بقلم/ د. عبد الله الحامد

التفكير لا ينمو ولا يمنح الاستقلال فضلًا عن الإبداع والابتكار، إلا بجو يتمتع فيه الناس بحقوقهم السياسية، فالقمع الفكري والسياسي داء، ينصب للجهل خيامًا، وللظلم أصنامًا، وللفسق أزلامًا.

وما اخفق العرب في السياسة والاقتصاد والحرب، إلا عندما كممت الأفواه فاتسعت الهوة بين الأقوال والأفعال، وانتهت الأفكار النيرة إلى السجون المظلمة، فانطمر الحق في الصدور خوفًا من المصادرة، وتلعثمت الألسنة خوفًا من المعاقبة، فتراكم الفساد باسم الأخلاق، وسمي النفاق مجاملة، والكبت هدوءًا، والقمع أمنًا، والكذب إعلامًا، والمصلح متطرفًا، والمستقيم معقدًا، والظالم عادلًا، فانعزلت الدولة عن المجتمع، والنخبة عن العامة، وتحولت المثل العليا إلى شعارات مجففة تصرف في أسواق الإعلام، وصارت العقول هزيلة، وأصبح الناس كالزراعة في البيوت المحمية، حدد لها الفلاح الشمس والهواء والغذاء والماء، كما يريد.

ولا ينقص المسلمين ثروة ولا شجاعة، إنما ينقصهم ضمان حقوق العلماء والمفكرين والمثقفين، الذي انقمعوا فصار التعليم تلقينًا يعطل العقل والإرادة.

وبنقص الحرية صار الحاكم مستبدًا عن علمٍ أو عن جهل، وصارت الثروة في يده اليمنى ومقادير الشعب في يده اليسرى، وبيده العسكر، وبيده الإعلام والقضاء، فصار الشعب قطيعًا لا يسمع ولا يرى ولا يأكل ولا يستنشق إلا ما يشاء الحاكم.

إن الإسلام كفل حرية الرأي والتعبير وجعلها ركن من أركان العقيدة، حتى المنافقين عاشوا في ظل الإسلام يتكلمون ويلمزون ويفكرون بل ويتآمرون، والرسول يعرفهم.

فكيف لا يتمتع بهذا الحق الذين يفكرون ويجتهدون، ولم يلزم الله أحدًا بالإيمان، حتى إنه لا يجوز إكراه الكافر المحارب على الإسلام كما قال الله تعالى: (لَآ إِكرَاهَ فيِ الدّينِ).

وقرر الإسلام أن من حق الإنسان أن يوافق ويخالف دون أن يضار في ماله، ودون أن تفرض عليه إقامة جبرية في مكان ما، وليس للدولة أن تلزم الناس برأي فئة من الفقهاء مهما كان لهم من المعرفة والتقوى.

إن أخطر ما عاناه وطننا، هو مركزية القرار في طبقتي الفقهاء والأمراء، اللتين شكلتا تحالفًا غير مكتوب، بدون وعي وبجهل وبفساد عارم تغلغل في كل زوايا الدولة، حتى صارت هذه الفئتان البائسة من أسباب وأد حرية الرأي والتعبير، فعطلتا القوة المجتمعية، وقيادات المجتمع المدني، فتعطل التجمع المدني الحُر وقمع أفراده وسلب حقه بالقول والفعل، فسجنوا وتعذبوا وحُربوا، واستبدل بقيادات فقهية هشة ورديئة نفعية، تقول ما يريد الحاكم سماعه وتعليمه الناس، أبواقًا للسلطة التي لا تريد أن ترى الفرد مستقلًا برأيه وفكره، بل تسعى إلى استنساخ البشر، هذه القيادات منقادة إلى الحاكم، تدور في مدارات التدليس والكذب والوهم، بما يشتهيه الطغاة.