في مشهد إلى طي صفحة الماضي التي تمتد على أكثر من عقد من قطع العلاقات بين النظامين السعودي والسوري المدعوم من إيران، زار وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، في 18 أبريل/نيسان 2023، دمشق، في أول زيارة رسمية.
وتأتي الزيارة ردا على زيارة مماثلة لوزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد للمملكة قبل أسبوع في 12 أبريل/نيسان 2023، تمت بناء على دعوة من نظيره السعودي، وكان في استقباله بمطار الملك عبد العزيز نائب وزير الخارجية السعودي وليد الخريجي.
وتعاقبت تلك الزيارات المتماثلة على المستوى الدبلوماسي مع مصالحة سعودية إيرانية أعلن عنها في 10 مارس/آذار 2023، تضمنت الاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، وإعادة فتح السفارتين، تتويجا لمحادثات جمعت الجانبين بوساطة من الصين.
ومنذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها قدم المقداد إلى أرض المملكة، تبنى النظام السعودي خطاب رئيس النظام السوري بشار الأسد، وتعامل معه كحليف، واستخدام نفس كلماته في البيان الختامي المشترك للزيارة، والذي أعلن صراحة السعي لإعادة سوريا إلى محيطها العربي.
حيث تتعامل السعودية مع النظام السوري الذي قصف شعبه بالكيماوي والبراميل المتفجرة وارتكب عدد من المجازر الموثقة بالصوت والصورة طيلة العقد الماضي، أدت إلى تهجير أكثر من نصف شعبه وهدم المدن وقتل الأطفال والنساء، تحت مسوّغات “مكافحة الإرهاب”.
وأكد الجانبان السعودي والسوري على “أهمية مكافحة الإرهاب، وتعزيز التعاون بشأن مكافحة تهريب المخدرات والاتجار بها، وعلى ضرورة دعم مؤسسات الدولة السورية، لبسط سيطرتها على أراضيها لإنهاء تواجد الميليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الخارجية”.
فيما تشير الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير أصدرته مارس/ أذار 2023، بمناسبة مرور 12 عاما من بدء الحراك الشعبي المناهض للأسد، أن النظام السوري قتل 200 ألف سوري بينهم أكثر من 30 ألف طفل و16 ألف سيدة، وشرد قرابة 14 مليونا.
علاوة على الأرقام التي وثّقها المرصد السوري التي تفيد بمقتل أكثر من نصف مليون شخص بالأسماء، منذ 2011، من أصل أكثر من 600 ألف قتيل تأكد من مقتلهم على مدار 12 عاما.
وفاق إجمالي اللاجئين السوريين المسجلين رسميا 5 مليون ونصف -بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين-.
وخلال الفترة ما بين الزيارتين السابق الإشارة إليهما، سخّر -كتاب سعوديون وناشطون وذباب إلكتروني ومغردون محسوبين على النظام- أقلامهم للتماهي مع سياسات بشار الأسد ومحاولة تغيير سردية الثورة السورية والإيحاء بأن الصراع قائم بين النظام السوري وجماعات إرهابية.
كما أمعنوا التدوين عن مدى حكمة النظام السعودي وصحة قراراته وتعقله السياسي في احتواء النظام السوري، وزعموا أن المملكة ما اتخذت هذه الخطوات نحو الأسد إلا لمصلحة الشعب السوري ومن أجل حل أزمة اللاجئين السوري، وغيرها من الأكاذيب الباطلة.
وحاول المحسوبين على النظام السعودي تنزيه مواقف وقرارات وتحركات حكام بلادهم عن أي عيب على حساب السوريين، والإشادة والثناء على السياسة الخارجية لبلادهم؛ وعلى أحسن الظروف فقد التزم بعضهم الصمت رغم إعلانهم سابقا الرفض القطعي للتطبيع مع الأسد.
ومن أبرزهم وزير الإعلام سلمان الدوسري، الذي سبق وغرد في أكتوبر/تشرين الأول 2015، بأن الوقوف مع طاغية قاتل مثل نظام بشار الأسد لا أظنه مبرر تحت أي ظرف كان، بينما لم ينطق بكلمة حين استضافة المقداد ولا عند زيارة وزير الخارجية السعودي لدمشق.
الأمر الذي دفع ناشطون على تويتر لإحياء ذكرى الصحفي السعودي المغدور به جمال خاشقجي، الذي ثبت أن ولي العهد محمد بن سلمان، أمر باغتياله في أكتوبر/تشرين الأول 2018 داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، والتذكير بمواقفه وآرائه الصلبة من الأسد.
خاشقجي قال إن من يريد استعادة الدور العربي في سوريا لا يفعل ذلك من بوابة نظام فقد شرعيته وسيادته إلا أن يقبل أن يضع يده أيضا بيد إيران فهي شريكته فيدخلوا سوريا المغلوبة معا ومن خلفهم بوتين -الرئيس الروسي فلاديمير- يرمقهم بازدراء.
وأكد في تغريدة دونها على حسابه بتويتر في 30 سبتمبر/أيلول 2018 أي قبل أيام قليلة من اغتياله، أن سوريا اليوم والمستقبل هي الثورة والشعب الحر.
ولم يكن ذلك الموقف الأول لخاشقجي المدافع عن القضية السورية، إذ أعرب عن رفضه سابقا التركيز فقط على ما فعله السلاح الكيماوي بالسوريين وعده خيانة لحق الشعب السوري في الحياة والسلام، مشيرا إلى أن نصف مليون سوري قتلهم بشار والإيرانيين والروس معظمهم قضوا بدون أسلحة كيماوية.
وفي ندوة عقدتها أكاديمية العلاقات الدولية بإسطنبول في مايو/أيار 2018، بعنوان “تفجير الاتفاق النووي الإيراني وسط عالم مضطرب”، نصح خاشقجي السعودية بأن تعتمد على أحرار سوريا من أجل إخراج إيران من العالم العربي، وليس على أمريكا وإسرائيل.
وبعد أسبوعين من اختفاء خاشجقي، رفع “تلفزيون سوريا” النقاب عن مقابلة مسجلة معه، تحدث خلالها عن الأخطاء التي ارتكبتها بلاده في سوريا، وقال إن الرياض لم تتحمس للتغيير في سوريا، الذي كان سيجلب الحرية والديموقراطية، بسبب توجسها الدائم من صعود الإسلام السياسي.
ما سرد سابقا مجرد تذكير بمواقف بارزة لخاشقجي، تظهر مدى إجادته لقراءة الأحداث بالشكل الصحيح، وقدرته على تحليل المشهد ودرايته بمسار السياسة السعودية ونوايا النظام الحاكم.
ووجب استحضار هذه المواقف من الذاكرة، نظرا لغياب الأصوات المؤيدة للثورة السورية في الوقت الراهن في الداخل السعودي، فقد عمد النظام إلى قتَل أصحاب الكلمة الحرّة والمواقف الصلبة المؤمنين بعدالة القضايا العربية.
كما قمع النظام السعودي الداعمين لرغبات الشعوب في التحرر من الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة، وفرض سياسة تكميم الأفواه وألغى الرأي الآخر وحجب الحبر وقصف الأقلام سوى المأجورة.
الإعلامي السوري قتيبة ياسين بدوره، ترحم على خاشقجي، وعلى ما كان عنده من حكمة وبعد نظر، مستنكرا التعاطي الإعلامي السعودي الآن مع إعادة النظام العلاقات مع بشار الأسد ونظامه.
ولفت في حديثه مع “صوت الناس” إلى أن السعودية مثل باقي الدول العربية لديها إعلاميين جاهزين للتطبيل في أي ظرف، في حين أن الداعمين بين سجين أو مقتول أو ملاحق.
وأضاف ياسين: “حتى لو تصالحت المملكة مع زعيم حزب الله حسن نصر الله، لخرج هؤلاء الإعلاميين وقالوا إن نصر الله مقاوم”، مشيرا إلى أن المغردين المحسوبين على السعودية باتوا اليوم يهاجمون أميركا ويروجون للروس والصين.
وأكد أن التطبيع السعودي السوري أكبر طعنة توجه للسوريين من الإخوة العرب حتى الآن، قائلا: “لم نتوقع بعد صلابة الموقف السعودي تجاه القضية السورية هذه الاستدارة المباشرة ودون أي مكسب لا للسوريين ولا للسعودية كدولة”.
وانتقد الكاتب والمحلل السياسي السوري ياسر سعد الدين، السياسة الخارجية للمملكة في عهد محمد بن سلمان، لافتا إلى أنها تشهد عدة تغييرات ومنعطفات حادة في وقت قصير، ويتحول الخصم إلى صديق والصديق إلى خصم.
حيث أشار لصحيفة “صوت الناس” إن التطبيع السعودي مع النظام السوري يمكن قراءته كنتيجة لاستنزاف المملكة في حرب اليمن التي تخوضها منذ مارس/أذار 2015، وخسارتها حربها ومواجهتها مع إيران.
وأضاف سعد الدين، إلى أن حرب اليمن فضحت التصريحات النارية لابن سلمان وأجهضت مزاعمه بالقدرة على إنهاء ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران خلال أيام، وأنه قادر على نقل المعركة إلى إيران.
وتابع: “بات الآن معلن مساع السعودية للتصالح مع إيران واستنزاف وهزيمة السعودية في مواجهة المشروع الإيراني”.
في ذات السياق يؤكد الإعلامي السوري أحمد الهواس، أن تطبيل بعض السياسيين والإعلاميين لما تقوم به السعودية من تطبيع مع الأسد وما يسمونه حل لمشاكل الشعب السوري ويوهمون الناس بذلك “أمر معروف” لأنها تعتمد على مرتزقة تمولهم بالمال مقابل “التطبيل” لسياساتها. ويتابع؛ إن هذا التطبيل مدفوع الثمن ولذلك لا يستطيع هؤلاء السياسيين والإعلاميين الخروج عن المطلوب منهم، أو حتى رفض الاستجابة لإملاءات النظام عليهم لأنه صاحب النعمة والفضل عليهم، وهم مجرد مأجورين صغار.
وأشار الهواس، إلى أن مجموعة من القنوات التي تروج للتطبيع السعودي السوري ممولة سعوديا لأن النظام السعودي يحتاجهم في شتم فئة معينة أو التطبيل لسياستها، لافتا إلى أن الذباب الإلكتروني أيضا يستخدم لمحاربة المختلفون مع السياسة السعودية.
وأوضح أن هناك خطأ في فهم الدور السعودي تجاه ثورات الربيع العربي أو الثورة السورية، قائلا إن من يظن أن السعودية كانت داعمة للربيع العربي والحراك العربي بشكل عام أو الثورة السورية بشكل خاص “مخطئ”.
وشدّد الهواس، إلى أن السعودية أظهرت حالة التعاطف مع ما يتعرض له الشعب السوري من قتل، ولكنهم سعوا إلى جعل الثورة السورية محرقة على ألا يسقط النظام، وحين اطمئنوا أنه تم سحق الثورة السورية دعموا إيران وإن كانوا يدعون الخلاف معها.
ولفت إلى أن دعم إيران المساندة للنظام السوري كان بوقف السلاح النوعي عن الجيش الحر وصناعة الفصائلية، ثم ذهبوا إلى روسيا.
وأضاف الهواس، أن النظام السعودي ضمن الآن أن الشعب السوري أصبح مثالا سيئ يروعوا به شعوبهم خاصة بعدما حصل له من هجرة وقتل ومآسي، فضلا عن مصائب الجوع والفقر والاستبداد، ويستخدمونه ليقولوا لشعوبهم: “انظروا هذا حال من يثور”.
وأكد أن إعادة السعودية لبشار الأسد هي رسالة إلى كل الشعوب العربية والشعب السعودي بأنه “إذا فكرتم بالثورة هكذا سيكون مصيركم”.
وقال الهواس: “الدور السعودي خبيث منذ بداية الربيع العربي ومازال وسوف يستمر في خنق الشعوب والحفاظ على البناء الرسمي العربي لأن انهيار النظام السوري يعني انهيار هذا النظام، وبالتالي يصبح النظام الحاكم في السعودية في خطر”.
والثابت أن نظام بشار الأسد المجرم لم يتغير فيه شيء منذ 12 عاما حتى يجتهد ولي العهد السعودي في احتوائه مرة أخرى والتحالف وتطبيع العلاقات معه وتمجيده في استمرار لانحراف بوصلته، وقيادة حراكًا لإقناع الدول العربية بإعادة سوريا للجامعة العربية.
لذلك أطلق ناشطون على تويتر، حملة #لا_للتطبيع_مع_الأسد_المجرم، أعربوا خلالها عن رفضهم التام لإعادة تأهيل الأسد مهما كانت المبررات، مستنكرين استمرار بن سلمان في ارتكاب أخطاء فادحة ضيع معها هيبة المملكة السعودية.
ونشر الصحفي السوري أبو محمد الحوراني صورة تجمع وزير الخارجية السعودي ببشار الأسد، خلال زيارته لدمشق، مذكرا بأن بشار وصفهم في بدايات الثورة السورية بـ”أنصاف الرجال”.
وكتب الحارث الميمي: “يمكن توصيف ما يحدث بأن دويلات على الهامش وفي ذيول الأمم تحكمها عصابات وحدثاء عهد في السياسة يلهثون كالكلاب لتعويم أكبر قاتل في العصر الحديث والتطبيع مع شبه دويلة تحكمها مافيات وتجار مخدرات على مستوى إقليمي، شبه دويلة تحتلها ٤ جيوش بقواعدها العسكرية.”
وتساءل طارق زهري: “كيف يتقبل مسؤول أن يضع يده في يد من تلطخت يداه بدماء شعبه؟ وكيف تدار هذه المعركة السياسية؟”، مستنكرا عودة السعودية والإمارات وغيرها بعد عشرة سنوات مذلولين أمام بشار.
ووجه رسالة إلى وزير الخارجية السعودي العزيز فيصل بن فرحان، تمنى منه زيارة سجون النظام المجرم والاستماع إلى رأي النساء المغتصبات وإلى الشباب المعدوم وأن يزور المذابح والمدن المدمرة والحطام والركام، ساخرا بالقول: “ولِما تذهب إلى سجون سوريا وفي سجون بلدك يموت الأبرياء؟”.