قبل أن تقرر قناة “العربية” بث تقريرها المرئي القصير والمفاجئ الذي يتناول قضية الصحراء “الغربية”، أول (فبراير/شباط) المنصرم، كان بإمكان أي متابع مبتدئ للشؤون السياسية رؤية أن المياه بين المغرب والسعودية لم تكن تجري على ما يرام في الأشهر الأخيرة، حتى بدون أن تقرر الرياض خوض مغامرة سياسية جديدة غير محسوبة مع المغرب من تلك المغامرات المُتسرّعة التي أصبحت علامة مميزة على السياسة الخارجية السعودية خلال الأشهر الأخيرة، والتي تحمل بصمات ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان”.
بالنسبة إلى الرباط، لم يكن ما بثته قناة العربية المملوكة للدولة السعودية مجرد انتهاك لعلاقات الود المفترضة بين المملكتين العربيتين، ولكنها مثلت العبور الأبرز والأكثر جرأة للرياض لأهم الخطوط الحمراء للسياسة الخارجية المغربية؛ وهو اعتبار الصحراء جزءًا من المغرب، لذا فمن غير المبالغة قول إن الرباط اعتبرت التقرير السعودي “طعنة سياسية في الظهر”، خاصة وأن الرياض لطالما كانت داعما تاريخيا للرواية المغربية حول أحقية الأخيرة في الصحراء، وخاصة في ظل العلاقة غير المثبتة بالكامل بين جبهة “البوليساريو” التي تقود التمرد ضد المغرب في الصحراء وبين إيران وحزب الله، وهما أهم خصوم السعودية السياسيين في المنطقة.
بخلاف ذلك، لم تكن الضربة السعودية لتأتي في وقت أسوأ(1) من ذلك بالنسبة إلى الرباط، مع وجود جون بولتون في واشنطن كمستشار للأمن القومي الأمريكي، من تعتبره الحكومة المغربية متعاطفا مع حركة البوليساريو، وقد كان تعيينه تطورًا كفيلا بمفرده بإثارة قلق الرباط تجاه متانة تحالفها الأمني مع واشنطن، ما دفعها لتخفيف حدة موقفها وقتها والدخول في جولة من المفاوضات مع البوليساريو والجزائر وموريتانيا انطلقت في (ديسمبر/كانون الثاني) عام 2018.
لم تكتف قناة “العربية” بتقديم رواية تاريخية مضادة للرواية المغربية حول الصحراء عبر تبني رواية “الاستقلال” في مقابل مقترح “الحكم الذاتي” المغربي فحسب، ولكنها بدأت تقريرها بفصل الصحراء عن المغرب جغرافيًا، ثم ذهبت إلى أبعد مدى في إثارة سخط المغاربة واصفة الصحراء الغربية ضمنيًا بأنها أرض محتلة؛ عندما أشار التقرير إلى أن الرباط تغلغلت للصحراء بعد حروب مع موريتانيا بعد انسحاب الأسبان أواخر السبعينيات، ومشيرة إلى جبهة “البوليساريو” بوصف الأمم المتحدة «الممثل الشرعي» للشعب الصحراوي، في تناقض مع المصطلحات التي اعتادت وسائل الإعلام السعودية استخدامها سابقا بالإشارة إلى الصحراء باسم «الصحراء المغربية»، وإلى جبهة البوليساريو بوصفهم «انفصاليو البوليساريو»، وفي تناقض أيضا مع الموقف الخليجي الرسمي الداعم للمغرب والذي تم التعبير عنه في أكثر من مناسبة، وآخرها خلال القمة الخليجية المغربية في إبريل/نيسان 2016.
كانت المغامرة الإعلامية السعودية إذن تعكس عدم رضا واضح لدى الرياض تجاه حليفها الأطلسي، حيث لم يكن التقرير الذي أثار غضب المغاربة سوى الجملة الأكثر وضوحا التي كسرت 20 شهرا من التوتر الصامت بين البلدين، والذي بدأ فيما يبدو مع اندلاع الأزمة الخليجية ورفض الرباط الانصياع للضغوط السعودية بالانضمام إلى نادي مقاطعي قطر وتمسكها بسياسة الحياد الإيجابي في الأزمة، وهو موقف ردت الرياض عليه بعدة ممارسات اعتبرها المغاربة إهانة واضحة وانتهاكا للعلاقات بين البلدين، لعل أبرزها قيام السعوديين بدعم ملف الولايات المتحدة الأميركية لتنظيم كأس العالم 2026 على حساب الملف المغربي وتأثيرهم على ست دول عربية أخرى لاتخاذ نفس الموقف، وهو موقف لم يتخذه حتى أبرز خصوم الرباط الإقليميين في الجزائر وإيران، فصوتت الأولى للملف المغربي بينما امتنعت الثانية عن التصويت.
في المقابل، لم تقف المغرب مكتوفة الأيدي أمام التعنت السعودي، حيث رفض العاهل المغربي الملك “محمد السادس” استقبال ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” في الرباط، إبان جولة الأخير في دول شمال إفريقيا نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي بحثا عن الدعم أعقاب فضيحة مقتل الصحافي “جمال خاشقجي”، وكان الرفض بمثابة رسالة تعنيف دبلوماسي واضحة من المغرب للسعودية، وإن احتجت الرباط رسميا بظروف جدولة الزيارة، لكن الموقف جاء في سياق سلسلة من المواقف التصاعدية للمغرب، كان أبرزها إعلان الرباط في فبراير/شباط المنصرم تعليق مشاركتها في حرب اليمن، وهو انسحاب وجه ضربة جديدة لمصداقية التحالف السعودي في اليمن، وفي الوقت نفسه أثار العديد من التساؤلات حول إذا ما كانت العلاقات الودية بين المغرب والسعودية _والتي نجحت في العقد الأخير في التغلب على عوائق الجغرافيا الشاسعة_ ستكون قادرة على الصمود أمام الأزمات المتتالية التي تجتاحها خلال الأشهر الأخيرة، أما أنها ستكمل طريقها المنحدر حتى انهيار محتمل تام.
ثلوج الجغرافيا
يؤمن “نابليون بونابرت”، إمبراطور فرنسا ذائع الصيت، أن فهم سياسات الدول والعلاقات فيما بينها يكمن دوما في فهم جغرافيتها، ولا يقصد بالجغرافيا هنا التشكيلات الطوبوغرافية المجردة أو الحدود أو حتى المناخ، ولكن تبعات ذلك كله على السلوك السياسي للدول، ويبدو أن هذه القاعدة تنطبق بوضوح على العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي -وفي مقدمتها السعودية- وبين المغرب، فرغم انتماء البقعتين -نظريا- إلى فضاء سياسي واحد وهو منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ فإن الجغرافيا لطالما وضعت قيودًا قوية على تطوير العلاقات بين الطرفين، ويمكن هنا لحقيقة جغرافية بسيطة واحدة أن تلخص هذه المعضلة السياسية شبه الدائمة: ففي حين أن متوسط المسافة بين العاصمة المغربية “الرباط” وبين الرياض يتجاوز الأربعة آلاف ميل، فإن المسافة بين الرباط وبين باريس حوالي 1300 ميلًا فقط.
نتيجة لذلك، فإن المشتركات اللغوية والثقافية والدينية لم تكن(2) كافية لإقامة علاقات مبكرة ومتينة بين منطقة الخليج -وفي القلب منها السعودية- ككيان سياسي، وبين منطقة المغرب العربي ككيان آخر مستقل، لذا فإن الكتلتين، وعلى الرغم من انتمائها بشكل نظري إلى جامعة الدول العربية؛ فإنهما شرعا في إقامة كيانات سياسية إقليمية خاصة هي “مجلس التعاون الخليجي” و”الاتحاد العربي المغاربي”، وفي حين اختارت دول الخليج تاريخيا ربط اقتصاداتها ببعضها البعض وبالقوى الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، ظل الاقتصاد المغربي أكثر تكاملا مع اقتصادات جنوب أوروبا، لاسيما فرنسا وإيطاليا، القوتين المستعمرتين الرئيسيتين السابقتين للشمال الإفريقي، إضافة إلى إسبانيا، وهي علاقات تعززت لاحقا بفعل موجات متتالية من الهجرة.
وكانعكاس لهذه المسافة السياسية الناتجة عن جبر الجغرافيا، لم يكن من المستغرب أن منطقة المغرب العربي بأسرها منحت(3) 1% فقط من صادراتها إلى بلدان مجلس التعاون الخليجي لتمثل 2.5 % فقط من واردات الخليج. ورغم هذا الصقيع السياسي والاقتصادي، فقد احتفظت السعودية والمغرب على وجه الخصوص بعلاقات دافئة نسبيا، وعاد هذا الدفء في المقام الأول إلى الروابط الدينية الجامعة بين العائلتين الحاكمتين والتي تعود لما قبل القيام الرسمي للدولة السعودية مطلع الثلاثينيات. فمع تطلع “آل سعود” للزعامة الدينية بفرض وصايتهم على الحرمين، فإنهم سعوا لإنشاء علاقات مع العائلة الحاكمة المغربية التي تمتد أًصولها للأسرة العلوية، أي يمتد نسبها إلى الحسن والحسين سبطي النبي “محمد” صلى الله عليه وسلم، وهي روابط تم دعمها تاريخيا بنسب ومصاهرة بين العائلتين أيضًا.
كانت الشرعية الدينية إذن هي أول صكوك الارتباط المعنوي الذين جمع بين الرباط والرياض، وهو ارتباط اكتسب المزيد من الزخم بعد استقلال منطقة شمال إفريقيا عن الاستعمار في خمسينيات القرن الماضي، نظرا لأن المغرب كان البلد الوحيد الذي احتفظ بنظامه الملكي في منطقة المغرب العربي، في حين تأسست في باقي البلدان (مصر وليبيا والجزائر على وجه التحديد) جمهوريات “ثورية” -كما وصفت وقتها- لم تكن السعودية تحديدًا تنظر إليها بعين الرضا على كل حال، وهي تطورات جعلت من الرباط حليفا افتراضيا لملكيات الخليج، وإن حالت الجغرافيا مجددا من تحول هذه الرابطة الافتراضية إلى تحالف فعلي.
غير أن ذلك البعد الجغرافي لم يقف حائلا أمام بعض الإيماءات الجوهرية لحالة التوافق بين البلدين، وظهرت أبرز الإشارات خلال حرب الخليج الثانية بعد قيام نظام صدام العراقي بغزو الكويت، حيث قام المغرب آنذاك بإرسال 1200 جندي للمشاركة في حماية السعودية، وكانت الرياض قبل ذلك قد أظهرت دعمها المطلق للرباط في سيطرتها على الصحراء الغربية، لكن سرعان ما برزت هشاشة هذا التقارب مع خروج المظاهرات الجماهيرية المؤيدة للعراق في المغرب أعقاب التدخل الأمريكي، وهو ما دفع الملك المغربي وقتها “الحسن الثاني” للتعبير عن تضامنه مع المدنيين العراقيين، والتخفف من التزامه الصارم بدعم التحالف الخليجي الأمريكي.
شيئا فشيئا، كانت الروابط السياسية الهشة بين الرباط والرياض تتعزز بفعل بعض الاستثمارات الاقتصادية المحدودة، في النصف الثاني من التسعينيات، بفضل سياسة الانفتاح التي تبناها “الحسن الثاني”، حيث اتجه العديد من الأمراء وأصحاب النفوذ السعوديين لامتلاك عقارات وقصور في المغرب، غير أن العلاقات بين البلدين ظلت حتى ذلك التوقيت قائمة بشكل أكبر على الروابط الشخصية وصلات النسب بين العائلتين الحاكمتين؛ أكثر من كونها نابعة من رؤية هيكلية عميقة للعلاقات السعودية المغربية.