلاح الدين»، يسأل «السديس»، على رأيه في حصار قطر، وحرب اليمن، والانتهاكات التي تحدث بحق المدنيين.

وقال «صلاح الدين»: «أنتم تحدثوننا عن الأمن وتحاصرون إخوانكم في اليمن وفي قطر وكنتم سبب إسالة الدماء عام 1992 في الجزائر وانقلاب مصر وانقلاب تركيا».

وأضاف: «وكيلكم الله.. أنتم تساندون آل سلول (آل سعود) وأنتم مسؤولون يوم القيامة.. لا سمع لكم ولا طاعة يا عبيد أمريكا».

وتابع: «ينصر الله دولة العدل ولو كانت كافرة.. أنتم الطواغيت».

وفي مقطع فيديو آخر، تداوله الناشطون، ظهر ناشط مغربي وهو يسأل «السديس» عن موقفه من «حصار قطر»، وتصويت الاتحاد السعودي لكرة القدم لصالح الملف الأمريكي لاستضافة المونديال، على حساب الملف المغربي.

وبحسب الفيديو لم يجب «السديس»، عن تساؤلات الناشط المغربي، فيما اكتفى بالتأمين على دعاء الناشط نفسه بأن يصلح الله أحوال السعوديين والقطريين.

ويظهر جليًا من كل هذا أن “السديس” هو مثال واضح للحالة الاستغلالية التي يتعامل بها النظام السعودي مع الشيوخ والمنابر الدينية في المملكة، فهو ليس بمتفرد بما يفعله، وليس هو الأول في طابور طويل من المطبلين للملك أيًا كان اسمه وولي عهده، ولسياسته، وسيستمر الأمر من بعده، وأي خروج عن هذا السيناريو سيقابل صاحبه بالتهديدات والاعتقالات.