بات جليا أن الرئيس الأميركي حريص على فتح ثغرات في جدار الحصار والاتهام الذي يحيط بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وحلحلة حبل الإدانات والأدلة التي تضيق حول عنق الأمير الشاب الذي صرح ذات مرة أن لا شيء سيحول بينه وبين الملك غير الموت، ثم جاء موت خاشقجي المثير ليضع أسئلة كبيرة حول مستقبل الأمير الطامح لخلافة والده.

تصريحات ترامب المتسارعة بشأن بن سلمان تسعى كما يرى مراقبون كثر إلى محاولة إنقاذ الرجل وقطع الطريق أمام اتهامه، وعلى الضفة الأخرى يعمل الأمير وفق ما يتهمه به مشرعون أميركيون إلى إلباس التهمة لعناصر محددة وإرسالهم إلى مقصلة الإعدام من أجل “إعدام الأدلة” وتغييب الشهود.

لماذا التشبث؟
منذ الأيام الأولى لحادثة اغتيال خاشقجي، بدأت أصابع الاتهام توجه من طرف الإعلام وعدد من المشرعين الأميركييْن نحو ولي العهد السعودي، قبل أن ترسو سفينة وكالة الاستخبارات المركزية (سي أي أي) أخيرا على اتهامه بالمسؤولية عن عملية القتل وفقا لما نقلته وكالات أنباء وكبريات الصحف الأميركية.

بيد أن ترامب ظل يمسك العصا من المنتصف، يندد بما تعرض له خاشقجي من تقتيل وتقطيع، ولكن يرفض توجيه اللوم إلى حليفه بن سلمان، وينحو في أحيان عديدة إلى تبرئته. وفي بيانه الأخير ترك الباب مواربا، وأشار إلى احتمال أن يكون على علم بالحادثة ويمكن ألا يكون على علم بها، في معاكسة للنبض العام في الولايات المتحدة الذي يلقي باللوم على ولي العهد.
ويمكن التوقف عند الأسباب التالية لتفسير أسباب تشبث الرئيس ترامب بولي العهد السعودي رغم الضغوط المتصاعدة عليه:

– الصفقات المليارية: دأب ترامب على المراوحة بشكل دائم بين نقد السعودية ومدحها، بين التأكيد على أنها لا تستطيع الصمود في غياب الحماية الأميركية، وتعداد أفضالها عليه. ومنذ اندلاع أزمة اغتيال خاشقجي اختار التركيز على ما قدمته السعودية من أموال واستثمارات وفرص توظيف للولايات المتحدة.

وخلال بيانه الأخير ذكر ترامب بالصفقات المليارية التي وقع عليها بعد زيارته الرياض في 2017، والتي تجاوزت أكثر من 400 مليار دولار.

– العلاقات الخاصة: وإذا كان المال هو المفتاح الأساسي بالنسبة لترامب فلا يمكن أيضا إغفال العلاقات العائلية التي ربطها بن سلمان مع أسرة ترامب وخاصة مع ابنته إيفانكا وزوجها جاريد كوشنر الصديق الشخصي لولي العهد السعودي وعونه الأبرز في معركة ما بعد اغتيال خاشقجي.

– العلاقات مع إسرائيل: وإضافة إلى ذلك فإن المسار الذي بدأه بن سلمان في ملف التطبيع مع إسرائيل -عبر ما يعرف بالترويج لصفقة القرن- يجعل الوجه الصهيوني لترامب يبرز أكثر في الدفاع عن أحد أبرز وأهم الأسماء التي ترددت في ملف جريمة القتل والتجزئة التي تعرض لها صاحب القلم السعودي جمال خاشقجي.

ويحاول ترامب أن يعطي الانطباع للداخل الأميركي أن إزاحة بن سلمان عن واجهة الحكم في السعودية ستفقد إسرائيل من حقق لها في سنتين ما عجزت عن تحقيقه في عقود كثيرة.

– محور ارتكاز: واعتبرت صحيفة نيويورك تايمز أن تصريحات الرئيس ترامب المتتالية بشأن ولي العهد السعودي تمثل شاهدا حيا، ينم عن مدى استثماره في شخص وريث العرش السعودي، الذي أضحى “محور ارتكاز” سياسة الإدارة الأميركية في الشرق الأوسط -من إيران إلى عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية- إلى جانب أن بن سلمان بات “مشتريا مسرفا” للأسلحة الأميركية حتى لو أن عقود الشراء تلك “لا تجدي نفعا”.

ولا تنتهي الأسباب الكثيرة لتشبث ترامب ببن سلمان عند هذا الحد، فالرئيس الأميركي المتهم من أكثر من طرف بمستوى من البساطة والغباء السياسي سيواجه سهاما كثيرة تحمل نيران الاتهام بفقدان البصيرة السياسية وغياب التحليل الإستراتيجي في قراراته بشأن تعميد بن سلمان والاعتماد عليه سندا ومسوقا أساسيا للسياسات الأميركية في المنطقة.

عوائق الاستمرار
مع كل يوم يفقد ترامب وصهره كوشنر الدافع الأخلاقي للتمسك ببن سلمان والدفاع عنه، وتبرز العقبات الواقعية بشكل كبير وصادم تجاه مواقف الداعمين أو المدافعين عن الشاب الطامح للعرش، ومن أبرز تلك العوائق:

– حالة التعبئة والحشد الإعلامي والسياسي الكبيرة في الرأي العام الأميركي والغربي بشكل عام ضد بن سلمان، فهذا الأمير وفقا للعديد من وسائل الإعلام الغربية والساسة الأميركيين بات علامة مسجلة للعنف والعدوان على الحريات والمبالغة في الانتقام من الأقلام الحرة.

– موقف الكونغرس الأميركي -الذي رفع كثير من أعضائه الصوت عاليا ضد أي تساهل مع بن سلمان- أحرى أن تمد له حبال الإنقاذ وسط أمواج الاتهام التي تحيط به من كل جانب.

ولعل ترامب لن يكون حريصا على إطلاق معركة مع الكونغرس خصوصا أنها قد تفقده كثيرا من أنصاره وسنده التشريعي في المؤسسة التشريعية القوية، زيادة على أنها ستنقل أزمة بن سلمان إلى عمق السياسة السعودية مما قد يضعف أو يعصف بحظوظ ترامب في نيل ولاية رئاسة ثانية، خصوصا إذا وقف الديمقراطيون ضده مسلحين بقوتهم الجديدة وأغلبيتهم في مجلس النواب.

– المواجهة مع الإعلام: يواجه ترامب في محاولة تسويق موقفه المهادن لولي العهد السعودي حملة إعلامية تشارك فيها العديد من وسائل الإعلام القوية في الولايات المتحدة، في مقدمتها صحيفة واشنطن بوست العريقة التي كان يكتب فيها الصحفي القتيل، وتخوض هذه الصحيفة بشكل خاص حملة متواصلة لتعرية موقف ترامب أمام الرأي العام الأميركي، بالتوازي مع أخرى ضد ولي العهد السعودي بشكل لا يمكن أن تستره عباءة القضاء السعودي.

– الموقف التركي الصارم والرافض حتى الآن لأي مساومة أو تفاهمات تحت أو فوق الطاولة مستخدما في ذلك ترسانة التسجيلات التي يلقيها بين الحين والآخر لتحرق مع كل تسريب جديد جزءا من جبل الجليد الذي يختفي وراءه بن سلمان وفقا لما تقول صحف غربية.

– الصدام مع الاستخبارات: خصوصا أن وكالة المخابرات المركزية توصلت -وفق ما تداولته مؤسسات إعلامية مرموقة- إلى أدلة تدين بن سلمان بإدارة اغتيال خاشقجي، وكان اللافت أنها حرصت على ما يبدو على تسريب الخلاصة التي توصلت إليها لوسائل الإعلام.

ويعني كل ذلك أن إصرار ترامب على تبرئة ولي العهد السعودي ومواصلة الانحياز له سيضعانه في مواجهة مع الطبقة الأميركية العليا أو ما يعرف بالدولة العميقة الأميركية بمؤسساتها السياسية والتشريعية والاستخباراتية والتي تدفع بقوة نحو إدانة بن سلمان وتطالب بإزاحته عن خلافة والده وإدارة الشأن العام في بلاد الحرمين.
وقد ترك ترامب في بيانه الأخير خط رجعة حين قال إنه على استعداد للقبول بأي أفكار يقدمها الكونغرس إذا حافظت على المصالح الأميركية، ربما خوفا من الانخراط في حالة من الصدام بين مؤسسات جمهورية تتكامل في الولايات المتحدة، وقد يعصف خلافها وصراعها بالرئيس.

وإلى جانب ذلك فإن القيم الأميركية في العدالة وحقوق الإنسان ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة كلها باتت على محك العلاقة مع بن سلمان، وبات الأمير السعودي مسمار أزمة في نظام ترامب بعد أن كان مفتاح طريقه إلى الخزائن السعودية.

وبين سعي ترامب والعقبات التي تعترض طريقه لإنقاذ بن سلمان وإبعاده من فوهة الإعصار، وسعي هذا الأخير للخروج من الأزمة والحصول على براءة تنقذه من دم خاشقجي يضيق الخناق، ويبدو الطريق إلى كرسي الملك أكثر طولا ووعورة في قادم الأيام.

الجزيرة