تسعى كل دول العالم لبناء أجهزة استخبارات قوية تحقق لها أعلى درجات المتابعة والمراقبة، كما تُبنى وتصرف عليها أموال طائلة للتنبه والتحرك السريع لحماية المواطنين والسكان من أي خطر قد يحدق بالبلد من هجمات أو اعتداءات محتملة من منظمات أو جماعات أو دول.

وجهاز المخابرات واحد من مؤسسات الدولة يخضع لسياساتها وتشريعاتها، له سلطات عليا واسعة، ولكن ضمن إطار القانون في الدول المتقدمة، في حين أخذ طابعاً مشوهاً في أغلب الدول العربية، وهذا ما حصل في السعودية مع جهاز استخباراتها، خصوصاً في السنوات الأخيرة، حيث وصم بعمليات قتل وتعذيب وتجسس وملاحقات.

 

جرائم بارزة

فقد تسبب صعود ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في سلم الحكم سريعاً، إلى بناء منظومة استخباراتية واسعة تنفذ كل ما يُطلب منها دون تردد؛ ليحافظ على السلطة والنفوذ في ظل قيادته لتغييرات جذرية في المجتمع السعودي، وخروج معارضة واسعة لذلك السلوك، وكان هذا على حساب صورة المملكة وأجهزتها الاستخبارية.

وشكلت جريمة اغتيال الصحفي السعودي البارز، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده بمدينة إسطنبول التركية، في أكتوبر 2018، فضيحة عالمية مدوية في حق الاستخبارات السعودية، التي تعاملت مع أحد أشهر صحفييها بوحشية غير معهودة، حيث قتل وقطعت جثته وتم إخفاء آثارها، وفق تسجيلات صوتية لدى أجهزة استخباراتية دولية، كما يدور الحديث حول حرق الجثة، وفق ما أورده برنامج استقصائي بثته قناة “الجزيرة”.

وقال مسؤولون سعوديون، في أكتوبر 2018، إن فريقاً مؤلفاً من 15 شخصاً شكله نائب رئيس الاستخبارات العامة، أحمد عسيري، وسعود القحطاني، المستشار بالديوان الملكي، هم من خططوا ونفذوا عملية اغتيال خاشقجي، وتم إعفاؤهما لاحقاً من منصبيهما الرفيعين.

وأثارت هذه القضية ردود فعل ساخطة ضد السعودية، وأسفرت عن مظاهرات في دول عدة مناهضة للحكومة السعودية، بالإضافة إلى مقاطعة عدد من الدول لمؤتمر “دافوس الصحراء”، وذلك بعد أن اتهم عدد من الدول وجهاز الاستخبارات الأمريكي ولي العهد السعودي بالضلوع في عملية قتل خاشقجي عبر إعطائه الأوامر.

ولا تزال المملكة تعاني من آثار تلك العملية، التي لم يحاسب مرتكبوها بشكل جدي، ولم يخضعوا لأي محاكمات علنية، بل إن المتهم الرئيسي في تدبيرها؛ سعود القحطاني، وأحد أبرز المقربين من ولي العهد، ما زال طليقاً خارج السجن.

وفي إطار الملاحقات والتتبع والتجسس كشفت صحيفة “هآرتس” العبرية، في نوفمبر 2018، عن تعاون جرى بين السعودية والاحتلال الإسرائيلي بشأن ملاحقة معارضي الرياض في الخارج.

وذكرت الصحيفة أن شركة “NSO” الإسرائيلية المتخصصة في تطوير برمجيات التجسس أجرت العام الماضي، مفاوضات متقدمة لبيع منظومات مراقبة واختراق الهواتف الذكية للمخابرات السعودية.

المفاوضات، وفق الصحيفة العبرية، جرت في العاصمة النمساوية فيينا، في يونيو 2017، أي قبل أشهر من حملة اعتقالات واسعة شنها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ضد معارضيه في المملكة وخارجها.

وأشارت “هآرتس” إلى أن رجال أعمال إسرائيليين يمثلون الشركة حضروا المفاوضات إلى جانب عبد الله المليحي، المقرب من رئيس المخابرات السعودية السابق، الأمير تركي الفيصل، وناصر القحطاني، نائب رئيس جهاز المخابرات السعودية الحالي.

في حين كانت آخر فضائح “الاستخبارات السعودية” نشر جواسيس في موقع “تويتر”، أحد أبرز منصات التواصل الاجتماعي، وذكر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي “إف بي آي”، في 7 نوفمبر 2019، بعض التفاصيل عن المواطنين السعوديين؛ أحمد المطيري وعلي آل زبارة، بالإضافة لنشره صورهم.

واتهم مكتب التحقيقات “المطيري” بالعمل كحلقة وصل بين موظفي تويتر وبين الحكومة السعودية، حيث قدم للرجلين (علي آل زبارة، والأمريكي أحمد أبو عمو الذي عمل في تويتر سابقاً أيضاً) مئات الآلاف من الدولارات، بالإضافة إلى ساعة “هابلو” باهظة الثمن، بحسب ذات الوثيقة.

فيما اتهم “آل زبارة” بأنه “استغل قدرته كموظف في تويتر لجمع معلومات حساسة وغير متاحة للعامة عن منشقين ومعارضين للنظام السعودي”.

ويتهم جهاز الاستخبارات السعودي بضلوعه في عمليات ملاحقة وتتبع للمعارضين ومحاولات إعادتهم للبلاد، بالإضافة لحملات اعتقال وتعذيب ممنهج تطول الناشطين والناشطات في مجال حقوق الإنسان.

 

رفض تدريب الجهاز

وذكرت صحيفة “واشنطن بوست”، يوم الجمعة (6 ديسمبر 2019)، أن وزارة الخارجية الأمريكية رفضت مقترحاً من شركة “دينكورب” لتدريب المخابرات السعودية؛ خوفاً من عدم وجود الضمانات المناسبة لمنع عمليات متهورة وخارجة عن القانون؛ مثل جريمة قتل وتقطيع خاشقجي.

وقال ديفيد إغناطيوس، في مقالته بالصحيفة، إن ما أثار قلق المسؤولين في الخارجية والوكالة المركزية للاستخبارات “سي آي إيه” ما ورد في تقارير عن استمرار المملكة في سياساتها القمعية، ومن ضمنها محاولات إجبار المعارضين على العودة إلى بلادهم، ومراقبة عائلة خاشقجي في الخارج، واعتقال ناشطي حقوق الإنسان.

وأضاف “إغناطيوس”: إن “المسؤولين الأمريكيين قلقون أيضاً لعدم اعتراف ولي العهد، محمد بن سلمان، بأن المحاسبة الاستخباراتية وإصلاح أجهزة الأمن هي خطوة ضرورية لإعادة الاستقرار في العلاقات الأمريكية-السعودية”.

ولفت الكاتب إلى أن المسؤولين الأمريكيين يشعرون بالغضب من عدم توجيه تهم لسعود القحطاني، الذي سمته وزارة الخزانة الأمريكية شخصاً مسؤولاً عن الجريمة وتنظيمها لم يعتقل بعد، بل ويواصل العمل من وراء الستار.

ومن بين التجاوزات والانتهاكات التي أثارت قلق المسؤولين الأمريكيين محاولة جر معارض سعودي يقيم بالولايات المتحدة وإجباره على العودة للمملكة، وقال مسؤول أمريكي إن مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي” أشار إلى أنه سيعتقل حال عودته إلى السعودية، وحذره من السفر، (لم يكشف المسؤول عن اسم المعارض السعودي)، وفق الصحيفة.

وأشار المسؤول إلى تقارير تحدثت عن تعرض خطيبة خاشقجي، خديجة جنكيز، وأحد أبنائه للمراقبة السعودية في لندن، الصيف الماضي.

وبين إغناطيوس أن إصلاح “رئاسة الاستخبارات العامة السعودية” هو هدف يحظى بدعم المسؤولين الأمريكيين الحاليين والسابقين، ويقولون إن إدارة جيدة ومعايير أخلاقية وأداء أحسن في المخابرات العامة سيصب بمنفعة الأمن السعودي والأمريكي.

في حين يتساءل الكاتب عن كيفية تحقيق هذا الهدف بدون تشجيع التصرفات السيئة؟ مشيراً لقول مسؤول في الخارجية أكد رفض مقترح شركة “دينكورب”: “نريد مخابرات قوية ولكننا لا نفكر بهذه الطريقة”.

 

مصير السعودية في خطر.. ماذا لو أزاح الديمقراطيون ترامب؟

ولفت الكاتب إلى أنه من الأفكار التي تمت مناقشتها في داخل الخارجية هو عزل المخابرات السعودية عن الديوان الملكي الذي يتحكم به ولي العهد، وتمت مناقشة فكرة ثانية مثل إدخال آلية رقابة رسمية، مثل تحديد النشاطات الاستخباراتية في الولايات المتحدة. مع أنه لا يعرف كيف تعمل هذه القيود في ملكيات تقليدية مثل السعودية، حيث يملك ولي العهد السلطة المطلقة.

فيما تشير الفكرة الثالثة إلى قيام “سي آي إيه” بعملية التدريب مباشرة، وربما فكرت الخارجية ببرامج تدريب مع السعودية لو تم التوصل إلى ضمانات عملية، حيث تشرف دينكورب أو شركة تعهدات أمريكية أخرى على البرنامج.

وتخشى واشنطن من أنه لو لم تقدم الدعم لتحديث المخابرات السعودية فربما بحثت الأخيرة عن تدريب من دولة أخرى. وسيؤدي هذا إلى عرقلة التعاون الأمني التقليدي بين الولايات المتحدة والسعودية، وهو ما تريد واشنطن تجنبه.

ودعا إغناطيوس في نهاية مقالته إلى أهمية إعادة ترتيب العلاقة الأمنية الأمريكية-السعودية، والطريق الوحيدة لإعادة الثقة فيها هي بناء نظام محاسبة وتحكم يمنع الانتهاكات، وختم بالقول: “يذكرنا برنامج تدريب رئاسة الاستخبارات العامة السعودية بما حدث في المملكة من تحول للأسوأ، ومقتل خاشقجي، والحاجة الماسة لإصلاحه”.