على نطاق واسع، انتشرت فتوى من “لجنة الافتاء السعودية” تعد ما يسمى “البيت الإبراهيمي” الذي بنته الإمارات، ويدعو ضمنا لوحدة الأديان من خلال بناء مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد، بمثابة “كفر وضلال، وردة عن الإسلام”.
وافتتحت الإمارات هذا المكان في 16 فبراير/ شباط 2023، ويضمّ كنيسا يهوديا بجانب مسجد وكنيسة، وزعمت أبوظبي أن الخطوة تستهدف تعزيز الحوار بين الأديان في الدولة الخليجية.
وأطلق على الأماكن الثلاثة اسم مسجد فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب، وكنيسة قداسة البابا فرانسيس، وكنيس موسى بن ميمون.
دلالات الفتوى
وبحسب رصد “الاستقلال”، كان أول وأبرز من روجوا للفتوى ونشروها على نطاق واسع عبر مواقع التواصل، ناشطون سعوديون.
نشروا الفتوى تحت عنوان شبه موحد يقول “السعودية تحسم قصة البيت الإبراهيمي أو الدعوة الإبراهيمية”، ما يشير لدلالات وراء هذا النشر المكثف ربما أبرزها استمرار الخلافات بين الرياض وأبوظبي.
وفي أوائل فبراير 2023 اندلع خلاف سعودي إماراتي وتراشق بين كُتاب محسوبين على البلدين حول من الأحق بقيادة محور عربي جديد في المنطقة بعد تراجع الدور المصري؟ الإمارات أم السعودية؟
ترويج الفتوى السعودية الرسمية، في هذا التوقيت، وعقب أسبوعين فقط من افتتاح الإمارات، ما يسمى “بيت العائلة الإبراهيمية”، الذي يضم مسجدا وكنيسة ومعبدا يهوديا، في 16 فبراير 2023، لا يبدو اعتباطيا.
الأخطر أن الفتوى توجه بذلك اتهاما للإمارات بأنها تحرض على الردة على الدين وهدم الإسلام، ما يضرب صورتها التي تسعى لتقديمها لنفسها أمام العالم حاليا كزعيمة للعالم العربي، بدل مصر، والعالم الإسلامي، بدل السعودية.
وكان شيخ الأزهر أحمد الطيب غاب عن حضور افتتاح البيت الابراهيمي، لكن ناشطون مصريون هاجموه مع ذلك وقالوا إنه أرسل مندوبا عنه هو رئيس جامعة الأزهر السابق الشيخ محمد المحرصاوي.
وجاء نص الفتوي التي نُشرت على المواقع الإلكترونية في 27 فبراير 2023 نقلا عن موقع مجلس الإفتاء السعودي حول الدعوة لوحدة الأديان، تحت رقم (19402) وبمراجعة “الاستقلال” لموقع رئاسة الإفتاء، تبين أنها قديمة وتعود إلى عام 1997.
إذ صدرت عن إدارة البحوث العلمية والإفتاء (الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء) السعودية بتوقيع الرئيس العام ومفتي عام المملكة الأسبق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (توفي 14 مايو/أيار 1999).
في حين أن رئيس الهيئة الحالي هو عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ منذ عام 2003.
لكن إعادة نشر الفتوى على نطاق واسع عبر الحسابات السعودية خصوصا، والعربية عموما، أثار تساؤلات حول سبب استحضارها الآن وهل للأمر علاقة بالخلاف السعودي الإماراتي في ظل استشعار المملكة منافسة الإمارات لدورها الديني كمقر للحرمين الشريفين؟
ناشطون أشادوا ببيان لجنة الإفتاء السعودية وقالوا إنه يفضح الرئيس الإماراتي محمد بن زايد، حتى ولو جاء الترويج للفتوى القديمة مجددا “تحت الطلب” في ظل سوء العلاقات بين الرياض وأبوظبي.
وتقول الفتوى السعودية الصادرة عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء عام 1997 إن الدعوة إلى “وحدة الأديان” والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد، دعوة خبيثة ماكرة، وأن الغرض منها خلط الحق بالباطل، وهدم الإسلام وتقويض دعائمه، وجر أهله إلى ردة شاملة.
وتؤكد أن الدعوة إلى وحدة الأديان، إن صدرت من مسلم فهي تعد ردة صريحة عن دين الإسلام، لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد، فترضى بالكفر بالله عز وجل، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الشرائع والأديان.
وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعًا، محرمة قطعًا بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع، وفق الفتوى.
وأشارت إلى أنه لا يجوز لمسلم الاستجابة لدعوة بناء مسجد وكنيسة ومعبد في مجمع واحد لما في ذلك من الاعتراف بدين يُعبد الله به غير دين الإسلام، وإنكار ظهوره على الدين كله.
أيضا أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومقره قطر، بيانا ينتقد فكرة الدين الإبراهيمي الإماراتية ويصفها بأنها “باطلة والتطبيع مرفوض”.
ونشر رئيس الاتحاد “علي القره داغي” البيان الصادر بالتعاون مع رابطة علماء المسلمين ورابطة المغرب العربي، بخصوص الدين الإبراهيمي الجديد الذي اعتمدته الإمارات عبر موقعه على تويتر، مؤكدا أنه شاركت فيه تسع عشرة دولة.
أكد البيان أن أساس فكرة الدين الإبراهيمي يقوم على المشترك بين عقيدة الإسلام وغيره من العقائد وهي فكرة باطلة.
فالإسلام إنما يقوم على التوحيد والوحدانية وإفراد الله تعالى بالعبادة بينما الشرائع المحرفة قد دخلها الشرك وخالطتها الوثنية والتوحيد والشرك ضدان لا يجتمعان
كما أن الزعم بأن إبراهيم عليه السلام على دين جامع للإسلام واليهودية والنصرانية زعم باطل ومعتقد فاسد، وفق البيان.
وشدد على أن السعي لدعم اتفاقات أبراهام للتطبيع والتَّركيع عَبْر تسويق لدينٍ جديد يؤازر التطبيع السياسي هو أمر مرفوض شكلا وموضوعا وأصلا وفرعا.
غضب إماراتي
بسبب دلالات الفتوى السعودية التي تتهم الإمارات ضمنا بترويج الكفر والضلال من خلال “البيت الإبراهيمي”، سارعت أبواق ولجان أبوظبي للتعليق بغضب ونفي أن تكون تدعو لدين إبراهيمي جديد بدل الإسلام.
الأكاديمي الإماراتي عبد الخالق عبد الله، علق على الفتوى السعودية نافيا تبشير بلاده “بديانة إبراهيمية جديدة بل بيت العائلة الإبراهيمية الذي يدعو للحوار والتعايش بين أصحاب الأديان الثلاثة”.
ووصف الأكاديمي المقرب من رئيس البلاد محمد بن زايد، من يهاجمون الإمارات بأنهم أصحاب “عقول مريضة وخبيثة”
أيضا انبرى علي راشد النعيمي، رئيس لجنة شؤون الدفاع والداخلية والخارجية في المجلس الوطني الاتحادي، وأحد أبرز المدافعين عن التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي، للدفاع عن موقف الإمارات.
حاول “النعيمي” نسف الفتوى بالزعم أنها صدرت قبل 26 عاما “بشأن ما يسمى بالدين الإبراهيمي”.
وصف ربط فتوى الكفر والضلال، بالبيت الإبراهيمي الذي افتتحته الإمارات بأنه “كذب وتدليس لخداع الأمة واختطاف عقول أبنائها ونهج المؤدلجين”.
وكرر النعيمي مع عبد الخالق نفس التبرير الإماراتي أن “بيت العائلة الإبراهيمية رسالتنا للعالم لتعزيز قيم التعايش والمحافظة على السلم الاجتماعي وتحقيق السلام وترسيخ القيم الإنسانية التي أجمعت عليها الأديان السماوية بين البشر”.
صحفيون وكتاب إماراتيون شاركوا أيضا في الدفاع عن “البيت الإبراهيمي” مستندين لمواقف علماء سعوديين حاليين منهم أمين عام رابطة العالم الإسلامي محمد العيسى الذي يدعم التطبيع.
وهاجم الصحفي الإماراتي “محمد تقي” ضمنا من يتدخلون في شؤون أبوظبي وينتقدون افتتاحها “البيت الإبراهيمي”، قائلا في “رسالة إلى من يهمه الأمر”: إن “الإمارات دولة ذات سيادة”.
ودخلت اللجان الإلكترونية الإماراتية بثقلها للدفاع عن أبوظبي في مواجهة الفتوى السعودية بعدما أدت لتصاعد الحملة على محمد بن زايد، رغم تأكيدهم أن تاريخها قديم.
ووجهوا السباب لمعارضي الإمارات مؤكدين أن “البيت الإبراهيمي لا يدعو لوحدة الأديان ولكن لوقف الصراعات الدينية”.
مراقبون عدوا الخناقة السعودية الإماراتية الجديدة حول “الدين الإبراهيمي” و”البيت الإبراهيمي” امتدادا للخلاف الذي نشب بين نفس رموز البلدين أوائل فبراير 2023.
وبرز خلاف وقتها حول ما سمي “محورا عربيا جديدا” قالت الإمارات إنها ستقوده وسخرت من ذلك الأبواق السعودية الرسمية.
أستاذ بجامعة الأزهر فضل عدم ذكر اسمه أوضح لـ “الاستقلال” أن هناك بوادر صراع ظهر منذ فترة بين الإمارات والسعودية حول قيادة العالم الإسلامي، ومن يقدم التفسيرات “العصرية” للإسلام.
أشار إلى سعي كلا النظامين الحاليين في المملكة وأبوظبي لنيل رضا الغرب كي يكون هو النظام المعتمد دوليا لزعامة ما يسميه الغرب “الإسلام المعتدل”، والذي يقصد به إسلام شعائر بلا شريعة.
الخبير السياسي والإعلامي المصري أحمد جعفر يرى أن الأمر له علاقة بالخلاف الجوهري بين السعودية والإمارات، وما يسمى “مجلس حكماء المسلمين” الذي دشنته أبوظبي من قبل في محاولة لزعامة العالم الإسلامي، ومنافسة علماء المملكة.
أوضح لـ “الاستقلال” أن ترويج السعودية للفتوى القديمة ليس أمرا عفويا، بل أمر مقصود من جانب “لجانها على السوشيال ميديا من أجل نقل رسالة للإمارات أن المملكة هي منبع حماية هذا الدين”.
نوه أن المسألة “صراع حول النفوذ” لكن هذه المرة حول النفوذ الديني ومن يقود العالم باسم “الإسلام المعتدل”.
ويصف أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة حسن نافعة “الدين الابراهيمي الجديد” الذي تتزعم الامارات الدعوة إليه بأنه “مشروع سياسي يستخدم كغطاء لتبرير التطبيع مع اسرائيل ولا علاقة له بالرغبة في الحد من الصراعات الدينية”، وفق الادعاء الإماراتي.
خلفيات الأزمة
وقبل ذلك انطلق أوائل فبراير 2023 تراشق إعلامي آخر بين كتاب ومسؤولين سعوديين مع نظرائهم الإماراتيين حول من يقود العالم العربي.
شارك فيها أيضا الإماراتي، عبد الخالق عبد الله حين غرد في 5 فبراير 2023 يعلن انتهاء المحور الرباعي بين السعودية ومصر والبحرين والإمارات وقيام محور جديد تقوده أبوظبي ويستبعد الرياض.
وعقب هجوم سعودي قاده بشكل أساسي رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية سليمان العقيلي على ما قاله عبد الخالق، حذف الأخير التغريدة التي كتبها.
ظهر من تغريدة عبد الخالق المحذوفة أن الإمارات تسعى لتشكيل محور مع مصر لمواجهة السعودية بعد تصاعد خلافاتها معها، وتقارب الرياض مع الدوحة أيضا.
نعى عبد الخالق عبد الله ما أسماه بالمحور الرباعي (الذي تشكل ضد قطر عام 2017) وعده جزءا من الماضي معلنا عن تأسيس محور جديد وذلك باستبعاد السعودية من الأول وإضافة الأردن وقطر وعمان إلى الجديد.
ولقيت تغريدة عبد الله هجوما واسعا من معلقين، واتهمه مغردون بمحاولة إحداث فتنة عبر تجاهله السعودية، وتصوير الإمارات على أنها قائدة الأمة العربية.
وحذر رئيس تحرير صحيفة الوطن السعودية سليمان العقيلي بوضوح من أن أي محور ضد الرياض سيكون وبالا على أصحابه وقال إن “تشكيل المحاور ضدنا قديم ومأساوي”.
قال في تغريدة على حسابه في تويتر إن كل المحاور “فشلت في هز صلابة المملكة، بل قزمت أصحابها وأسقطتهم من عروشهم”، واختتم تغريدته بالقول في رسالة مباشرة موجهة للإمارات: “ننبه لخطورة تكرار التجارب المأساوية”.
وعقب حذف عبد الخالق التغريدة، حاول أنور قرقاش المستشار السياسي للرئيس الإماراتي تبريد الأزمة فانتقد ما أسماه “التجاذب في وسائل التواصل الاجتماعي حول محاور وتغيرات السياسة العربية”.
وعده “وضعا غير صحي ويفتح الباب للانقسام والفرقة”، وشدد على أن مصر والسعودية محور توجهات ومواقف بلاده.
وفسر الكاتب خالد الجبري هذا التناوش بين السعودية والإمارات بقوله إنه في واشنطن، يتهامس الكثير عن تصدع زواج المنفعة الإماراتي السعودي بسبب تنافر المصالح (اليمن، أوبك) وعقلية المعادلة الصفرية في التنافس الاقتصادي والسياسي.
أوضح أن آخر مظاهر هذا التصدع، غياب الشيخ محمد بن زايد عن القمة الخليجية الصينية (ديسمبر/كانون الأول 2022 في الرياض). وبين أنه حتى زيارات رئيس مجلس الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد للتأثير على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان صارت بلا جدوى.
وكان ملفتا في ظل التراشق الإعلامي السعودي المصري، تصاعد الحديث عمن سيقود العرب حاليا بعد ضعف دور مصر، وتركيز خليجيين على أنهم هم من سيقود أي محور أو قيادة الأمة العربية ككل.
وأكد عبد الخالق عبد الله لقناة “الحرة” الأميركية في 4 فبراير 2023 أن قيادة الأمة “خليجية” حتى إشعار آخر.
أضاف: “هذا ليس تنطعا ولا ادعاء ولا تفلسفا لكن الوقائع تشير إلى ذلك”. وقد أبرز عبد الخالق ها التصريح على حسابه على تويتر مع احتدام الحديث حول من يقود الأمة والتراشق المصري السعودي.
وأضاف له عبارة: “وهي مسؤولية لمواجهة قوى الفوضى تتحملها عواصم خليجية في مقدمتها الرياض وأبوظبي”.
وتسعى الإمارات للعب دور ديني مزدوج يقوم: “إسلاميا” على تقديم ما يمكن تسميته “الإسلامي الأميركي” الذي سبق أن دعا له “مركز راند” الأميركي للأبحاث عام 2007 تحت اسم “بناء شبكات إسلامية معتدلة”.
فكرة الشبكات الإسلامية لبناء هذا “الإسلام الأميركي المعتدل” تقوم على تشجيع مظاهر التدين وليس جوهره أو شريعته، والسعي في المقابل لإظهار ما يسمى “الإسلام السياسي”، أو التيارات التي تتمسك بالشريعة على أنها تيارات عنيفة.
أيضا قال الكاتب الفرنسي “جورج مالبرونو” في مقال بصحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، فبراير 2019 إنه ضمن هذا الدور الإماراتي كمركز لما يسمى “الإسلام المعتدل”، تحارب أبوظبي الإسلاميين خاصة الإسلام السياسي.
وصف محاربة “الإسلاميين” بأنه أصبح “هوسا لدى أبوظبي”، كي لا يعرقلوا دورها.
أوضح هذا أيضا الكاتب البريطاني الخبير في شؤون الشرق الأوسط “جيمس دورسي”، في تقرير نشره بموقع Your Middle East في 11 فبراير 2015، أكد فيه أن الإمارات تروج عالميا لـ “علامتها التجارية من الاستبداد”، بوصم “الإسلام السياسي” بأنه “عنيف ويجب حظره” لإخلاء الطريق لنفسها.
قال إن الإمارات تسعى عبر “شبكة” تدعمها لتوسيع وبسط نفوذها الإقليمي عبر “القوة الناعمة” كقوة إسلامية معتدلة، و”تحقيق القبول العالمي بتعريفها الاستبدادي للإرهاب الذي تقصد به الإسلام السياسي”.
وفي سياق المحاولات الإماراتية لتدجين القادة الدينيين وربطهم بالحكومات، وإنشاء ما يسمى “المسلم المعتدل”، الذي يرتبط بالطقوس والعادات الدينية دون جوهر وقواعد الشريعة الإسلامية، أنشأت مجلسها “حكماء المسلمين”.
ويلخص الكاتب البريطاني والخبير بشؤون الشرق الأوسط ديفيد هيرست، في مقال بموقع “ميدل ايست أي”، قصة النشاط الإماراتي في استضافة مؤتمرات إسلامية ومسيحية بقوله إن الهدف هو “توظيف الإسلام لصالحهم”.
أوضح أن ما يخشاه حكام الإمارات هو ما يطلق عليه اسم “الديمقراطية”، والربيع العربي ويتدخلون بقوة في العالم العربي ضد الإخوان المسلمين والتيارات الاسلامية لإفشالها في الانتخابات أو دعم الانقلابات ضدها.