إياد الشريف
خاص: منذ مبايعته ولياً للعهد في 21 يونيو 2017م تصدر الأمير محمد بن سلمان واجهة المشهد السعودي في كل شيء، وليس غريباً على منظومات الحكم الملكي ذي السلطة المطلقة أن يحظى الملك أو ولي عهده بالنفوذ العالي على جميع مكونات الدولة من أرض وشعب ونظام حاكم.
إلا أن ابن سلمان كان مختلفاً، فقد أصبح في غضون أقل من سنتين من ولايته للعهد كل شيءٍ في كل شيء، ومع أنه جاء مبشراً من خلال رؤيته بمجتمع حيوي واقتصاد مزدهر ووطن طموح، إلا أن أنين المجتمع وتدهور الاقتصاد والجراح التي تعلو وجه الوطن خلال أشهر ولايته المعدودة تنذر السعوديين بمستقبل مخيف.
وبعيداً عن تحليل شخصية ابن سلمان، وأسباب تفرده بالحكم في ظل وجود رؤوس كبيرة في أسرة آل سعود، وقراءة بعض القرارات التي يصدم بها الشارع السعودي بين الفينة والأخرى، تبرز الحاجة لقراءة تستشرف مستقبل ابن سلمان ذاته في المرحلة القادمة بعيداً عن التحليلات الرغبوية، وتتأكد تلك الحاجة في ظل التحولات التي يمر بها ابن سلمان ومن ورائه البلد كله هذه الأيام على أعقاب حادثة مقتل جمال خاشقجي التي لاتزال تداعياتها مستمرة، والتوجه نحو إنهاء الملفين السوري واليمني، والانفتاح على إسرائيل، وبوادر عودة نسائم الربيع العربي في السودان واحتمالات امتدادها إلى دول أخرى في المنطقة.
فهل أركان كرسي حكم ابن سلمان ستهتز لتسقط أو تكسر؟! وهل سيمتد عنفه إلى مقاومة أي بادرة للسعي نحو إزاحته كما هي طبيعة إدارته العنيفة للملفات الداخلية والخارجية؟! أم أنه سيناور وينحني للعاصفة ريثما تهدأ الأوضاع؟! أم أن لديه من القوة والتمكين ما يساعده على أن يستمد من هذه الأحداث قوة رافعة له ليتوج ملكاً؟!
ستقدم هذه الأسطر محاولة لتحليل خيارات محمد بن سلمان في المستقبل القريب على مستوى وجوده في سدة الحكم من عدمه، وينبغي التأكيد على أن الواقع اليوم محلياً وإقليمياً سيال ومتغير وحافل بالكثير من المفاجآت التي يصعب التنبوء بها.
ماذا يستقبل ابن سلمان في أيامه القادمة؟!
تشير التوقعات إلى أن ابن سلمان ينتظره في الأفق القريب في ظل الظروف الراهنة أحد خمسة احتمالات: أولها عزله، فليس بعيداً أن تتوافق الأسرة الحاكمة على هذا الخيار خصوصاً إذا وجد الظهير الخارجي المتبني لهذا الاحتمال، والقارئ لتطورات مشهد السياسة الأمريكية قد يجد فيها ما يؤيد هذا الاحتمال خصوصاً إذا صوّت الكونجرس على فرض عقوبات على ابن سلمان، وفي الغالب أن ابن سلمان حال وجود إرادة الأسرة المدعومة بظهير خارجي قوي لن يتمكن من المقاومة إلا إذا غلبه طبعه العنيف!
الاحتمال الثاني: الصدام الدموي، وهو خيار ليس بعيداً عن شخصية ابن سلمان، خصوصاً وأن المستهدف حينها هو الغاية التي يسارع خطاه نحوها وهي الملك، وإذا استشعرنا تفتيته لكثير من مراكز القوى في البلد، وشراءه لولاءات جل أصحاب المناصب العسكرية فضلاً عن المدنية، فإن تهوره باتخاذ هذا الخيار سيكون ممكناً كمبادرة منه، ولا تسأل عن تفجر ردة الفعل الشعبية حينها إذا بدأت موجة جديدة للربيع العربي!
الاحتمال الثالث: بقاؤه ولياً للعهد، وهنا قد تستمر صلاحياته كما هي الآن إذا استمرت وتيرة الأحداث على نحوها الحالي، وقد تتقلص صلاحياته مع بقائه في ولاية العهد ليدير المشهد من خلف الستار إذا تزايدت سخونة الأحداث.
الاحتمال الرابع: تواريه أكثر ليكون ولياً لولي العهد إذا لم يُقبل احتفاظه بولاية العهد حتى وإن كانت صورية في الظاهر، ويبعد هنا أن يبقى بعيداً عن دائرة الصلاحيات الواسعة التي لا يتصور بقاؤه بدونها ما دام حراً طليقاً له منصب!
الاحتمال الخامس: توليه للملك، وهو خيار يعد تطوراً طبيعياً لتزايد صلاحياته خلال الأشهر الماضية، وقد يكون تفسير اللجوء إليه مع تكالب الضغوط عليه يعود إلى الطبيعة المتهورة المتعجلة التي يتسم بها، وظنه أنه سيفرض واقعاً جديداً قد يخفف من وطأة الواقع عليه، كما قد يكون هذا الاحتمال نتيجة لقدرته على كسب تداعيات أحداث مقتل خاشقجي لصالحه.
محركات تغيير مستقبل ابن سلمان:
لاستكمال دراسة الاحتمالات السابقة لا بد من عرضها على أربعة من محركات التغيير التي يتضح من خلال استعراض نقاط القوة والضعف فيها مدى اتجاهها نحو ترجيح وقوع بعض الاحتمالات على البعض الآخر، وهذه المنهجية تستكمل بها دراسة خيارات مستقبل ابن سلمان بشكل أكثر موضوعية، واختيار المحركات جاء نتيجة لقراءة مجموع الأحداث الدائرة ذات العلاقة بمستقبل ابن سلمان، والشخصيات الأكثر تأثيراً فيها.
المحرك الأول: قوة المؤسسات الأمريكية المعارضة لابن سلمان:
فمستقبل ابن سلمان أصبح على أجندة الكونجرس المؤسسة الدستورية الأولى في أمريكا، فمع التشكيل الجديد للكونجرس عقب الانتخابات النصفية وبعد تصويت مجلس الشيوخ بالإجماع على مشروع قانون يحمل ابن سلمان مسؤولية قتل خاشقجي سينتقل مشروع القانون ليعرض على مجلس النواب الذي لا بد لإقرار القانون من موافقته عليه، والمتابع لتطورات مشهد السياسة الأمريكية الداخلية وتجاذباتها يقرأ بجلاء توجهات قوية نحو إبعاد ابن سلمان لما تسببه تصرفاته من خطر على أمريكا، وهي توجهات يسعى ترامب لمقاومتها بسبب معارضتها لمصالحه، وتبرز نقاط القوة في هذا المحرك في النفوذ السياسي والاقتصادي لمؤسسات الدولة الأمريكية وعلى رأسها الكونجرس، وأثرها الكبير في تحديد خيارات سياسات الدولة الداخلية والخارجية، إلا أن من نقاط ضعف هذا المحرك معارضة الرئيس ترامب لهذا التوجه، ومنصب الرئيس في الولايات المتحدة يمنح شاغله صلاحيات واسعة جداً قد تمكنه من إضعاف فاعلية هذا المحرك في التغيير.
المحرك الثاني: قوة ترامب:
وهو شخصية ليست ببعيدة عن ابن سلمان في التهور والعجلة وقلة الخبرة، وإذا أضيف لها ما منحه القانون الأمريكي لرئيس الدولة من صلاحيات تنفيذية وعسكرية، إضافة إلى حق الفيتو الذي لم يتمكن الكونجرس من التغلب عليه وفق القانون إلا في مرات نادرة في التاريخ الأمريكي. ومحرك قوة ترامب يتجه إلى إبقاء ابن سلمان للعلاقة الوثيقة بينهما، ولأن المصلحة الأمريكية بزعم ترامب تكمن في استمرار جباية المال السعودي الذي لن يحصل بهذه الوفرة دون بقاء ابن سلمان، وأبرز نقاط قوة هذا المحرك هي ما يتمتع به من صلاحيات تقدمت آنفاً، أما نقاط الضعف فتبرز في صوت المؤسسات الأمريكية القوي المعارض لموقف ترامب من ابن سلمان، والدور الذي لعبه ابن زايد وابن سلمان في دعم وصول ترامب للحكم والذي يعد إن ثبت جريمة ستودي بترامب فضلاً عن ابن سلمان، إضافة إلى ترنح ترامب وكونه في أضعف حالاته في الداخل الأمريكي.
المحرك الثالث: قوة ابن سلمان:
وهذا المحرك يتجه نحو إبقاء ابن سلمان نتيجة لعناصر قوة أهمها أنه المتفرد بالسلطة في السعودية، والمهيمن على مفاصل القرار فيها، والمتحكم بمقدراتها وأهمها المال وفقاً لما يحقق مصالحه، إضافة إلى توافقه العالي مع ترامب، وكل ذلك يأتي في ظل دعم أبيه الملك اللامحدود له، ويقابل عناصر القوة هذه عناصر ضعف تقلل من قدرة هذا المحرك على السير في اتجاهه أبرزها أسلوب ابن سلمان السياسي العنجهي وشخصيته العدوانية التي أثمرت رفضاً إقليمياً له نتيجة لتحالفه مع ابن زايد وإخفاقه في حرب اليمن وحصار قطر، وفضيحته في تعذيب الناشطات، وهي سياسات توجت أخيراً بمشكلة خاشقجي التي أظهرت رفضاً عالمياً لابن سلمان.
وتمتد عناصر الضعف على صعيد الفشل الداخلي، والسياسات الداخلية المستفزة فاستهداف جميع نخب المجتمع المؤثرة من أمراء ومثقفين ورجال دين وتجار وإعلاميين واقتصاديين واعتقال عدد كبير منهم يلقي بظلاله على استقرار المجتمع وممكنات نجاح ابن سلمان في تحقيق مستهدفاته فيه.
المحرك الرابع: قوة الملك سلمان:
وهو الشخصية التي عرف عنها السعوديون القوة، والاعتزاز بمجد آل سعود والتمسك بملكهم، وهو على ما يقال في قدراته العقلية والصحية يبقى ملك البلاد ورأس السلطة فيها ولو بشكل رمزي، واتجاهه ظاهر نحو إبقاء ابنه محمد وتمكينه بل وربما التنازل عن الملك له، والتشكيل الوزاري الأخير يأتي في هذا الاتجاه، ويستمد هذا المحرك قوته من عوامل أهمها استمرار الشرعية الدولية للملك سلمان.
فلا يزال سلمان رغم الضغط العالمي على ابنه بعيداً عن دائرة الإشكال سياسياً وإعلامياً داخلياً وخارجياً، كما أنه أحد عناصر التوافق مع ترامب إضافة إلى ابنه، ويقابل عوامل القوة تلك عوامل ضعف أهمها الضغط الغربي غير المسبوق ضد ابن سلمان والذي تصعب حال تزايده قدرة الملك على التماسك أمامه، إضافة إلى كبر سنه فهو قد تجاوز الثمانين.
ما بعد دراسة خيارات مستقبل ابن سلمان:
نتيجة لسياسات الاستبداد والقمع تعاني نخب المجتمع السعودي من ضعف القدرة على إجراء الدراسات الاستشرافية في الحقول ذات الأولوية المجتمعية، وبناء مواقف الاستجابة أو التعاطي اللازمة لها بالشكل الموضوعي الحر، وإذا تذكرنا ما يزخر به المجتمع السعودي من متخصصين في مختلف المجالات يحملون المؤهلات المميزة من أرقى الجامعات العالمية تأكدت لنا أهمية تحفيز تلك النخب والدفع بها نحو العناية القصوى بدراسة حاجات المجتمع وتحليلها في ظل المتغيرات الإقليمية والعالمية من خلال سائر القنوات المتاحة على المستوى الشخصي أو الجماعي عبر المنصات الموجودة في الجامعات ومراكز الأبحاث وغيرها.
إنه لمن المؤلم أن يبقى المجتمع السعودي بإمكاناته ومقدراته رهيناً في حاضره وخيارات مستقبله لإرادة شخص واحد، وإذا لم تتحرك النخب في مختلف المجالات اليوم لدراسة خيارات مستقبلها وتحديد أشكال استجابتها لها فمتى ستتحرك؟!
إن حق الوطن والمجتمع على أبنائه وبناته خصوصاً النخب منهم يبرز في نهوضهم للقيام بالاستحقاقات الواجبة عليهم، وأن لا يربطوا فعلهم وردة فعلهم بإرادة السياسي الذي قد يطير بسبب تهوره فتطير معه مكتسبات الوطن والمجتمع إذا كانت مرهونة به.
هي دعوة في الختام للنخب والمنظومات الفكرية والثقافية والاجتماعية إلى المبادرة بدراسة خيارات مشاريعنا في ظل المستقبلات المتوقعة لبلادنا، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.