مع إعلان التسعير النهائي لأسهم الاكتتاب العام الأولي لشركة أرامكو السعودية في 5 ديسمبر/كانون الأول، سوف يصف بعض المراقبين الأمر بأنه نجاح للشركة في الوصول إلى نطاق التقييم الافتراضي الذي يتراوح بين 1.6 تريليون دولار و1.7 تريليون دولار، والذي تم تحديده سلفا في نشرة الإصدار. ومن الناحية السياسية المحلية السعودية، سيتم النظر للاكتتاب العام بمثابة إنجاز رئيسي لولي العهد “محمد بن سلمان”، وحملته الخاصة للتحديث المعروفة باسم “رؤية 2030”.
وفي الواقع، على الرغم من ذلك، سوف يفشل الاكتتاب في هدفين آخرين مهمين. فمن ناحية، لن يجلب الاكتتاب مبلغا كبيرا من الأموال الأجنبية للاستثمار في مشاريع التنويع الاقتصادي المتصورة في “رؤية 2030″، بخلاف 1.5 مليار دولار من المستثمرين في أبوظبي. ومن ناحية أخرى، فإن الاكتتاب لم يلب معايير الشفافية والإدارة السليمة التي تم طرحها عندما أعلن ولي العهد الفكرة قبل أكثر من 3 أعوام، في مقابلته التاريخية مع “بلومبرج نيوز”، وهو ما سيكون له تأثير سلبي دائم على ثقة المستثمرين الأجانب في المملكة العربية السعودية.
تأجيل.. ثم اندفاع مفاجئ
وفي عام 2016، كان من المتصور أن يشمل الاكتتاب العام الأولي لشركة أرامكو السعودية طرح نسبة 5% من حقوق ملكية الشركة، وأن يحدث ذلك في أواخر عام 2017 أو أوائل عام 2018، وأن يتم التداول على الأسهم من خلال بورصة دولية جيدة التنظيم، مع تفضيل لندن أو نيويورك، وربما طوكيو أو هونج كونج. وكان التقييم الذي طرحه ولي العهد للشركة في مقابلته مع بلومبرغ هو 2 تريليون دولار. وتم طرح هذا التقييم في وقت كانت السعودية تخوض فيه مناقشات مع روسيا ومنتجين آخرين من خارج أوبك بهدف تقليل المخزون العالمي المتراكم بشكل كبير وتعزيز سعر النفط إلى أعلى من 70 دولارا للبرميل لدعم تقييم أرامكو. وفي حال سار هذا الجهد كما كان يأمل السعوديون، فإنه كان بإمكانه أن يضمن جلب رؤوس أموال أجنبية كبيرة لتمويل التنويع الاقتصادي.
لكن كانت تلك الرؤية مجرد أمنيات، كما تنبأ بعض المحللين في ذلك الوقت، بسبب ضخامة المعروض من النفط من قبل المنتجين من خارج أوبك، خاصة من قبل منتجي النفط الصخري الأمريكيين. وبحلول منتصف عام 2019، أصبح من الواضح أن اتفاق “أوبك بلس” لم يكن قادرا على إحداث الصدمة المطلوبة في سوق النفط. وتم تأجيل الاكتتاب العام في أرامكو السعودية عدة مرات، بسبب مزيج من نقص التحضيرات، والتصورات بأن أسعار النفط قد تتحسن في وقت لاحق، وانعدام الحماس من قبل بعض كبار الفنيين السعوديين، بمن فيهم وزير الطاقة آنذاك “خالد الفالح”.
ولكن فجأة، في أغسطس/آب 2019، تم إحياء الاكتتاب من جديد، وتم منحه أولوية عاجلة بناء على أوامر من “بن سلمان” التي تعهد بإتمام الاكتتاب قبل نهاية العام. وعكس هذا الدفع لتسريع الاكتتاب العام الحاجة الملحة لولي العهد لتأمين “إنجاز كبير” لشخصه، ولو كان ذلك على حساب الأهداف التي كان من المفترض أن يحققها الاكتتاب العام في نهاية المطاف.
لكن التحدي الأكبر كان يتمثل في إنجاز الاكتتاب بصورة مقبولة، مع ضمان عدم خسارة ولي العهد لماء وجهه عبر الحفاظ على تقييم قريب مما كان يسعى إليه منذ البداية. وكانت النتيجة الأولى لهذه الموازنة هي إلغاء جهود الإدراج الدولي للأسهم، حيث وفر الإدراج في “تداول”، البورصة المحلية في الرياض، تعقيدات فنية أقل، مع أدنى متطلبات للشفافية، كما ضمن سيطرة الحكومة على العملية بشكل كامل.
وشهد سبتمبر/أيلول تغييرات مهمة داخل أروقة وزارة الطاقة في المملكة. أولا، حل “ياسر الرميان”، رئيس صندوق الاستثمار العام، محل “الفالح” كرئيس لمجلس إدارة أرامكو السعودية. وبعد أسبوع، حل الأمير “عبد العزيز بن سلمان”، الأخ غير الشقيق لولي العهد، محل “الفالح” في منصب وزير الطاقة. وقد كسرت هذه التغييرات تقاليد سعودية طويلة الأمد، فعلى عكس جميع الرؤساء السابقين لأرامكو منذ تأميمها، لم يكن لدى “الرميان” خبرة مباشرة في إدارة شركات النفط بخلاف خدمته لمدة عامين في مجلس إدارة أرامكو. وكان “عبد العزيز بن سلمان” أول فرد من العائلة المالكة يترأس وزارة الطاقة، ويفتقر إلى الخبرة العملية حول إدارة أرامكو، على الرغم من أعوام خدمته الطويلة في وزارة النفط. وكان كلا الخيارين يستند إلى الولاء الشخصي لولي العهد أكثر من الكفاءة الإدارية والخبرة.
تقييم المخاطر
وكانت المشكلة الأساسية التي تواجه العملية برمتها هي الفصل بين ما يعتبره مديرو الأصول الأجنبية الرئيسيون تقييما عادلا للمخاطر مقابل حاجة ولي العهد “محمد بن سلمان” لتجنب خسارة ماء الوجه بسبب رغبته في الحصول على تقييم بقيمة 2 تريليون دولار. وفي منتصف أكتوبر/تشرين الأول، عندما اجتمعت بنوك الاستثمار الأجنبية التي تقدم المشورة لأرامكو السعودية بمسؤولين سعوديين لمناقشة التقييم قبل الموعد المحدد لاتخاذ قرار رسمي بالمضي قدما في الاكتتاب العام، ورد أن ولي العهد رفض بشدة توقعات المصرفيين أن أي تقييم يتجاوز 1.5 تريليون دولار سوف يجذب القليل من الاهتمام الأجنبي. وأدى ذلك إلى تأخير الإعلان الرسمي حتى 3 نوفمبر/تشرين الثاني، وتم اعتبار نطاق التقييم اللاحق ما بين 1.6 تريليون دولار إلى 1.7 تريليون دولار كحل وسط معقول.
لكن خبراء السوق المالية خارج المملكة لا يرون الأمر على هذا النحو. وسوف يضع تقييم 1.5 تريليون دولار أرامكو السعودية عند مستوى عوائد لتوزيع الأرباح يقترب من العوائد التي تمنحها شركة “إكسون موبيل”، التي تمتلك معظم أصولها في البلدان ذات المخاطر السياسية المنخفضة. ويرفع نطاق التقييم الحالي أسعار الأسهم بشكل غير مبرر، ناهيك عن المخاطر العالية. وتواجه صناعة النفط بأكملها ضغطا هبوطيا بسبب عدم اليقين بشأن نمو الطلب على النفط في المستقبل، مع توقع وكالة الطاقة الدولية أن يصل النفط إلى ذروة الطلب عند عام 2030 قبل هبوطه.
بخلاف ذلك، تواجه أرامكو السعودية نفسها مخاطر أخرى خاصة بها. وقد أبرز هجوم 14 سبتمبر/أيلول على منشأة “بقيق” التابعة للشركة احتمال خوض “حرب استنزاف” ضد المنشآت النفطية السعودية في حالة نشوب حرب إقليمية كبرى ضد إيران. وتبرز قضايا الضرائب وحوكمة الشركة أيضا كعوامل مثيرة للجدل. ومع استمرار نمو عدد سكان المملكة بنسبة 2% سنويا، فهناك سبب للتشكيك فيما إذا كانت هياكل الضرائب والاقتطاعات والأرباح المواتية الحالية ستظل سارية بعد نهاية مدة الالتزام السعودي الحالية أواخر عام 2024.
وازدادت المخاوف بشأن حوكمة أرامكو في وقت مبكر قليلا في عام 2019، بعد استحواذ الشركة على الأسهم المملوكة لصندوق الاستثمار العام في الشركة السعودية للصناعات الأساسية “سابك”. وفي السابق، توقع خبراء الصناعة أن تستهدف أرامكو السعودية البتروكيماويات المتخصصة للتوسع بدلا من البتروكيماويات الأساسية التي تعمل فيها “سابك”. كما أثارت الصفقة اندهاش المستثمرين، لأن السعر الذي دفعته إلى صندوق الاستثمار العام كان مرتفعا بشكل ملحوظ. ومنذ ذلك الحين، انخفضت أرباح “سابك” بشكل حاد، بسبب وفرة البتروكيماويات الأساسية، وهبط سهم الشركة بنحو 20%. ويبدو الدرس هنا هو أن مصالح المستثمرين من القطاع الخاص قد تم التغاضي عنها في صفقة بين كيانات مملوكة للدولة تهدف إلى تحويل 70 مليار دولار من الميزانية العمومية في شركة أرامكو السعودية إلى صندوق الاستثمار العام.
وفي ظل هذه المخاطر، ذكرت “فاينانشيال تايمز” أنه في اجتماعات أولية مع مديري المحافظ الأجنبية، قال معظمهم إنهم ينصحون بتقييم يقارب 1.2 تريليون دولار، بهدف توفير أرباح أعلى للمستثمرين للتعويض عن هذه المخاطر. وتضمنت هذه الاجتماعات مسؤولي صناديق الثروة السيادية، التي كان ولي العهد يعتقد بسذاجة أنها ستكون أكثر استعدادا لقبول التقييم الأعلى. ورغم أنه من المرجح أن تحقق أسهم أرامكو المطروحة التقييم الافتراضي الجديد بين 1.6 تريليون دولار إلى 1.7 تريليون دولار، فإن ذلك يجري في بيئة تعرض فيها المستثمرون المؤسسيون السعوديون والأسر الثرية لضغوط لشراء الأسهم، وتم الضغط فيها على البنوك للتساهل في منح القروض للمستثمرين الراغبين في شراء الأسهم.
وتخبرنا كل هذا الأمور أن “بن سلمان” يتحكم في مسار عملية الاكتتاب بنفسه. وبدلا من محاولة متابعة تقييم أكثر واقعية مع أسلوب عمل أكثر احترافية، تم طرح التخطيط السليم جانبا لصالح سلسلة عشوائية من الحلول الوسط تقودها رغبة ولي العهد نفسه في تحقيق “إنجاز كبير” يعزز موقفه محليا ودوليا، حتى لو جاء ذلك على حساب الهدف الأصلي المتمثل في تنويع اقتصادي كبير بعيدا عن النفط. وقد أدى ذلك أيضا إلى كسر القواعد السابقة التي كانت تفضل تولي التكنوقراط الدور القيادي في صناعة النفط وصنع السياسات الاقتصادية. ويعني ذلك كله أن أرامكو من غير المرجح أن تسعى إلى الإدراج الدولي في أي وقت في المستقبل القريب، لأن القيام بذلك من شأنه أن يقوض التقييم المحلي المصطنع، الذي قد تستطيع المملكة ضمانه على المدى القصير بسبب عدم وجود مبيعات دولية كبيرة.