خاص: منذ نشأتها في عام 1391هـ/1971م، شاب دور هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية غموض وجدل بشأن قراراتها التي -في غالب الأحيان-، تكون موافقة لرغبة حكام المملكة!

وبالطبع تلك الموافقة ترجع لأن اختيار أعضائها يكون بأمر ملكي، أي على عين الملك وولي عهده والطبقة الحاكمة في المملكة، فنادرًا ما نرى أي خروج عن النص من أعضاء الهيئة بشأن السياسة العامة للمملكة، إلا بعض المواقف الفردية من قبل بعض أعضائها، وهم إما تراجعوا عن تلك المواقف، أو تم تنحيتهم بعيدًا عن كيان الهيئة مباشرة.

نظرة تاريخية:

صدر مرسوم ملكي في 1971 بتأليف هيئة كبار العلماء، وتضمن تكوين الهيئة من عدد من المختصين في الشريعة الإسلامية من السعوديين، ويجري اختيارهم بأمر ملكي، ويجوز عند الاقتضاء وبأمر ملكي إلحاق أعضاء بالهيئة من غير السعوديين ممن تتوفر فيهم صفات العلماء السلفيين!

وبحسب المرسوم، تتولى الهيئة إبداء الرأي فيما يحال إليها من ولي الأمر من أجل بحثه، وتكوين الرأي المستند إلى الأدلة الشرعية فيه، كما تقوم بالتوصية في القضايا الدينية المتعلقة بتقرير أحكام عامة؛ ليسترشد بها ولي الأمر، وذلك بناءً على بحوث يجرى تهيئتها وإعدادها طبقًا لما نص عليه الأمر المشار إليه، واللائحة المرافقة له.

ويتفرع عن الهيئة لجنة دائمة متفرغة، اختير أعضاؤها من بين أعضاء الهيئة بأمر ملكي، وتكون مهمتها: إعداد البحوث وتهيئتها للمناقشة من قبل الهيئة، وإصدار الفتاوى في الشؤون الفردية، وذلك بالإجابة عن أسئلة المستفتين في شؤون العقائد والعبادات والمعاملات الشخصية، وتسمى (اللجنة الدائمة للبحوث والفتوى).

وتنعقد الهيئة في دورات انعقاد مرة كل ستة أشهر في مقر الرئاسة بالرياض، ويمكن في الحالات الاستثنائية عقدها في مكان آخر، ويجوز انعقاد الهيئة في جلسات استثنائية لبحث أمور ضرورية لا تقبل التأخير.

وفي عام 2001، تم تحديد عدد أعضاء الهيئة بألا يقل عن 11 عضوا، ولا يزيد عن 21، وكذلك ألا تزيد فترة العضوية على أربع سنوات في حال لم يتم صدور أمر ملكي بالتجديد للعضو.

“ابن سلمان” وكبار العلماء:

منذ قدوم “محمد بن سلمان” لمنصب ولاية العهد بالمملكة، شهدت العلاقة بينه وبين الهيئة حالة من التوتر والشد والجذب وإن ظلت خلف الأبواب المغلقة، ولم يكشف إلا عن بعض التسريبات البسيطة، مثل ما كشفه حساب “الديوان” عبر “تويتر”، والمشهور بدقة تسريباته من داخل أروقة الحكم بالمملكة، في نوفمبر 2019، عن إقالات تمت داخل الهيئة، وعن إهانات من ولي العهد لاثنين من أعضائها بسبب خطاب “مناصحة” خفيف اللهجة وجهه له 3 من أعضائها.

وقال الحساب في سلسلة تغريدات له: “مع التغيرات في المملكة والتي مست أخلاقيات المجتمع والبصمة الذهنية عنها انتهض ثلاثة من أعضاء هيئة كبار العلماء بكتابة خطاب خفيف اللهجة وناعم جدًا لمحمد بن سلمان يذكرونه بحرمة بعض البرامج وعدم مناسبتها في السعودية.. ودبجوه بكل عبارات التلطيف والنعومة”.

وتابع الحساب قوله: “بمجرد استلامه – ابن سلمان – للخطاب طلب لقاءهم فورًا في جدة وأن يأتونا سويًا في طائرة واحدة وموعدهم سيكون الثانية ظهرًا، فانطلقوا جميعًا من الرياض على الموعد إلا واحد منهم وهو (د.أحمد سير مباركي)”.

وأشار “الديوان” إلى أنهم حينما “وصلوا ديوان جدة استقبلوهم ببرود شديد وبقوا ينتظرون ابن سلمان حتى الثانية ليلاً وهم على كراسيهم، فأبلغوهم أن الموعد تأجل للغد الخامسة عصرًا، فخرجوا آخر الليل ومن بينهم المفتي كذلك”، مضيفًا أنهم “حضروا بالموعد وانتظروا مرة أخرى للثانية ليلاً، فخرج عليهم ابن سلمان وقتها وأهانهم أيما إهانه وقزمهم، وأخبرهم بالنطاق المسموح لهم يتحدثوا فيه، وأن لا يتدخلوا فيما لا يعنيهم”.

واستطرد “ابن سلمان” في شرح نظرته للأمور الشرعية بتأكيده على “أنه يعرف الدين قبلهم ولا يتقيد إلا بإجماع! وليس لهم علاقة بأي جهة، ويبقوا في مكاتبهم يفتوا من يسألهم فقط؛ دون الشأن العام، وضغط بشكل فج ولما أراد “المطلق” تلطيف الجو هدده بنشر حسابه البنكي”!

وقال “ابن سلمان”: “أنا ولي الأمر وحكمي يرفع الخلاف وكل من يتجاوز يلقى جزاءه”، وبالغ بالإساءة بطريقة لم تمر عليهم منذ تأسيس الهيئة.

أما عن مصير الشيخ ” مباركي” فأوضح الحساب أنه “من يوم غد ولأن أحمد سير مباركي لم يحضر، تم التوجيه بفصله من الهيئة واللجنة الدائمة وتم إنزال اسمه من مكان اللوحة ويداوم مكانه الآن العضو الجديد عبدالسلام السليمان”.

واختتم “الديوان” تغريداته بقوله: “هذه الهيئة واللجنة الدائمة وهذا مقام فتاويها عند ابن سلمان التي لا يستعملها إلا في إذلال الناس وسلب حقوقهم وتضمينها في الأحكام الأمنية القضائية، للحكم على الإصلاحيين والعلماء الحقيقيين والمفكرين المستقلين”.

كبار العلماء “النسخة المنقحة”:

فيما بعد الخطوة الأهم، في أكتوبر الماضي، والتي رأي فيها مراقبون للشأن السعودي إعادة هيكلة للهيئة بالكامل، لكي تصبح تحت طوع “ابن سلمان” تمامًا.

وأدخل “ابن سلمان” في عضوية الهيئة العديد من رجاله لمزيد من السيطرة عليها، من أبرزهم  محمد العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، الذي قاد عملية التطبيع مع الإسرائيليين، عبر المشاركة في حوارات مع «قيادات دينية يهودية» وتعهد في مؤتمر نظمته اللجنة اليهودية الأمريكية حول قضايا «مكافحة معاداة السامية» بالتزام المملكة بأجندة «الحوار مع المجتمع اليهودي».

تفسيرات العيسى لبعض الآيات القرآنية أثارت إعجاب أفيخاي أدرعي، الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، كما حظي بإشادة من جهات إسرائيلية بعد تأديته صلاة الجنازة على ضحايا الهولوكوست.

ومن ضمن المنضمين للهيئة سعود المعجب، والذي كان دخوله إلى هيئة كبار العلماء، يمكن اعتباره متناظرًا مع صعود ولي العهد محمد بن سلمان نفسه، حيث تزامن تعيينه نائبًا عامًا، لأول مرة في المملكة، مع تعيين “ابن سلمان” وليًا للعهد، وكان بالتالي مشرفًا على تقنين وتشريع حملات الاعتقال الكبرى التي جرت بعد ذلك، وقد أهله ذلك لاستلام ملف «المتهمين» الغامضين باغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي.

والأكيد في الخطوات التي قام بها “ابن سلمان” لتنقيح هيئة كبار العلماء، أنه يريد لها أن تتحول من مجرد أداة يستخدمها لتحليل وتحريم ما يريده في الوقت الذي يريده هو، إلى أداة مبادرة لدعمه ودعم سياساته، وألا يكون عند أحد من أعضائها تحرج أو مانع من دعم كل ما يفعله ولي العهد، وخصوصًا في الفترة القادمة التي ستشهد تطبيعا رسميا وعلنيا للعلاقات مع الكيان الصهيوني.

وليس ثمة دليل على صحة هذا الكلام، أكبر مما فعلته الهيئة مؤخرًا، حين أصدرت بيانًا تجرم فيه جماعة “الإخوان المسلمون” وتصفها بالكيان الإرهابي، رغم أن الدولة السعودية تتعامل مع الجماعة منذ عدة سنوات كجماعة مجرمة قانونًا، بعد إضافتها لقوائم الجماعات الإرهابية، أي أنه لم يكن هناك داع لصدور مثل ذلك البيان من الهيئة، ولكنه جاء لإضفاء الرسمية الدينية، ولبيان مدى ولاء شيوخ تلك الهيئة إلى صنمهم الأكبر “ابن سلمان”.