لم تغرّد السياسة “السعودية الإماراتية” ضد تركيا خارج سرب العداء والتنميطات والاختلاقات، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، في صياغة إستراتيجية هدفها الأول إضعاف تركيا، ونزع شوكتها من المنطقة، وتقويض حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، حسب تقارير إعلامية ومواقف علنية وسرية تم الكشف عنها.

سياق عداء الرياض وأبوظبي لأنقرة، ممتد منذ صعود حزب “العدالة والتنمية” إلى سدة الحكم عام 2002، لا سيما مع دعم أنقرة لثورات الربيع العربي التي اندلعت عام 2011.

المحور الخليجي كشف ذروة عدائه الشديد لتركيا يوم محاولة الانقلاب العسكري الفاشل بتركيا في 15 يوليو/ تموز 2016، إذ نشر الإعلام الموالي للرياض وأبوظبي شائعات بنجاح الانقلاب وهروب أردوغان.

وجاءت جريمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، لتخرج جبل الجليد الكامن من عداوة حكام آل سعود تجاه تركيا، الذي تمحور إلى صدام ومكايدات مستمرة لا تتوقف.

 

خطة سرية

في 5 أغسطس/ آب الجاري، نشر موقع “ميدل إيست آي” البريطاني تقريرا، تحت عنوان “الخطة الإستراتيجية” للمملكة العربية السعودية لإسقاط تركيا”، وقال: “إنه اطلع على وثائق لهيئة إماراتية تفيد بأن السعودية أعدت وباشرت تنفيذ خطة إستراتيجية تهدف إلى تقويض النفوذ التركي في المنطقة، وإسقاط حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان”.

وأكد الموقع البريطاني أن “الخطة تأتي ضمن تقرير سري أعدته الأجهزة الاستخباراتية في دولة الإمارات، الحليف المقرب من المملكة”.

حسب التقرير، فإن “مركز الإمارات للسياسات، وثيق الصلة بجهاز الاستخبارات في أبو ظبي، أفاد بأن الرياض بدأت في تنفيذ الخطة، في أعقاب مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي”.

وذكر التقرير أن الوثيقة تضمنت جزئية تصف “فشل أردوغان في محاولته تدويل قضية خاشقجي، وحان الوقت للرد على أردوغان الذي ذهب بعيدا في حملته ضد سياسات المملكة، وبشكل خاص ضد شخص ولي العهد”.

التقرير كشف عن أن أوامر صدرت في الرياض خلال مايو/ أيار 2019 بتطبيق خطة إستراتيجية لمواجهة الحكومة التركية.

وتهدف الخطة إلى استخدام “جميع الأدوات الممكنة للضغط على حكومة أردوغان لإضعافه، وإشغاله باستمرار بالقضايا المحلية على أمل أن يؤدي ذلك إلى إسقاطه من قبل المعارضة، أو يبقيه مشغولاً بمواجهة الأزمات الواحدة تلو الأخرى، ويدفعه إلى الانزلاق وارتكاب الأخطاء والتي من المؤكد أن وسائل الإعلام ستستغلها”.

 

قرار المواجهة

وقال موقع “ميدل إيست آي”إن الأدلة الأولى على الخطة السعودية ظهرت عندما منعت سلطات الرياض 80 شاحنة تركية تحمل منسوجات وكيميائيات من دخول المملكة عبر ميناء “ضبا” السعودي.

وأضاف الموقع نقلا عن مصدر تركي، أن السلطات السعودية منعت 300 حاوية تحمل خضروات وفواكه تركية من الدخول عبر ميناء جدة، علما بأن عدد السياح السعوديين في تركيا تراجع بنحو 15% خلال النصف الأول من العام الجاري.

ويوجد لدى المملكة العربية السعودية ما قيمته 2 مليار دولار من الاستثمارات المباشرة في تركيا، وذلك بحسب البيانات الصادرة عن وزارة الخارجية التركية في عام 2018.

وأضاف: “سوف تبدأ المملكة في استهداف الاقتصاد التركي وتضغط باتجاه تقليص الاستثمارات السعودية في تركيا بالتدريج إلى أن تنتهي تماماً، وكذلك خفض عدد السياح السعوديين الذين يزورون تركيا بالتدريج بينما يتم إيجاد وجهات بديلة لهم، وكذلك تقليص مستوردات السعودية من البضائع التركية، والأهم من ذلك تهميش الدور الإقليمي لتركيا بشأن القضايا الإسلامية”.

وبحسب ما ورد في التقرير “اتخذ محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية، القرار بمواجهة تركيا بعد اغتيال خاشقجي، على يد فريق من العملاء السعوديين داخل قنصلية بلادهم في إسطنبول”.

ويقول التقرير الإماراتي: “في إشارة إلى أن القيادة السعودية قطعت علاقتها مع أردوغان وبدأت تعامله كعدو، حيث أقر الملك سلمان بدون تردد توصية من اللجنة الاستشارية بعدم توجيه دعوة رسمية للرئيس التركي للمشاركة في قمة منظمة التعاون الإسلامي القادمة في مكة”.

 

حرب قديمة

ومع أن التقرير الذي نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، ربط بين المؤامرة السعودية الإماراتية، وقضية مقتل خاشقجي، والتصعيد التركي الذي استهدف محمد بن سلمان، لكن أبعاد المعركة تذهب إلى ما قبل قتل الصحفي السعودي.

برز ذلك في أزمة الليرة التركية التي اندلعت في منتصف العام الماضي. وفي 13 أغسطس/ آب 2018، قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إن “هناك بلدان عربيان يقفان وراء الحملة التي استهدفت الليرة التركية أخيرا، وأدت إلى هبوطها الحاد مقابل الدولار”.

ورفض تشاووش أوغلو في مقابلة تلفزيونية مع قناة محلية تسمية هاتين الدولتين، في رده على سؤال المذيع، بشأن ما إذا كانت السعودية إحداهما.

وأوضح الوزير التركي أن “التدابير التي اتخذتها بلاده على المستوى الاقتصادي أسهمت في تخفيف حدة ما وصفها بالهجمات الاقتصادية ومحاولات حرق تركيا عبر الاقتصاد”.

وأضاف: “هذه الهجمات التي تأتي بعد فشل المحاولة الانقلابية في 2016، ويشكل ارتفاع سعر صرف الدولار واحدة من أوجهها، حيث تقف وراءها مؤسسات مالية كبرى ودول، من بينها دولتان إسلاميتان ودول أعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو)”.

وقال: “من يقف وراء هذه المحاولات رأوا أن الاقتصاد التركي ينمو والصادرات تزيد، فأرادوا حصر تركيا في الزاوية عبر أسعار الصرف”.

 

دعم بي كا كا

في مايو/ آيار 2018، قال رئيس المكتب السياسي في لواء “المعتصم” التابع للجيش الحر السوري، مصطفى سيجري: إن “السعودية والإمارات قدمتا مساعدات مالية لتنظيم (ي ب ك/ب ي د) الذراع السوري لمنظمة بي كا كا الإرهابية في سوريا، وصلت إلى مليار دولار”.

وخلال حديثه مع صحيفة يني شفق التركية، أكد سيجري أنّ وزير الدولة السعودي ثامر السبهان، يعتبر عرّاب تقديم الدعم المالي الباهظ لذراع بي كا كا الإرهابيّ في سوريا.

مؤكدًا أن الدعم الخليجي بعمومه للجيش السوري الحر والمعارضة السورية المسلحة انقطع اعتبارًا من مطلع العام 2016، وبالمقابل لم تبق سوى تركيا ودول قليلة ظلت تدعم الجيش السوري الحر.

سيجري أكد أيضًا أن الدعم السعودي الإماراتي لتنظيمات بي كا كا الإرهابية، لم يعد سرا كما كان قبل العام 2016، بل بات على العلن تحت مسمى محاربة تنظيم الدولة، مشيرًا إلى أن الدعم يأتي على النطاق العسكري والمالي، والتدريبات، والأدوية والمواد الغذائية.

هذا فضلا عن إكساب تلك التنظيمات غطاء سياسيًّا من قبل السعودية والإمارات، واللتين تعهدتا للولايات المتحدة بدعم تلك التنظيمات.

وفي نفس الشهر أثار اجتماع ضباط سعوديين وإماراتيين وأردنيين بقيادات فصائل عربية تقاتل ضمن قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل الوحدات الكردية نواتها الرئيسية، أسئلة عن الرسائل التي تسعى الأطراف العربية لإيصالها لتركيا التي تحارب هذه القوات وتصفها بـ”الإرهابية”.

والاجتماع الذي عقد في قاعدة “خراب عشك” الأمريكية القريبة من مدينة عين العرب “كوباني”، استمر لـ 24 ساعة، واجتمع خلاله ضباط من الدول الثلاث مع قيادات “قوات سوريا الديمقراطية” بهدف وضع اللمسات الأخيرة على تشكيل قوة عربية تكون بمثابة حرس حدود على طول الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا.

المناسبة الأكثر فداحة لإبداء عداء محور الرياض وأبوظبي والقاهرة ضد أنقرة، كانت يوم الانقلاب العسكري الفاشل في 15 يوليو/ تموز 2016.

شبكة “سكاي نيوز” الإخبارية بالإمارات هي من نشرت شائعة هروب الرئيس التركي خارج البلاد واحتفت وسائل إعلام خليجية بالمحاولة الانقلابية، وتداولت خبر سيطرة الجيش التركي على الحكم، قبل أن يتم إعلان وأد المحاولة فيما بعد.

وفي 6 مارس/آذار 2019، طالبت قناة العربية الإخبارية السعودية التي تبث من مدينة دبي للإعلام، بمقاطعة السياحة التركية، والذهاب إلى تركيا، ووصفت وكالة “الأناضول” التركية الرسمية بـ”الإخوانية”.

في 6 مارس/ آذار 2019 استضافت شاشة “سكاي نيوز عربية” المملوكة لشركة أبوظبي للاستثمار الإعلامي في حلقة بعنوان “تركيا والاتحاد الأوروبي.. طريق الانضمام المسدود” مدير الأبحاث في مؤسسة العرب بلندن غسان إبراهيم الذي قال: “الاتحاد الأوروبي لن يقبل تركيا طالما الدكتاتور أردوغان يحكمها”.

 

تركيا القوية

في يوليو/ تموز الماضي، خلال حوار أجراه مع صحيفة “الراية” القطرية، قال ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان: إن “بلاده لن تطوي ملف اغتيال الكاتب السعودي جمال خاشقجي”. متهما السعودية بالتستر على المجرم الحقيقي.

وقال أقطاي في معرض جوابه عن سؤال “أين وصل ملف اغتيال الكاتب السعودي جمال خاشقجي؟”: “لا يزال الموضوع يحظى بالصفة القانونية، ونحن مصرّون على طلب فريق الاغتيال للتحقيق معه في تركيا، حيث وقعت الجريمة، ونريد خطوات جادة من السعودية لمساعدتنا في ذلك، لكن انطباعنا أن السعودية لا تريد محاكمتهم محاكمة عادلة لإظهار الحقيقة، ونحن نعلم أن كثيرا من المتهمين يعيشون أحرارا”.

وأضاف: “نعلم جيدا أن فريق الاغتيال هو الذي نفذ الجريمة، لكن هناك من خطط لها وأمر بتنفيذها وأرسل كبار مساعديه لتنفيذها فوق الأراضي التركية لإحراجنا، كما أننا نعلم أن السعودية تتستر على المجرم الحقيقي، ونقول لهم إننا لن نطوي هذا الملف، ونحن بصدد تجهيزه، ونجري تحقيقات مستمرة وسرية، وما يعيقنا هو أن المجرمين ليسوا في تركيا”.

ورغم حملات الدعاية السلبية التي تقودها السعودية والإمارات، ضد السياحة التركية، قال وزير السياحة التركي محمد نوري أرصوي في 15 مايو/ آيار 2019: إن “عدد السياح الأجانب الوافدين إلى بلاده ارتفع بـ24%”.

وأوضح أرصوي في بيان صادر عن وزارة الثقافة والسياحة التركية، أن “السياح الألمان تصدروا قائمة الأجانب الوافدين إلى تركيا خلال الشهر الماضي، إذ بلغت نسبتهم 48% من إجمالي السياح الأجانب”

وأضاف أن “السياح الروس احتلوا المرتبة الثانية بنسبة 34%، تلاهم السياح البريطانيون في المرتبة الثالثة بـ31%”. ونهاية يناير/كانون الثاني 2019، أعلنت وزارة السياحة التركية أن “عدد القادمين إلى البلاد خلال 2018 بلغ 46 مليونا و112 ألفا و592 سائحا”.

براءت ألبيرق وزير المالية، قال الشهر الماضي: “من المتوقع أن يزور ما يزيد عن 50 مليون سائح تركيا في 2019”. وتهدف تركيا لاستقطاب 70 مليون سائح بحلول 2023، وجذب عوائد مالية من القطاع السياحي بقيمة 70 مليار دولار.