د. عبد الله العودة

عندما أصبح محمد بن سلمان وليا للعهد في المملكة العربية السعودية هذا الشهر قبل سنتين، أعلن عن شنّ حملة قمع عنيفة ضد رجال الدين المتطرفين وتعهّد بإعادة المملكة إلى “الإسلام المعتدل” الذي قال إن المتشددين سرقوه في سنة 1979. وفي هذا الصدد، أشار بن سلمان في منتدى في وقت لاحق من تلك السنة قائلا: “لن نُضيّع 30 سنة أخرى من حياتنا في التعامل مع الأفكار المتطرفة، سنُدمّرهم اليوم”.

على مدار السنتين الماضيتين، لم يكن أغلب رجال الدين الذين استهدفهم ولي العهد متطرفين، حيث أن لدى العديد ممن أرسلهم بن سلمان ليقبعوا في السجن سجلات طويلة في الدفاع عن نوع الإصلاح والاعتدال الديني الذي يزعم أنه يدعمه. في غضون ذلك، يواصل المتشددون الدينيون والمنتقدون المعروفون لخطته الإصلاحية المزعومة عملهم في المملكة العربية السعودية دون عوائق.

في أيلول/سبتمبر سنة 2017، اعتقلت قوات الأمن السعودية العشرات من رجال الدين، إلى جانب صحفيين وأكاديميين آخرين. وعلى مدار السنة التالية، وقع استدعاء خمسة آلاف رجل دين بهدوء وأُجبروا على تقديم تعهدات بأنهم لن ينتقدوا الحكومة، وذلك وفقا لمسؤول عربي مقرب من الحكومة السعودية. وعلى عكس الطريقة التي أطر بها ولي العهد حملته القمعية في الغرب، لم تستهدف الحملة الآراء المتطرفة. بدلا من ذلك، تسعى الحكومة ببساطة لملاحقة أولئك الذين يمكنهم تحدي سياساته وربما تعبئة الجماهير ضد حكمه.

تجسد هيئة كبار العلماء، وهي أعلى هيئة دينية في المملكة، هذه المعايير المزدوجة. ويعدّ المجلس المؤلف من 21 عضوا مكلفا بتقديم المشورة للملك في الأمور الدينية من خلال إصدار الفتاوى. ويختار الملك شخصيا الأعضاء، في حين تتكفّل الحكومة بدفع رواتبهم. ومن بين هذه الهيئة الدينية المحافظة إلى حد كبير، أثار عضوان على الأقل الجدل بسبب أيديولوجياتهما المتطرفة.

قال صالح الفوزان، المعروف بأنه يحظى بتقدير كبير من قبل ولي العهد، في سنة 2017 على التلفزيون الحكومي إن الشيعة ليسوا مسلمين. من جهته، قال صالح اللحيدان، الذي ترأس المجلس الأعلى للقضاء حتى سنة 2008، إن أصحاب وسائل الإعلام التي تبث أي شيء يخالف الأعراف الدينية والأخلاقية يجب أن يواجهوا عقوبة الإعدام بسبب الارتداد عن الإسلام.

على عكس الشخصيات المعتدلة والمثقفين الذين وقع اعتقالهم سنة 2017، من المعروف أن رجال الدين مثل اللحيدان قريبون من محمد بن سلمان. في الواقع، أصدر اللحيدان فتاوى متعددة تقول إنه لا يسمح للمسلمين بالاحتجاج أو حتى انتقاد الحكام علنا نظرا لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تمرد قد يبرر بدوره رد فعل الحكام العنيف. في سنة 2017، أصدر عبد العزيز آل الشيخ، مفتي المملكة العربية السعودية، العديد من الفتاوى والبيانات التي تدعو إلى فضائل طاعة السلطات القائمة والخضوع لسياساتها دون أدنى شك. وفي سنة 2016، قال آل الشيخ إن “المؤمن ملزم بأن يحب الحاكم ويدافع عنه ولا يهينه”.

لم يكن هؤلاء رجال الدين المحافظين الوحيدين الذين ترعاهم الدولة والذين ساعدوا في تصوير حملة بن سلمان القمعية ضد المعارضة والاعتدال الديني على أنها محاولة للحد من التطرف الديني. في الحقيقة، بذل رجال دين آخرون مقربون من الدولة، مثل اللحيدان، جهودا كبيرة لثني السكان عن انتقاد حكام البلاد.

في مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع، قال رجل دين يدعى عبد العزيز الريس إنه حتى وإن تناول الحاكم الكحول ومارس الجنس على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون “لمدة 30 دقيقة في اليوم”، وكلاهما من الكبائر في الإسلام، لن يجرأ أحدا على لومه أو إدانته علنا خوفا من اتهامه بالتحريض ضد الحاكم.

في المقابل، تتناقض هذه الآراء بشكل حاد مع المعتقدات المعتدلة للعديد من رجال الدين والعلماء الذين انتهى بهم المطاف في السجن. من جانبه، جادل عبد الله المالكي، وهو أكاديمي ديني، بأن السيادة والاختيار الحر للشعب يجب أن يُعلى على أية رغبة في تطبيق الشريعة، وأن العدالة والاختيار الحر يجب أن يكونا ركائز أي مجتمع سياسي.

شعرت السلطات السعودية بالخطر إزاء هذا الخطاب، واعتقلت المالكي في أيلول/ سبتمبر سنة 2017، ثم أحالته السنة الفارطة إلى المحكمة لمحاكمته بشكل سري. من فضلا عن ذلك، قُتل كاتب العمود في صحيفة “واشنطن بوست” جمال خاشقجي، الذي لمح إلى هذه المواضيع، بشكل مروّع حيث قُطّعت أوصاله في القنصلية السعودية في إسطنبول في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ووقع اعتقال آخرين ممّن دعوا إلى إشراك المواطنين في السياسة أو دافعوا عن الديمقراطية أو حقوق الإنسان.

لعل أبرز من تبنى هذا الاتجاه، والد عبد الله، سلمان العودة، الذي لديه سجل طويل من التصريحات العامة التي تدعو إلى التسامح الديني. وتجدر الإشارة إلى أن العودة ندد بدعوات الجهاد في العراق وسوريا وغيرهما، ودعا إلى التغيير الديمقراطي ودعم تمكين المرأة وحارب التمييز واحترم الأقليات الدينية المهمشة في المملكة. في المقابل، ألقي القبض على العودة في العاشر من أيلول/ سبتمبر سنة 2017.

أثناء التحقيق، لم يقع استجوابه عن معتقداته أو نشاطه الديني، وإنما عن منشور نشره خلال تلك السنة على حسابه على التويتر (لديه أكثر من 13 مليون متابع) حول الحصار الاقتصادي الذي شنته السعودية ضد قطر. وعلى الأرجح، سيواجه العودة عقوبة الإعدام ليس لأنه متطرف بل بالأحرى، كما قال خاشقجي ذات مرة، بسبب آرائه التقدمية.

ما فعله محمد بن سلمان خلال السنتين الماضيتين بعيد كل البعد عن محاربة التطرف الديني

تطمس هذه السياسة مفهوم المواطنين للإرهاب وتجرم أي احتجاج أو تجمع مدني. وتُعتبر معادلة حالات التطرف الحقيقي بالنشاط السلمي بمثابة ممارسة منصوص عليها في العديد من قوانين الدول، مثل قانون مكافحة الإرهاب الذي يجرم النشاطية ويصنف انتقاد سياسة الحكومة على أنه عمل إرهابي. لذلك، كلما ادعت الحكومة السعودية أنها تحارب الإرهاب، كلما كان من الصعب معرفة ما إذا كان ذلك يعني محاربة التطرف العنيف أو النشاط السلمي والتعبير عن الرأي. ففي الشهر الماضي، تعهدت سياسية سعودية على مواقع التواصل الاجتماعي بإضافة النسوية إلى قائمة الجرائم الإرهابية في البلاد قريبا.

يتعين على العالم الخارجي أن يضع سياسات ولي العهد في سياقها، حيث أن ما فعله محمد بن سلمان خلال السنتين الماضيتين بعيد كل البعد عن محاربة التطرف الديني. في الواقع، يستهدف ولي العهد النقاد ويضعف الخطاب المستقل الذي لطالما كان يحارب الإرهاب، مع تمكين رجال الدين المتطرفين الذين يشرعون حملته القمعية. وعلى الرغم من إمكانية إسكات هذه السياسة المنتقدين مؤقتا، إلا أنها ستخلق بيئة يُرجح أن ينمو فيها التطرف في المملكة العربية السعودية.