بقلم/ أسامة السعد

يا لها من عبارة تلك التي كتبها الشيخ سلمان العودة: “كيفما رأيت الحياة كانت لك.” القارئ لهذه العبارة المقتضبة بتعبيرها البليغ يجدها أوضح تعبير عن حياة قائلها.

يصنف الشيخ العودة بأنه أحد أشهر الدعاة في العصر الحديث حيث حظي بمتابعة ربما تكون الأكبر بين أقرانه لدى فئات مختلفة من المسلمين والمسلمات في الأعوام الثلاثين الأخيرة، لكن من الواضح أن مكانته بين الجيل الشاب تعد الأبرز.

لكن مسيرة العودة في تحدي الظلم كانت مختلفة. هو من قال إن “الإصلاح الجاد يستحق التضحية، وليس الخسارة، لأنه أفضل طريق تكافح به الثورة،” وهو ما أفضل من ترجم ذلك واقعا عمليا.

لم يهادن السلطات الحاكمة يوما، ولم يتقرب منها طمعا بسلطة أو نفوذ أو جاه ومال، وكان يمكنه ذلك بسهولة، فما أيسر مهمة “شيوخ السلاطين،” وما أصعب رحلة من نذر نفسه وعلمه وحياته لقول كلمة الحق.

في أوج الحكم الاستبدادي، وغياب أي عمل معارض، بادر العودة مع رفاق له منهم سفر الحوالي، وعائض القرني، وناصر العمر في عام 1991 بتوقيع خطاب يطالب السلطات بإصلاحات قانونية وإدارية، واجتماعية، وإعلامية، وإجراء انتخابات تكفل التداول السلمي للسلطة والمحاسبة الشعبية.

وفي أوج التغلغل الأمريكي والنفوذ الأجنبي في الخليج، كان العودة يرفع صوته منتقدا الوصاية الغربية التي بدأت في حينه وحذر من تكرسها بفعل تواطؤ الأنظمة الحاكمة وهو ما حدث.

سرعان ما دفع الرجل الثمن. مٌنع في العام 1993 من إلقاء الخطب والمحاضرات العامة، ثم اعتقل في العام الذي يليه وتم الزج به في العزل الانفرادي لعدة أشهر متتالية.

لكن ما لم تدركه السلطات، وتصر على إنكاره حتى اليوم، أن العقاب والظلم لا يضعف عزيمة الرجال الأحرار الواثقين من رسالتهم وموقفهم، بل هو في الواقع يزيدهم قوة وإصرارا.

فسرعان ما اعتقل العودة مجددا لعدة سنوات، وعندما خرج واصل رسالته، فوجه خطابه الشهير عام 2013 للحكومة ووزارة الداخلية مطالبا بحرية معتقلي الرأي ودرء الفتنة الداخلية.

في سنوات حريته الأخيرة بدا الشيخ سلمان العودة غزير الإنتاج يواكب العصر بفيديوهات ومنصات وبرامج بأشكال ومضامين مختلفة تدخل قلوب المشاهدين وتخاطب المسلمين والمسلمات بجميع فئاتهم.

قدم النصح والإرشاد وغرز القيم الإنسانية النبيلة، فمن منا لم يؤثر فيه فيديو “آسف،” و”نعم أتغير،” أو مقطع “مثلك أنا” وهو يراجع مواقفه وحياته ليتأمل ويتعلم من تجاربه السابقة الكثير.

قام بكتابة عشرات الكتب ومئات المقالات، وله جهود بارزة في تأسيس عدد من المؤسسات والمراكز البحثية في العلوم المختلفة التي لم تحمل اسمه، ليتحول العودة من شخص إلى فكرة.

ولم يتوقف دور العودة عند هذا الحد، بل تعدى البلاد العربية ليصل إلى المؤسسات الإسلامية في أوروبا، وعلى رأسها مجلس الإفتاء الأوروبي بصفته عضوا بارزا فيه.

مع تولي محمد بن سلمان السلطة وبدء عهد جديد من القمع والاستبداد في المملكة، كان العودة على رأس المستهدفين بغرض الاستعراض وإثبات القوة.

رفض العودة تقديم الخنوع للعهد الجديد من الحكم كما فعل ما سابقيه، بل أصر على مواقفه، وعلى أن يبقى حرا، حتى لو دفع ثمن ذلك غاليا من حريته وحياته، وهو ما حدث.

في العاشر من سبتمبر العام 2017، تعرض العودة مع آخرين للاختفاء القسري، ولم تفصح السلطات عن مكان اعتقاله أو عن المسار القضائي لقضيته. بعد بضعة أشهر من اعتقاله تدهورت حالته الصحية وتم نقله إلى مستشفى بمدينة جدة.

وثقت منظمات حقوقية مرارا تعرض العودة للتعذيب وتم التلويح علنا بإعدامه بعد حشد 37 تهمة ضده كان من بينها “الإرهاب والتآمر على الدولة، وعدم الدعاء الكافي لوليّ الأمر.” كان يكفي العودة كلمات قليلة يعلنها في مدح الحاكم أو التماهي مع سياساته لينتهي عسره وتسقط التهم عنه، لكن أمثال أبي معاذ لا يتنازلون.

سبق أن صرح أن “من لم يدفع ثمن التغيير، فسوف يدفع ثمن عدم التغيير”. بدا وكأنه يقدم النصيحة الأعمق لشعب بلاد الحرمين ولكل العرب والمسلمين، لكنه كالعادة ليس مجرد مسوق للشعارات أو يمارس التنظير. كان الشيخ العودة طوال مسيرته القدوة الذي يحدد الرؤية والمسار وأول من يسير فيه ويدفع الثمن.

يتوهم الحاكم وهو يعتقل ويغيب المصلحين والمؤثرين أنه احتكر القوة والسلطة، لكن عبثا يتجبر الطغاة، ومثل العودة وتأثيره لا يغيب. إن تأثيره يزداد ويتوسع جيلا بعد آخر وهذا لتعاسة المستبدين والذي لا يحسن قراءة التاريخ يحكم عليه بإعادة أحداثه.

سيبقى الشيخ سلمان العودة حاضرا وباعثا للأمل والضوء في نهاية الطريق المظلم ولو بعد حين. كيف لا وجملته باتت أيقونة إلهام سطرها التاريخ: ” لم تنته الحكاية.. غدًا تطير العصافير”.