تقرير خاص

كان الاتجاه العام للسياسة السعودية منذ سبعينيات القرن الماضي، يسعى دائمًا لإيجاد موطئ قدم راسخ وثابت في باكستان، باعتبارها امتدادا أمنيا طبيعيا للمملكة، وكذلك لأهمية باكستان في العالم الإسلامي، باعتبارها ثاني أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة، بعدد سكان يتجاوز 191 مليون نسمة، كما تحتل المرتبة الـ36 في العالم من حيث المساحة.

ولكن ما حدث مؤخرًا من تعنت سياسي للسعودية في التعامل مع أزمة “كشمير”، والتي تعد قضية مصيرية لباكستان، ما هو إلا جولة جديدة من جولات المراهقة السياسية لولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” الذي يدير الدفة السياسية والاقتصادية للمملكة الآن.

– أزمة بلا أزمة:

جاء التهديد الباكستاني بالخروج من منظمة التعاون الإسلامي، كبالون اختبار منها للسعودية في التعامل معها كحليف استراتيجي مهم في منطقة جنوب آسيا، ولكن يبدو أن “ابن سلمان” بخبرته السياسية الضحلة لم يأخذ الأمر على محمل الجد، بل زاد الطين بلة بقرارات متسرعة كعادته في التعامل مع الأزمات، وطلب من باكستان رد ودائع مالية كانت قد حصلت عليها سابقًا، كما أوقف صفقات النفط مؤجلة السداد، في خطوات وصفها مراقبون سياسيون بأنها أغبى خطوات المملكة السياسية في المنطقة.

فكل ما كانت تريده باكستان من تصعيد تلك الأزمة وجعلها علانية هو فقط شد انتباه السعودية نحو قضية مصيرية لها، كانت تنتظر من المملكة الدعم اللازم فيها، باعتبار السعودية راعية العالم الإسلامي قبل مجيء “ابن سلمان” إلى السلطة.

فبعد قرار الحكومة الهندية إلغاء المادة 370 من الدستور التي تمنح إقليم “كشمير” المتنازع عليه وضعًا خاصًا، عبرت باكستان في مناسبات عدة عن إحباطها بشأن موقف منظمة التعاون الإسلامي حيال القضية.

وقد جددت المنظمة بدورها – في أحدث بيان حول القضية بمناسبة مرور عام على صدور القرار الهندي- دعوتها إلى تسوية النزاع وفقًا لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.

وفي نبرة غير معتادة، شن وزير الخارجية الباكستانية هجومًا حادًا على المنظمة الأسبوع الماضي، خلال حديث لقناة “أري نيوز” المحلية، منتقدًا ما سماه “عدم اكتراث” المنظمة وتأجيلها الدائم لعقد اجتماع وزراء خارجية الدول الأعضاء من أجل دعم الكشميريين، قائلاً: إن بلاده قد تلجأ للبحث عن حل لقضية كشمير بعيدًا عن المنظمة.

وأضاف قرشي: “إذا فشلت منظمة التعاون الإسلامي في عقد ذلك الاجتماع، فسنعقد اجتماعًا خارج إطار المنظمة. باكستان لا يمكنها الانتظار أكثر. نحن لا نستطيع أن نصمت بعد الآن بشأن معاناة الكشميريين”.

– علاقات فائقة التطور:

كانت السعودية دائمًا تسعى لجذب باكستان نحو معسكرها ضد المعسكر الإيراني، بينما كانت تفضل باكستان الحفاظ على سياسة النأي بالنفس عن أي نزاعات إقليمية، والاحتفاظ بعلاقات دبلوماسية جيدة مع كل الأطراف، سعيًا لمصالحها الخاصة، ما أهلها في وقت من الأوقات لكي تكون قناة اتصال وتفاوض بين السعودية وإيران.

ولكن كان الغزو السوفيتي لأفغانستان، نقطة فاصلة في تطور تلك العلاقات ببين البلدين، فمن خلاله عظمت السعودية بشدة من نفوذها في باكستان، فمن ناحية عززت الثورة الإيرانية الحوافز السعودية، للسيطرة على السنة في إسلام أباد، بينما أعطت الحرب السوفيتية الأفغانية السعوديين آلية للقيام بذلك، من خلال تمويل المدارس والمؤسسات الدينية.

ونجحت المملكة في تغيير طابع التدين في باكستان، واستغلته في انتشارها الأيديولوجي إلى ما وراء العالم العربي، ولهذا استثمرت في بناء أضخم المساجد، لنشر المنهج السلفي الوهابي، بينما من الناحية الاقتصادية نجحت المملكة في جعل نفسها واحدة من الدول القليلة في العالم التي تعتمد عليها باكستان بطريقة عمياء في المجال الاقتصادي وجلب العملة الصعبة لها، عبر استقطاب ما يقرب من مليوني باكستاني يعملون لديها، بجانب المنح والعطايا الاستثمارية من وقت لآخر.

أما من الناحية العسكرية فالعلاقة بين جيشي البلدين تتمتع بنوع من الخصوصية الشديدة، وظهرت بشدة في مساعدة باكستان للسعودية في تحرير الحرم المكي من قوات جهيمان العتيبي عام 1979، كما أنها ساعدت السعودية في تمركز قواتها العسكرية للدفاع عن أرضها خلال الحرب العراقية الإيرانية، وفي المقابل تتمتع السعودية بنفوذ كبير على القيادات العسكرية الباكستانية ولها علاقات قوية للغاية بهم.

حتى إن توغل النفوذ السعودي داخل المؤسسة العسكرية الباكستانية أصبح محل قلق لمجلس الشيوخ الباكستاني الذي استدعى وزير الدفاع، خرم دستغير خان، قبل عامين لمعرفة سر إرسال فرقة عسكرية من القوات البرية والبحرية إلى المملكة دون علم البرلمان، ولكن “دستغير” اكتفى بالقول إنها كانت في مهمة تدريبية واستشارية في إطار ما وصفه بالتحالف العسكري الإستراتيجي بين باكستان والسعودية، رغم تمركز هذه القوات في السعودية، بغض النظر عن التصريحات الرسمية التي أكدت أنها لن تشارك في أي مهمات خارج حدودها.

في النهاية وبعد كل تلك العلاقات، جاء “ابن سلمان” ليدمرها بقرارات في غاية الرعونة، وبدلاً من أن يسعى جاهدًا لاستقطاب إسلام آباد نحو المملكة ومعسكرها، بعيدًا عن المسعكر الإيراني، فقد تسبب في أكبر أزمة بين البلدين منذ نشوء العلاقات بينهما، وهي أزمة مرشحة للتصعيد وسط عدم تجاوب سعودي للرغبات الباكستانية، والسعي لإرضاء الهند على حساب حليف استراتيجي مهم!