د. أسامة أبو ارشيد – كاتب وباحث فلسطيني مقيم بواشنطن.

ثمَّة بعد خطير في السياسة الخارجية السعودية تطور سريعاً بشكل فَجٍّ في حقبة وليِّ العهد السعودي، محمد بن سلمان. ومع ذلك، لم يحظ بكثير من التركيز والتغطية.

يتعلق الأمر هنا بعدوان تشنُّه مملكة بن سلمان على القضية الفلسطينية، وعلى حقوق الشعب الفلسطيني، ضمن جهوده لإثبات ولائه أميركياً وإسرائيلياً لتأمين صعوده للعرش بعد أبيه الذي يُعتقد أنه ليس له من الأمر شيء اللهم إلا لقب الملك الذي يحمله.

في هذا السياق، تبرز قضية عشرات الفلسطينيين، بمن فيهم حاملون للجنسية الأردنية، من المقيمين في السعودية، واعتقلتهم السلطات هناك منذ أكثر من عام بذريعة “الانتماء لكيان إرهابي”، هو حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

قد يقول بعضهم هنا إن اعتقال أفراد محسوبين على فصيل فلسطيني، خصوصاً “حماس”، المنتمية لجماعة الإخوان المسلمين التي تعاديها الرياض، والمرتبطة بعلاقات قوية بخصم المملكة المركزي في المنطقة، إيران، لا يمكن أخذه مؤشراً على عداء سعودي رسمي نحو القضية الفلسطينية في المجمل.

سيكون هذا صحيحاً لو كان هو المؤشر الوحيد في هذا السياق، غير أن النسق الذي يؤطِّرُ السياسة الخارجية السعودية، منذ تنصيب بن سلمان ولياً للعهد، في يونيو/ حزيران 2017، يؤكد الاتهام الذي سقناه ويثبته.

ومع أنه لا يمكن في هذه العجالة حصر كل المعطيات ومناقشتها، ولكن هذا لا يمنع من التذكير بمحطاتٍ في عهد بن سلمان، لو تمَّ وضع خط واصل بينها لوجدنا النسق المشار إليه.

بداية، لم يكن صعود بن سلمان إلى ولاية العهد على حساب ابن عمه، محمد بن نايف، ليحدث لولا دعم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وذلك بعد أن نجح صهره، جاريد كوشنر، بإقناعه بالفكرة، بضغط إماراتي حثيث.

تمكّن كوشنر من تسويق بن سلمان متجاوزاً في ذلك قلق الوكالات الأميركية المعنية، خصوصاً وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وتوجسها. يؤكد ذلك تقرير صحافي استقصائي هام نشرته مجلة ذا نيويوركر، في إبريل/ نيسان 2018، للصحافي ديكستر فيليكز، بعنوان: “أمير سعودي يبحث عن نسخة جديدة للشرق الأوسط”.

وحسب التقرير، فإن إدارة ترامب كانت تبحث “عن عميل لتغيير المنطقة، ووجدت ضالتها في الأمير محمد بن سلمان، فقرّرت احتضانه ليكون عميلها لتحقيق التغيير فيها”.

وسبق لترامب أن تباهى بانقلاب القصر على بن نايف، قائلاً: “لقد وضعنا رجلنا في القمة”، وهي القصة التي نجدها في كتاب مايكل وولف: “نار وغضب: داخل بيت ترامب الأبيض”، الصادر مطلع عام 2018.

وينقل فيليكز في تقريره عن مستشار ترامب الأسبق، ستيفن بانون، وغيره، أنه مع تسلم إدارة ترامب مسؤولياتها، مطلع عام 2017، تمّ تخويل كوشنر الإشراف على إعادة صياغة الشرق الأوسط.

وليس خافياً على أحد أن كوشنر هو رجل إسرائيل في البيت الأبيض، وتاريخ علاقات عائلته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وإسرائيل عموماً، لا يحتاج تفصيلاً، خصوصاً بعد إعلان إدارة ترامب، مطلع هذا العام، عن تصورها لخطة التسوية الفلسطينية– الإسرائيلية، المشهورة إعلامياً بـ”صفقة القرن”، والتي صاغها كوشنر، وتسعى، عملياً، إلى تصفية ما تبقى من فتات الحقوق الفلسطينية.

وفعلاً، فقد أثبت بن سلمان، منذ الأشهر الأولى لتصعيده إلى ولاية العهد، وفاء منقطع النظير لما جيء به من أجله. من ذلك مثلاً، الدور الذي لعبه في محاولة إرغام القيادة الرسمية الفلسطينية على القبول بما تريد إدارة ترامب فرضه عليهم.

وحسب ما تناقلته وسائل إعلام غربية حينها، فإنه كان هدَّد الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2017، بضرورة قبول ما يملى عليه أو يستقيل.

سبق ذلك تصريحات لعادل الجبير من باريس، في يونيو/ حزيران 2017، عندما كان وزيراً للخارجية السعودية، طالب فيها قطر بـ”التوقف عن دعم جماعات مثل الإخوان المسلمين وحماس”.

ثمَّ مضى أبعد من ذلك في تصريحات أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي في بروكسل، في شهر فبراير/ شباط 2018، وصف فيها “حماس” بأنها حركة “متطرفة”.

وهو ما دفع، حينها، منسق نشاطات الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يؤاف مردخاي، إلى أن يعلق على تصريحات الجبير عبر حسابه على تويتر، قائلاً: “إذا كان هذا هو أيضاً تعريف السعوديين لحماس، فنحن متفقون معهم”.

وفي تأكيد لمعطى أننا بصدد نسق سعودي مدروس، لا فوضى مواقف، نجد بن سلمان في مقابلته الشهيرة مع مجلة ذا أتلانتيك الأميركية، في إبريل/ نيسان 2018، حريصا على إثبات إدراكه حقيقة الدور الذي أنيط به، وشريكه، ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، من إدارة ترامب، لناحية تفكيك المنطقة وإعادة صياغتها، بحيث لا تبقى لها هوية جامعة، وبحيث تكون إسرائيل مركزها، خصوصاً اقتصادياً، والديكتاتوريات العربية حارستها.

وحتى لا نستطرد هنا، نعرض إلى إشاراتٍ جاءت في تلك المقابلة عن القضية الفلسطينية وإسرائيل:

– أولاً، حديثه عن إسرائيل حليفاً في المنطقة، ومواءمتها ضمنياً ضمن ما سمّاه “محور الاعتدال”، والذي يتكون، حسب رأيه، من السعودية والإمارات ومصر والبحرين وعُمان والأردن. أما المقابل، فهو “مثلث الشرِّ”، والذي يتكون من إيران والإخوان المسلمين، وتنظيمي داعش والقاعدة.

– ثانياً، عدم تردّده في تأكيد “حق اليهود” في جزء من أرض فلسطين عندما سئل عن ذلك بوضوح، وإنْ وضعها بصيغة أنه “للفلسطينيين والإسرائيليين الحق في أن يكون لهم أرضهم”.

– ثالثاً، وضعه “حماس” في خانة أعداء المملكة إلى جانب كل من داعش والقاعدة وحزب الله وإيران وقراصنة السفن.

ولا يتوقف الأمر هنا، إذ إنه في الشهر نفسه من العام نفسه، وخلال زيارته نيويورك، عقد اجتماعاً مع عدد من رموز الصهاينة اليهود وكبرى المنظمات الصهيونية اليهودية الأميركية وأكثرها عداء للشعب الفلسطيني.

وانتقد فيه، كما كشف حضور، القيادة الرسمية الفلسطينية، لتضييعها فرصاً لصنع السلام مع الإسرائيليين عقودا، وقال إن عليها القبول بالمقترحات المقدمة لتحقيق ذلك، والعودة إلى طاولة المفاوضات أو “فليصمتوا وليتوقفوا عن التذمر”.

مؤكداً: إن “القضية الفلسطينية ليست على رأس سلم أولويات الحكومة السعودية. هناك قضايا أكثر إلحاحا وأهمية للتعامل معها، مثل إيران”. ورغم ذلك، نجد أنه وإن لم تكن حقوق الشعب الفلسطيني على سلم أولويات حكومة بن سلمان، فإن خدمة المشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة في مقدمة تلك الأولويات.

من ذلك مثلاً، مزاحمة نظامه الأردن في رعاية الأماكن المقدسة في القدس المحتلة، لتمكين إسرائيل من تهويدها. وحسب مقدسيين، فإنهم قد رصدوا، منذ عام 2018:

“نشاطاً واضحاً للمملكة العربية السعودية في شراء عقارات، والتغلغل في القدس القديمة؛ من خلال صرف الأموال”. وقد مدح، زعيم المعارضة الإسرائيلية، حينها، إسحاق هيرتسوغ، بن سلمان، وطالب بمنح السعودية مكانة خاصة في إدارة الأماكن المقدسة في القدس.

ما سبق غيض من فيض، وهو ما دفع مؤسس مركز التراث الصهيوني في القدس، الصهيوني الأميركي، مايك إيفينس، إلى مدح بن سلمان وبن زايد، في يونيو/ حزيران 2019، على أساس أنهما أكثر دعماً لإسرائيل من يهودٍ كثيرين.

وكانت القناة 13 الإسرائيلية بثت تقريراً في فبراير/ شباط 2019، كشفت فيه أن بن سلمان عمل، بعد صعوده إلى ولاية العهد، على تعزيز العلاقات السعودية– الإسرائيلية وتنشيطها. وحسب تقارير صحافية أميركية وإسرائيلية، فإن مهمة تجميل صورة إسرائيل لدى الرأي العام السعودي كانت قد أسندت لمستشار بن سلمان السابق، سعود القحطاني.

باختصار، الدولة السعودية تحت قيادة بن سلمان تحولت إلى عدو مباشر للحقوق الفلسطينية، كما أنها عدو مباشر لشعوب عربية كثيرة، وتشن، مع حليفها الإماراتي، عدواناً مباشراً على بعضها، كما في اليمن وليبيا.

وهي، بالتحالف مع الإمارات، أيضاً، كانتا قد تآمرتا، وما زالتا، على طموحات وآمال بعض الشعوب العربية الأخرى، وعملتا على إجهاضها، كما في مصر وسورية والسودان.

وفلسطين اليوم ليست استثناء، بل إنها مركز إثبات الرياض وأبو ظبي الولاء لربيب نعمتهما القابع في البيت الأبيض، عبر البوابة الإسرائيلية. ومن ثمَّ، فإن المعتقلين الفلسطينيين في السعودية اليوم لا يشكلون إلا حلقة جديدة من حلقات عدوان سعودية بن سلمان على فلسطين كلها.