خاص: القليل من عمليات الاغتيال السياسي التي أخذت بعدًا عالميًا وتوبعت بصورة جادة وبإصرار، حيث من المعتاد وصول قضية الاغتيال السياسي إلى طريق مسدود غالبًا بسبب الثمن الكبير الذي يتطلبه متابعة القضية وكشف الفاعلين الحقيقيين، فحتى الآن لم يُكشف عن قتلة آل كندي ”جون وروبرت“ وكذلكَ من وراء قتلة غاندي وحتى رابين، وإن عُرف الفاعلون فقد تم تجاهل الإصرار على كشف المخططين والآمرين.

وفي قضية خاشقجي نحن أمام عملية اغتيال ناجحة وفاشلة في آن واحد؛ نعم فاشلة من ناحية ردات الفعل وليست من ناحية طريقة تنفيذ العملية التي أريد لها أن تكون مكشوفة بسبب العدد الكبير من المنفذين ومكان التنفيذ، ولذا فمن المفيد تفكيك العملية إلى أجزاء، مثل: من هو خاشقجي؟ ولماذا قتل؟ ومن هو القاتل؟ ولماذا نفذت بهذا الشكل؟ وما هي ردة الفعل التركية؟ وما هي التداعيات المستقبلية المتوقعة؟

جمال خاشقجي:

هو باختصار شخصية مثقفة متعددة المواهب والمهمات؛ فهو من عائلة تسكن المدينة من قديم، وأصولها من تركيا؛ ولذا فهم من وجهاء المدينة ولهم علاقة مع الدولة، فمنهم عدنان خاشقجي تاجر السلاح المعروف الذي بزغ نجمه ثم انطفأ. وأما جمال فكان شابًا ذكيًا لامعًا بين أقرانه، يميل الى الإسلاميين؛ فثقافته إسلامية، ولكن الدولة بأسلوب ما وظّفته أيام حرب أفغانستان في تسويق المشروع الأمريكي السعودي لاستخدام الإسلام في مواجهة روسيا الشيوعية، وبرزت شخصيات مثل عبد الله عزام وأسامة بن لادن وجمال خاشقجي، ومع أننا لا نجزم بالتنسيق فإن جمال كان وسيطًا لتجربة استخدام الإسلاميين في أعمال حكومية ظاهرها التوافق في الأهداف القريبة وحقيقتها الاستغلال البشع للمشاعر والعواطف الدينية، ويبدو أن جمالاً كان مقتنعًا بفاعلية ونفع هذا الأسلوب لكل الأطراف، ولذا فبعد انتهاء الحرب ودخول أمريكا وحلفائها السعوديين والمصريين في مشروع التخلص من آثار هذه العملية وبروز المصطلح الأمني ”العائدون من أفغانستان“ توارى جمال قليلاً، وانشغل بالعمل الصحفي، ورأس جريدة الوطن لأقل من شهرين؛ حيث لم تتسع لطموحاته لضيق هامش الحرية، فعاد للعمل مع تركي الفيصل مستشارًا صحفيًا له عندما كان سفيرًا في بريطانيا وأمريكا، وأعيد للوطن ثم فُصل منها. وكانت آخر مهمة كُلف بها إدارة قناة (العرب) التي لم يكتب لها الظهور؛ حيث أُوقفت بضغوط سعودية، حيث يبدو أن القناة أرادت أن تكون هجينًا بين العربية والجزيرة، والمهم أنه استمر بالكتابة حتى مُنع.

ومع بدء محمد بن سلمان حملة الاعتقالات للدعاة والمفكرين أحس أن الدائرة تضيق، وأن دوره سيأتي، فقرر المغادرة الى أمريكا، حيث استقر وبدأ نشاطه الإعلامي، وكثف المشاركة في تويتر والظهور بالقنوات والكتابة في الواشنطن بوست.

والذي يهمنا حاليًا هو أنه جاهر بتفاؤله بالربيع العربي، وأنه نتيجة للقهر والاستبداد انزعج كثيرًا من تبني النظام السعودي خيار مواجهة الربيع العربي وتبني الثورة المضادة وإعلان القطيعة مع الإخوان، وكان يؤكد أن المملكة من الممكن أن تتماشى مع الربيع العربي وتستفيد منه، ويلاحظ أنه في المحصلة يتفق مع الدولة في إبعاد الإخوان عن السلطة، حتى إنه كان يُلمّع البرادعي بديلاً مقبولاً للسيسي، ولكنه كان ينتقد محاولة اجتثاث الإخوان وأنها ستفشل، وأن السعودية ستتضرر بفقد تحالفها مع الإخوان، وكان يكرر أن السعودية يجب أن تستفيد من الإخوان بدلاً من معاداتهم.

بعد وصول الملك سلمان للحكم بدأ ينسج خيوط المؤامرة لوصول ابنه للحكم، بدأها بتعيين محمد بن نايف وليًا لولي العهد، ثم أقنع ولي العهد مقرن بالتنازل، وتولى ابن نايف ولاية العهد، وبالتحالف مع ابن نايف تمكن من إيصال ابنه محمد لمنصب ولي ولي العهد، متجاوزًا الكثير من الأمراء الأكبر سنًا والأكثر كفاءة، ويلاحظ هنا أن التحالف مع ابن نايف يزداد في الظاهر، وتم تشكيل مجلس أعلى للشئون السياسية والأمنية يرأسه ابن نايف، وأنشئ مجلس للشئون الاقتصادية، وهنا يبدو أن السلطات مقسمة بصورة منطقية، ولكن بالتدريج بدأ ابن سلمان بالتدخل في صلاحيات ابن نايف وتهميشه بصورة متسارعة؛ حيث لم يبدر منه ردة فعل، وفي النهاية تم إجباره على التنازل لمحمد بن سلمان بطريقة مسرحية، وتم إقناع الأمراء الصغار في هيئة البيعة بالموافقة على تعيين ابن سلمان وليًا للعهد، وقُدم لهم طعم أن ولي ولي العهد لن يكون من أبناء سلمان، والذي حصل أن المنصب بقي شاغرًا وتفرد ابن سلمان بالسلطة بصورة مطلقة، حتى إنه كثر الحديث عن توليه الملك بعد تنازل أبيه له استباقًا لعجزه أو وفاته المفاجئة؛ ما يعني احتجاج وممانعة الأمراء الذين لم يبايعوه، ولكن تعثر مشاريعه وبروز الجانب المظلم وهو محاربة التدين والتغيير الاجتماعي المرتبط بعملية إفقار متعمد للناس جعله يظل في مكانه متكئًا على سلطة والده.

لقد كان اختيار سلمان لمحمد نتيجة التقارب النفسي والشخصي، فروح الاندفاع والقسوة مهمة في التغيير السريع:

  • إفقار الناس يقتضي التغاضي عن مشاعر الناس وآلامهم.
  • تهميش التاريخ الهجري واستبداله بالميلادي في صرف الرواتب؛ ما يعني تخفيضها.
  • وتنفيذ إلغاء فعالية الهيئة.
  • قرارات كبيرة تصدر آخر الليل من مطبخ صغير ولا تمثل هيكل الدولة المعتاد.
  • تركيز السلطة التنفيذية بيد أشخاص معدودين سفهاء الأحلام عديمي الأخلاق، ويأمرون حتى الوزراء والجهات الأمنية.
  • تضخيم جانب التفتيش الإداري تحت شعار محاربة الفساد، والمقصود إرعاب القيادات الإدارية وترويضهم.
  • تضخم وتغول جهات مستحدثة للتجسس على الناس ومتابعتهم فكريًا مثل الذباب الإلكتروني والتيارين الليبرالي والجامي.
  • مخطط تكميم الأفواه والإرهاب الفكري، ورفع شعارات التطهير الشامل للدولة من أنصار ما يسمونه الإسلام السياسي، وتكفي تهمة الانتماء أو التأثر بالإخوان للاعتقال والمضايقة.
  • التدرج في اعتقال المشايخ والدعاة، والبدء بالطريفي والسكران، وعندما لم يجدوا ردات فعل أكملوا اعتقال نخبة الدعاة والمثقفين والحقوقيين والمطالبين بالإصلاح.
  • والمحصلة أن محمد بن سلمان اختير لتنفيذ مشروع تغيير شامل بصورة جبرية سريعة.
  • وعدم السماح بأي عوامل عرقلة للمشروع بجميع جوانبه، وبالتالي أي نقد يقابل بالتخوين والاضطهاد.

خروج جمال خاشقجي نتيجة توقعه الاعتقال لأسباب عديدة نتوقع أن منها:

  • بوادر التذمر من طرحه الإعلامي ومنعه ثم السماح له بالكتابة بأمر محمد بن سلمان وشكره له، ولكنه دعا ألا يكسر في وقته قلم، وهي ذم بما يشبه المدح، ولذا كان المنع النهائي دافعًا للخروج لإحساسه بضعف الجهة الداعمة له وعدم قدرتها على حمايته.
  • واختياره أمريكا مكانًا للإقامة يُعبر عن شبكة علاقاته في أمريكا، وأنه أيضًا لا يريد أن يعتبر معارضًا، حيث إنه لا يوجد معارض سني في أمريكا، بل أغلب المعارضين في أوربا لأسباب أمنية وقضائية.
  • ونظرًا لتذبذب مواقف جمال بين إطراء العصر الجديد ونقده لم تتقبل المعارضة في الخارج التعامل معه لماضيه الاستخباراتي وعلاقاته المبهمة مع النظام.
  • وكان طرحه الناعم وتردده بين النقد والإطراء عامل إزعاج للمعارضة، ولكن النظام كان أكثر انزعاجًا منه لعدة أسباب؛ منها: نقده المتعقل للنظام بطريقة يتقبلها الفكر الغربي، ومنها علاقاته المحتملة بأمراء غير متحمسين لما يجري، وأنه يُحتمل انضمامه لأي معارضة من داخل النظام، وهذا شيء لا يتحمله ابن سلمان، وقد يكون هو الدافع الأساس لتصفيته. وهجوم الذباب الإلكتروني المتواصل عليه مؤشر لمستوى الحنق عليه.

يبدو أن عملية القتل كانت متعددة الأهداف، فمن ناحية: يحقق رغبة جامحة لدى ابن سلمان لإسكات كل المعارضين وخاصة من يملك تأثيرًا وقدرة على لعب دور كبير في حال قرر الانضمام لأحد الأمراء المعارضين، ومن ناحية أخرى فإن تنفيذها بهذا الشكل وفي تركيا يقصد منها إحراج أردوغان وإيجاد المبررات لدخول البلدين في نفق صراع ثنائي تستثمره أمريكا والإمارات في وضع السعودية في عين العاصفة في مشروع تقسيم تركيا، وتكوين دولة الأكراد الكبرى، حيث كانت الحملة المصاحبة لبدايات العملية من اتهام تركيا وقطر والإخوان بإخفاء خاشقجي أو قتله تدل على الخطة المرسومة التي أفشلها وقلبها رأسًا على عقب وجود خطيبته معه.

ومما يبين الحساسية من نشاط مفترض لدى المغدور حرص القتلة على العثور على جوال جمال خاشقجي لفحص علاقاته وخاصة بالأمراء مثل أحمد بن عبد العزيز وتركي الفيصل، حتى إن النائب العام في زيارته كان حريصًا على طلب الجوال بأسلوب مفضوح وفج.

أهم ملامح أسلوب الأتراك بالتعاطي مع القضية هو ما يلي:

  • الحرص على توحيد مصدر التسريبات والتحكم بها.
  • العمل على دفع السعودية لسلسلة من الاعترافات واستغلال حرج ترامب من فشل العملية.
  • العمل على استغلال المنابر السياسية والإعلامية المعارضة لترامب في تكوين رأي عام أمريكي ضد الجريمة والمدافعين عنها.
  • تخبط ترامب في المواقف دفعه لمطالبة الملك بالكشف عن مصير خاشقجي؛ ما اضطر السعودية للاعتراف أولاً بموته داخل السفارة لتنفرط سبحة الاعترافات والإحراجات بسبب الكذب غير المتقن، وكان كل اعتراف ينقض سابقه؛ ما أسقط في يد الإعلام الموالي وسقوطه في مستنقع التناقضات المتسارعة؛ ما أبعده عن التأثير ومقاومة الهجمة المضادة الشرسة من الإعلام المعادي في قطر وتركيا وأمريكا، الذي جعل القضية تشغل العالم لأكثر من شهر، واستمرارها حية لأن وقود التسريبات مستمر.
  • حرص الأتراك على الفصل بين الجريمة والدولة السعودية واستهداف الذي أمر في إشارة لضرورة التخلص من محمد بن سلمان؛ وذلك خلاف ترامب الذي يحاول ابتزاز الدولة والحرص على بقاء المجرم.
  • تركيز الأتراك على وجود أطراف أخرى مشاركة في التخطيط والتنفيذ والعلم المسبق، ويمكن تخيل أنه إذا كانت تركيا مستهدفة فإن احتمال تواطؤ كل من الإمارات ومصر وحليفهم الجديد إسرائيل، وقد يكون المشروع ككل نال الضوء الأخضر من أمريكا.
  • إن الإشارة إلى اتصال أحد الجناة بأمريكا ووصول فريق تابع لدحلان سيدخل الواقعة في مسار جديد يسقط فيه الضحايا وتكثر فيه المساومات، وإن غدًا لناظره قريب.