رصدت أوساط سياسية انسحابا مفاجئا من نظام آل سعود من الملف اللبناني ما أثار التساؤلات في بيروت بشأن مستقبل دعم الرياض لحلفائها وفي مقدمتهم رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري.

وذكرت المصادر أن نظام آل سعود عمد مؤخرا إلى تقليص اهتمامه بالملف اللبناني بعد ما أشارت مصادر إلى حدوث عملية “انسحاب هادئة” للسفيرين السعودي والإماراتي من بيروت.

وأكدت المصادر أن السفير السعودي في لبنان وليد البخاري سلم العهدة الدبلوماسية للقائم بالأعمال، وأبلغه أنه في إجازة طويلة الأمد في الوقت الحالي، وأنه لن يحدد موعد عودته إلى بيروت قبيل “انقشاع الغبار السياسي في المشهد السياسي”.

وأوضح المصدر أنه جرت أيضاً عملية انسحاب هادئ للسفير الإماراتي في بيروت حمد الشامسي، الذي غادر لبنان إلى القاهرة، حيث عُين سفيراً لبلاده هناك.

وشدد المصدر على أن أبوظبي تنوي تقليص بعثتها الديبلوماسية في لبنان وحصر التمثيل من خلال قائم بالأعمال في الفترة المقبلة، وهو ما يعد مؤشراً سلبياً تجاه لبنان وتجاه الحريري، الذي لم يتلق أي رسالة دعم خليجية حتى الآن، لا مباشرة ولا عبر تطمينات دبلوماسية.

وذكر المصدر أن الموقف الخليجي جاء بعد مشاورات ضمت كل من السعودية والإمارات والبحرين، وتوصلت إلى قرار تخفيض بعثاتها الدبلوماسية كرسالة واضحة للبنان والحريري تحديداً.

وتشير هذه المشاورات إلى الإصرار الإيراني إلى الاحتفاظ بالسلطة اللبنانية عبر حزب الله من جهة والتيار الوطني الحر من جهة أخرى، في ظل عرقلة مساعي الحريري لتشكيل حكومة اختصاصيين.

وذكر المصدر أن سنوات من الدعم والاستثمار المالي والسياسي للبنان باءت بالفشل في ظل التمدد التركي الناعم والشعبي في البيئة السنية اللبنانية والتي باتت جاهزة لاحتضانها لو شاءت أنقرة فعل ذلك.

هذا القرار الخليجي بالانسحاب الجزئي من لبنان بشكل هادئ – بحسب المصدر – تم إبلاغه لمراجع سياسية على رأسها رؤساء الحكومات السابقون ودار الفتوى اللبنانية المعنيون بالقرار السياسي والديني في الساحة اللبنانية.

وأكد المصدر أن زيارة مفتي الجمهورية اللبنانية عبداللطيف دريان إلى تركيا، الصيف الفائت، أثارت حفيظة الرياض وأبوظبي وساهمت في تعزيز موقفهما للخروج من المشهد السياسي اللبناني في الوقت الحالي.

ونشرت منذ أيام مقالة في صحيفة “المدينة” السعودية، والتي كانت تبدو كمحاولة سعودية لمغازلة الحريري ودعمه في جهود تشكيل الحكومة اللبنانية تحت عنوان أن الرياض تريد الحريري رئيساً للحكومة اللبنانية المقبلة دون الغوص بتفاصيل التشكيل والأحجام السياسية فيها.

وجرى نشر هذه المقالة من قبل موقع تيار المستقبل والصحف المحسوبة عليه، فيما اعتبرت كرسالة دعم.

لكن سرعان ما تلاشت هذه الفكرة مع سحب المقال من الصحيفة السعودية، بعد 4 ساعات فقط. وهو ما اعتبرته أوساط الحريري تأكيداً سعودياً على مبدأ التخلي عن الحريري ودعمه على الرغم من الوعود الفرنسية التي قطعت للأخير بسعي باريس لثني الرياض عن موقفها الرافض له.

وكانت فرنسا طلبت من واشنطن تَدخلاً لدى الإدارة السعودية للدعم، وذلك لاعتقاد المسؤولين الفرنسيين أن الإدارة الأمريكية هي الأكثر قدرة على إقناع المسؤولين السعوديين بهذا الأمر، نظراً للعلاقة الاستراتيجية التي تربط الرياض وواشنطن.

ويؤكد مصدر أن تواصلاً جرى بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وبين مستشار الرئيس الأمريكي جاريد كوشنر، للتوسط مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، للقبول بالحريري على رأس أي حكومة قادمة ودعمها، ووعد كوشنر بالتوسط، لكنه بحسب المصدر فشل في إقناع محمد بن سلمان.

وكانت أبوظبي بدأت استثمارات سياسية وإعلامية في لبنان منذ سنوات في محاولة ربما لملء الفراغ الذي تركه التراجع السعودي هناك.

وتتحدث مصادر متابعة أنه من غير الواضح مصير هذه المشروعات المرتبطة بدعم مجموعات سياسية معارضة لتيار المستقبل.

وظهر هذا التخبط من خلال الإعلان عن فك الارتباط بين شقيق الحريري الأكبر بهاء، وبين المنتدى السياسي الاقتصادي والاجتماعي برئاسة نبيل الحلبي، والتي كانت الذراع المباشرة لبهاء الحريري في الساحة اللبنانية.

هذا يؤكد نظرية الانسحاب الخليجي من المشهد المحلي اللبناني في ظل الكلام المتكرر عن ارتباط الشقيق الأكبر بهاء برئيس الحرس الوطني الإماراتي طحنون بن زايد ومستشار ولي العهد محمد دحلان.

ويؤكد المصدر حدوث خفض في النفقات بدأته أبوظبي منذ شهرين على مشروعات إعلامية تتخذ من بيروت مقراً لها كموقع “أساس ميديا” المملوك للوزير السابق نهاد المشنوق، بالإضافة لمواقع إلكترونية كصحيفة اللواء اللبنانية.

وبحسب المصدر، فإن الإمارات بدأت حملة تقليص دفعاتها لمجموعات سياسية أخرى في الشمال اللبناني وبيروت، بالإضافة إلى أنها أوقفت مشروع مؤتمر لدعم مجموعة رجال أعمال لبنانيين مؤثرين لمواجهة تجمعات مرتبطة بجمعيات أهلية وإسلامية في العاصمة اللبنانية بيروت.

وشكلت سياسة زعيم تيار المستقبل سعد الحريري منذ 2016 عبر المضي قدماً في تحالف سياسي مع الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) والتيار الوطني الحر، وما نتج عنه من الإتيان بميشال عون رئيساً للجمهورية، حفيظة دول الخليج.

هذه الدول، وعلى رأسها السعودية، عبرت حينها للحريري عن عدم ثقتها بجدوى الدخول بتسوية مع حزب الله الذي يعد أحد أبرز التهديدات الوجودية للسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي.

وتوج هذا الاعتراض من خلال احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري في الرياض، وما تمخض عنه من مواقف عالية النبرة تجاه الحريري وممارساته السياسية المخالفة للسياسات السعودية، والتي وصلت إلى حد تأييد السعودية للإطاحة بالحريري عقب انطلاق ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، وصولاً للتأكيد السعودي على عدم الرضا بعودة الرجل لسدة الحكومة ورفض التعهد بأي دعم مالي لحكومة تضم حزب الله والتيار الوطني الحر.

ترشح الحريري لرئاسة الحكومة يحظى بدعم خارجي واسع، استطاعت باريس تأمينه مع بعض الدول العربية ما عدا السعودية، المصرة على موقفها من شخص الحريري.

يشير المصدر أن ما كان يواجهه الحريري من رفض يمنعه من العودة إلى الحكومة قد زال، ويشدد المصدر أن باريس فتحت نقاشاً مع مجموعة من الدول العربية تحت عنوان واضح “التخوف من الاستغلال التركي للفراغ السياسي للساحة السنية في لبنان”، والذي قد يتحول لميدان جديد لأنقرة أمام التراجع العربي، في ظل تنامي القوة الشعبية لتركيا في الوسط اللبناني، وتحديداً في الشمال اللبناني.