عادت قضية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي إلى الواجهة من جديد، مع صدور تقرير دولي يثبت تورط أعلى هرم السُّلطة بالمملكة في اغتياله.

تقرير الأمم المتحدة أثبت وجود أدلة موثوقة تستدعي التحقيق في مسؤولية المسؤولين السعوديين، وضمنهم ولي العهد محمد بن سلمان، عن جريمة اغتيال خاشقجي، وهي النتيجة ذاتها التي سبق أن خلص إليها تقرير المخابرات الأمريكية في نوفمبر الماضي.

التقرير الذي أعدته وأشرفت عليه أغنيس كالامارد، المحققة الأممية المعنية بالقتل خارج نطاق القضاء والإعدام الفوري والتعسفي، ونُشر 19 يونيو 2019، شدد على أنَّ قتل خاشقجي جريمة دولية يتعين على الدول إعلان اختصاصها القانوني بشأن البتِّ فيها.

وأكد التقرير، الذي يأتي بعد نحو 8 أشهر على الجريمة، أن مقتل خاشقجي كان جريمة قتل خارج نطاق القانون تتحمل السعودية المسؤولية عنها، وأنه يشكل انتهاكاً لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية.

كما أشارت كالامارد إلى أن “هناك أدلة موثوقة تستدعي التحقيق في مسؤولية المسؤولين السعوديين وضمنهم ولي العهد”، مبينة أن “التحقيقات التي أجرتها السعودية وتركيا لم تفِ بالمعايير الدولية”، كما اتهمت التحقيقَ السعوديَّ بأنه يصل إلى حد “عرقلة العدالة”.

وذكرت المسؤولة الأممية أن الرياض لم تزودها بأي معلومات تتعلق بالأدلة التي جمعها المحققون السعوديون حول الجريمة، مشيرة في الوقت ذاته إلى أن “السعودية ملزمةٌ دولياً التعاونَ مع السلطات التركية في التحقيق في قتل خاشقجي”.

وطالبت محققة الأمم المتحدة بأن تشمل العقوبات المتعلقة بمقتل خاشقجي وليَّ العهد السعودي والأصول الشخصية له في الخارج.

وكانت كالامارد، التي تقود تحقيقاً دولياً في مقتل خاشقجي، قالت عقب زيارة لتركيا هذا العام، إن الأدلة تشير إلى أن المسؤولين السعوديين “خططوا وارتكبوا جريمة وحشية”.

موقف متقدم

ويشكل التقرير المعلن عنه موقفاً دولياً متقدماً، يضع الأسرة الدولية أمام مسؤولياتها في حماية حقوق الإنسان وحق التعبير بِحُرية.

وقد يساعد هذا التقرير الأممي جهود مشرّعين أمريكيين في معاقبة بن سلمان، خصوصاً بعد أن وافق الكونغرس، في ديسمبر الماضي، على مشروع قرار يُحمّل بن سلمان مسؤولية قتل خاشقجي، وأكد أن بيانات السعودية كانت مضلِّلة بخصوص هذه القضية، وقوَّضت الثقة بالعلاقات السعودية الأمريكية.

هذا التصويت اعتبرته حينها دوائر كثيرة “بمنزلة رفض قوي لمحاولة الرئيس دونالد ترامب عدم قول الحقيقة بشأن ولي العهد السعودي، أو التصرَّف معه بناءً على ذلك”.

وتعتقد وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) وبعض الدول الغربية أن ولي العهد السعودي أمر بالقتل، وهو ما ينفيه المسؤولون السعوديون، ويدعمه التقرير الجديد.

الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، طلب في أكثر من مناسبة، محاكمة 18 مشتبهاً فيه سعودياً في إسطنبول، وقال: “كل أولئك الذين أدوا دوراً في جريمة القتل يجب أن يعاقَبوا”.

كما سبق أن اتهم وليَ العهد السعودي بـ”الكذب”، مستنكراً الصمت الأمريكي عن “الوحشية” التي قُتل بها خاشقجي.

وأكد أن جريمة القتل خُطِّط لها قبل تنفيذها بأيام، وطالب بالكشف عن المسؤول الذي أعطى الأوامر إلى المشتبه فيهم.

تضليل

من الاتهامات اللافتة بالتقرير، اتهام السعودية بعرقلة التحقيق في الجريمة، وهي تهمة تصدقها جلسات المحاكمات السعودية التي انطلقت في يناير الماضي.

إذ غاب عن العالم أسماء المدانين داخل المحكمة التي لم تُذَع جلساتها على الهواء، خاصة أنها تُبث في قضية شغلت العالم أجمع، وأحدثت أزمة قوية للمملكة، وينتظرها ملايين الناس للتأكد من نزاهتها وصدق نية السلطات السعودية.

ولم تعلن السعودية عن موعد المحاكمة إلا من خلال بيان لوكالة الأنباء السعودية، عن النائب العام سعود المعجب، أكد فيه عقد الجلسة الأولى للمدانين في قضية مقتل المواطن خاشقجي، وعددهم 11، بحضور محاميهم، بناء على المادة (4) من نظام الإجراءات الجزائية.

ولم يذكر بيان النائب العام السعودي أسماء الأشخاص الـ11 المدانين في القضية، بل طالب بإعدام 5 أشخاص دون ذكر أسمائهم، وهو ما يفرض حالة جديدة من التشكيك في نزاهة هذه المحاكمة، وفق الإجراءات القانونية المعروفة في السعودية، خاصة في ظل قضية خلقت رأياً عاماً دولياً.

كذلك، حاولت النيابة السعودية إشغال الرأي العام الدولي عن القضية الأساسية، من خلال إحداث أزمة دبلوماسية مع تركيا، واتهامها بعدم التعاون معها في التحقيق بالقضية، وعدم الاستجابة للمطالبات السعودية، وهو ما يكذّبه الواقع.

ورفضت الرياض محاولات جهات حقوقية عدة، الاطلاع على لاقضية وحضور محاكمة المتهمين، إلا أن الخوف من كشف حقيقة المحاكمة الصورية حال دول ذلك.

وأعلنت النيابة العامة في منتصف نوفمبر 2018، أن مَن أمر بالقتل هو رئيس فريق التفاوض مع خاشقجي (دون ذكر اسمه)، في المقابل صعَّدت أنقرة ضغوطها، وأصدر القضاء التركي في 5 ديسمبر الماضي، مذكرة توقيف بحق النائب السابق لرئيس الاستخبارات السعودي أحمد عسيري، وسعود القحطاني المستشار السابق لولي العهد محمد بن سلمان، للاشتباه بضلوعهما في الجريمة.

ومرت القضية قبل وصولها إلى أدراج المحاكم السعودية ومنصة الأمم المتحدة بعدة مراحل، تراوحت شداً وجذباً بين أنقرة والرياض، وترقب ورصد من قبل المجتمع الدولي؛ وهو ما انعكس تبايناً في المواقف.