قبل دخول شهر رمضان، نشرت وزارة الشؤون الإسلامية السعودية مجموعة من القواعد التي يفترض أن تلتزم بها المساجد في جميع أنحاء المملكة خلال الشهر المبارك، وكان من بين هذه القواعد “منع المساجد من بث الصلوات على وسائل الإعلام” “والالتزام بجعل “الأدعية قصيرة”.

وكانت وسائل الإعلام السعودية تبث الصلوات من الحرمين عادة، وكان الملايين يشاهدونها حول العالم كجزء من روح رمضان، وتكثر القصص عن المسلمين الذين يتأثرون ويدمعون مع أدعية أئمة الحرمين.

 

ارتباك وغموض مقصود

ولم يسمح الإعلان على موقع الوزارة بأي إعفاءات، مما أدى إلى تساؤلات حول ما إذا كان الحرمين الشريفين ضمن الحظر المفروض. وصمت مكتب إدارة الحرمين بشكل لافت، بالرغم من تصاعد الغضب العام بسرعة والانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي. وبينما رأى بعض السعوديين عبر الإنترنت أن التوجيه يشمل البث على وسائل التواصل الاجتماعي، أشار المنتقدين إلى كلمات الإعلان حيث تم استخدام لفظ “الوسائل الإعلامية”، وليس “مواقع التواصل الاجتماعي”.

وكان بث الصلوات فرصة للفت الانتباه حول الأئمة المؤثرين. وكان الراحل الشيخ “محمد أيوب” والشيخ “علي بن عبدالرحمن الحذيفي”، وهما الإمامان اللذان أصبحا مرتبطين بإمامة الصلاة في المسجد النبوي، يؤمان الصلاة في مسجد قباء، كما يعتقد أن “السديس” نفسه قد “اكتُشف” عندما كان يؤم الصلوات خلال شهر رمضان في العاصمة السعودية الرياض. ولكن بموجب مرسوم ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان”، سيتم حظر بث هذه التلاوات.

ويرى الكثيرون أيضا أوجه تشابه بين المرسوم الجديد والحظر الذي فرضه “بن سلمان” العام الماضي على استخدام مكبرات الصوت في المساجد أثناء الصلوات، فقد كان إعلان العام الماضي غامضا وتسبب في ارتباك في صلوات الجمعة، وتم الإعلان عن الاستثناء فقط في يوم الجمعة التالي بعد انتقاد التوجيه بشكل عنيف وواسع من السعوديين.

واشتكى المصلون من عدم القدرة على سماع الخطبة أو اتباع الإمام خلال الصلاة في الحرمين، ولكن رغم إعلان الاستثناء في تلك الجمعة، احتفظ “بن سلمان” بالحظر على جميع المساجد الأخرى. ويبدو أن “بن سلمان” كان يختبر الأجواء فقد جعل القرار غامضا من أجل السماح له بالتراجع عبر إعفاء الحرمين وإبقاء الحظر الأوسع على جميع المساجد الأخرى.

 

نزع أسلمة السعودية

لا يتجلى “نزع الصبغة الإسلامية” الذي يقوم به “بن سلمان” فقط في تقييد بث الصلاة وأدعية رمضان ومنع المساجد من استخدام مكبرات الصوت، بل يتضح أيضًا في سلسلة من المبادرات التي اتخذها “بن سلمان” منذ توليه السلطة، والتي يبدو أنها مدفوعة بالرغبة في إبعاد الإسلام عن المجالات السياسية والاجتماعية في السعودية وإعادة تعريف الهوية السعودية كهوية قومية خالية من الحماس الديني الذي كان سمة مميزة للسعودية على مدار الـ90 عاما الماضية.

ومنذ أن أصبح “بن سلمان” وليا للعهد في عام 2017، سعى لدعوة الفنانين غير المحتشمين لعقد الحفلات الموسيقية وكسر تابوهات المملكة. ووجهت الهيئة العامة للترفيه التي يقودها “تركي آل الشيخ” حفيد مؤسس الحركة الوهابية والمقرب من “بن سلمان”، دعوة لـ”نيكي ميناج” و”ماريا كاري” لإحياء الحفلات في المملكة في عام 2019، كما دُعي “ديفيد جيتا” و”بيتبول” لإحياء سلسلة حفلات في الصحراء في عام 2021، وافتتحت جدة مؤخرا أول شاطئ بيكيني، وبدأت الحكومة في الضغط من أجل إنشاء ثقافة ملاهٍ ليلية رسمية.

كما غيرت وزارة التعليم من المناهج الدراسية للحد من الساعات التي تنفق بشكل كبير على دراسة الإسلام والقرآن واللغة العربية، لصالح الموضوعات التي يعتقد “بن سلمان” أنها ترتبط أكثر بـ”التفكير النقدي”. سعت المملكة أيضًا لاستضافة الفعاليات الرياضية رفيعة المستوى من أجل تقديم صورة للمملكة بـ”الانفتاح”، وتشمل هذه الفعاليات استضافة سباق “الفورمولا 1 جراند بريكس”، وبطولات الجولف الدولية، و”مصارعة “WWE، وغيرها.

أما هذا العام، فقد أعلن “بن سلمان” عن عطلة وطنية جديدة للاحتفال بتأسيس المملكة. وبدلا من الاعتراف بأن عام 1744 هو عام تأسيس المملكة السعودية الأولى – الذي اتفق عليه المؤرخون – اعتمد بن سلمان تاريخ 1727، مما يرجع تأسيس المملكة إلى ما قبل ظهور الشيخ “محمد بن عبد الوهاب”، الذي أدى تحالفه مع حاكم منطقة الدرعية إلى تحول في شبه الجزيرة العربية.

وبعبارة أخرى، قام ولي العهد بتغيير التاريخ لمسح الدور الديني المركزي لـ”عبدالوهاب” والتأكيد على أن إنشاء المملكة كان مسعى قومي فريد قام به سلفه “محمد آل سعود”. علاوة على ذلك، فإن الشعار الذي اختاره “بن سلمان” لإحياء ذكرى التأسيس لا يتضمن أي إشارة إلى الإسلام، حتى أن “الإنفوجراف” الذي روجت له الحكومة يقدم صورة للعاصمة التاريخية “الدرعية” تبدو فيها خالية من أي مآذن إسلامية.

 

حقيقة “الإصلاحات”

يثير استخدام وزارة الشؤون الإسلامية لكلمة “الوسائل الإعلامية” بدل “مواقع التواصل” الشكوك حول نية السلطات السعودية. ويبدو أن المملكة تحاول حصر تأثير الإسلام في كل من مكة والمدينة وحظر تأثير جميع المساجد الأخرى على امتداد البلاد.

وبعد الإعلان المتأخر عن استثناء الحرمين، شرعت الحكومة في التأكيد على حظرها استخدام مكبرات الصوت لجميع المساجد الأخرى، مما أدى إلى تخييب الآمال التي أشارت إلى أنها قد تقوم بعمل استثناء في الشهر الكريم.

ومع ذلك، فإن القضية المطروحة هي أكثر من مجرد محاولات لنزع الصبغة الإسلامية عن السعودية، حيث تظهر الإصلاحات التي ينفذها “بن سلمان” في شكل حفلات موسيقية وشواطئ بيكيني وترفيه عام، بينما لا يوجد إشارة لأي إصلاحات فيما يتعلق بالحقوق الأساسية والحريات والمشاركة المدنية والسياسية والعملية الديمقراطية والإصلاح المؤسسي.

وفي حين أن “بن سلمان” يصور حفلاته كدليل على “انفتاح” المملكة، فإن مساحة المشاركة السياسية والحقوق المدنية تغلق بوحشية؛ فقد سجن عدد هائل من المعارضين دون محاكمات عادلة، وأصبحت حرية وسائل الإعلام أكثر تقييدا ​​من أي وقت مضى.

وبحسب التقارير؛ يتعرض السجناء السياسيين لأشكال مختلفة من التعذيب، فيما تزايد الإعدام الجماعي واختفاء الصحفيين. لم تقتصر هذه الانتهاكات على التوجهات الإسلامية، وإنما امتدت عبر الطيف السياسي لإخماد التفكير النقدي والمعارضة في المملكة.

وبعبارة أخرى، فإن “الإصلاحات” ليست حول تحرير السعوديين، بل حول “الترفيه” عن السكان السعوديين ليصبحوا خاضعين، كما أن الإصلاحات لا تتعلق بتشجيع الحقوق الفردية للسعوديين، ولكن لتشجيع السعوديين على الرقص حتى الدوار فيما يشدد “بن سلمان” السلاسل حول حقوقهم دون عواقب ويقضي على آخر المكابح المتبقية أمام سلطته المطلقة. بعبارة أخرى، هذه الحفلات الموسيقية ليست “انفتاحًا”، بل “تجديدًا لديكور” السجن الذي فرضه “بن سلمان” على البلاد ويسعى إلى تعزيزه.

ولا يعني ذلك أن السعودية كانت مثالية قبل ظهور “بن سلمان”، فقد كان تفسير المملكة الصارم للإسلام موضوع انتقادات لا نهاية لها في جميع أنحاء العالم الإسلامي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بحقوق المرأة.

ومع ذلك، فإن ما يبحث عنه “بن سلمان” ليس إصلاح التفسيرات الصارمة التي يعتقد الكثير من المسلمين أنها غير متسقة مع القرآن وتعاليم النبي “محمد”، ولا يسعى لتحرير النساء من هذه التأثيرات الصارمة، بل إن ما يسعى إليه “بن سلمان” هو تقييد النفوذ الديني للملكة وحصره على مكة والمدينة.

محليًا، يقوم “بن سلمان” بإغراء السعوديين عبر الهيئة العامة للترفيه ورفع صوت الحفلات الموسيقية في الوقت الذي يجري فيه حظر استخدام مكبرات الصوت في المساجد. أما دوليا، فهو يقوم بتسويق ذلك باعتباره جزء من الحرب على التطرف وكخطوة ضرورية في طريق فصل الدين عن الدولة. ويبدو أن “بن سلمان” يكتسب زخما على كلا الجبهتين.